صراع أجيال وسقوط بقرات مقدسة في الصراعات الحزبية الإسرائيلية

تشهد الخارطة الحزبية في اسرائيل حالة من الغليان، وتشتد مع تقدم الايام وكثرة الحديث عن انتخابات برلمانية مبكرة، وهو أمر كان متوقعا جدا أن يحصل بعد الانتهاء من عملية اخلاء مستوطنات قطاع غزة والمستوطنات الأربع في شمال الضفة الغربية.

وتتداخل في هذه الصراعات الكثير من الأمور، فمنها الشخصية ومنها السياسية او الايديولوجية، ولكل حزب ورطته وصراعاته، وتقريبا لا يوجد حزب صهيوني واحد لا يعاني من أزمة داخلية، تأججت في الاشهر الأخيرة، وازدادت تأججا بعد اخلاء المستوطنات.

وفي نفس الوقت هناك أمور مشابهة في جذور هذه الصراعات في الأحزاب المختلفة، وفي كل حزب تظهر بحلة مختلفة، ولكنها في الجوهر متشابهة الى حد التطابق، ومن بينها اننا نشهد في هذه الاحزاب صراع الاجيال، بين "الحرس القديم"، الذي يعتبر نفسه باني اسرائيل، وبين جيل الوسط الذي لم يأخذ فرصته في الحكم، بسبب تمسك الرعيل الاول بالقيادة لعشرات السنوات، وبين الجيل الشاب الذي يرفض هذا وذاك، ويريد ان يقود نحو اسرائيل جديدة، وكذلك حركات الشبيبة اليمينية التي تعتبر نفسها مخدوعة اليوم، بعد ان لقنوها طوال سنوات لتحفظ عن ظهر قلب مصطلحات ايديولوجية وقناعات فكرية، سقطت دفعة واحدة مع تساقط بيوت المستوطنات في قطاع غزة وشمال الضفة.

وتدل المؤشرات على أن هذه الصراعات لم تبلغ مرحلة المخاض، نحو خارطة حزبية أكثر استقرارا، بل على العكس، فإن كل ما يشاع عن اصطفافات جديدة، من جهة، ورأي الشارع الذي تعكسه بعض الاستطلاعات شبه الموضوعية، من جهة أخرى، يؤكد أننا أمام مخاض لحالة عدم استقرار من نوع جديد، مرحلة قلاقل سياسية نعرف اننا في أوجها، وستكون لها ذروات أخرى، ولكن لا نرى افقا لنهايتها، وهذا سينعكس لا محالة على الأوضاع السياسية ومستقبل العملية السياسية، ولن يبقى تأثيره داخليا في اسرائيل.

صراع الأجيال

هذا الصراع يبرز بالأساس الآن في اقدم وأكبر حزبين صهيونيين، "الليكود" و"العمل"، ويتمثل في محاولة اقصاء عجوزي السياسة الاسرائيلية اريئيل شارون وشمعون بيريس، وفي كل واحد من هذين الحزبين يتستر صراع الأجيال بأغلفة سياسية او بخلاف حول المنهج وحتى بخلافات ايديولوجية.

وتدور المعركة في حزب الليكود أمام اريئيل شارون الذي اصبح في منتصف عامه الثامن والسبعين ولا يزال يصر على مواصلة تزعمه للحزب، وفي حزب العمل أمام شمعون بيريس الذي بدأ يخطو في عامه الثالث والثمانين، بعد أن أطفأ شمعته الثانية والثمانين في منتصف الشهر الماضي، آب/ اغسطس، وهو يصارع اليوم لولاية جديدة على كرسي زعامة الحزب تمتد إلى أربع سنوات، وقيادة حزبه في الانتخابات البرلمانية للوصول الى كرسي رئاسة الحكومة، صعب المنال.

وتحاول شريحة الجيل الوسط ان تأخذ مكانها، بعد ان منعتها هذه القيادات من أن تأخذ دورها السياسي، فما ان وصلت الى وضعية تسمح لها بتسلم الحكم، حتى ظهر الى جانبها جيل أكثر شبابا ويريد هو الآخر أن يأخذ فرصته، فجيل الوسط سحق أكثر في حزب "العمل"، وهناك أزمة حارقة سببها احتفاظ الجيل الأول بكرسي الزعامة، ولم يعط فرصة للجيل الذي بعده. وهذا موضوع، في ما يخص حزب "العمل تحديدا، كنا قد عالجناه في "المشهد الاسرائيلي" في الماضي، ويعود اليوم بقوة، على ضوء المنافسة التي يشهدها حزب "العمل" على رئاسة الحزب، وعلى ما يبدو فإن الأجواء تفيد ان شمعون بيريس باق في كرسيه الى أجل غير مسمى، وهذا ما يزيد من حالة التململ.

إن المشهد العام في حزب الليكود يوحي وكأن "الصراع" المعلن يدور حول مؤيدي خطة اخلاء مستوطنات قطاع غزة، وبين معارضيها، أو حتى بين اليمين المتطرف بقيادة بنيامين نتنياهو وعوزي لنداو، وبين اليمين المعتدل بقيادة أريئيل شارون، وهذه صيغة في غاية الخطورة لا تمت للواقع بصلة، فاريئيل شارون لم يقترب للاعتدال، ولا نتنياهو او لنداو أكثر منه تطرفا.

إن الخلاف السياسي الدائر اليوم في معسكر اليمين الاسرائيلي هو بين مجموعة المتطرفين التي تريد توطيد الاستيطان دون الأخذ بعين الاعتبار ضغوط الأسرة الدولية، وبين التيار الذي يقوده شارون الداعي الى تعزيز وتوسيع الاستيطان، مع ضمان صمت الأسرة الدولية، وهذا أخطر بكثير ونراه على أرض الواقع اليوم.

ولكن الى جانب هذا هناك أيضا دور لصراع الاجيال، فشارون يعتبر من أواخر الشخصيات الأولى التي تعتبر نفسها من "بناة اسرائيل"، فحقا ان شارون لم يدخل السياسة إلا في سنوات السبعين، ولكنه من شريحة الجنرالات التي برزت منذ سنوات الستين، وكان من الممكن ان يصل الى مراتب قيادية حتى نهاية سنوات الخمسين، لولا شخصيته الإشكالية في الجيش، التي منعته من الوصول الى رتبة لواء لسنوات طويلة.

ويرى شارون نفسه من الشخصيات التي لها دور أساسي في توطيد ركائز اسرائيل الحربية، وليس صدفة ان أحد الألقاب التي تطلق عليه هو "بلدوزر الاستيطان"، فهو من أكبر المبادرين لانتشار الاستيطان في الضفة الغربية وقطاع غزة وهضبة الجولان منذ أوائل سنوات السبعين، وحتى نهاية سنوات التسعين.

إن شارون يرى بنفسه كمن له الحق بالتوجه الى الشارع الاسرائيلي كأحد بناة اسرائيل، وانه وصل الى السياسة بعد ان عمل في الميدان، ويهاجم منافسيه، من امثال نتنياهو، على أنهم وصلوا إلى السياسة عبر المنابر السياسية وليس من خلال العمل، وبنفس الوقت فإن معارضيه يتهمونه بأنه هو نفسه هدم ما بناه، في محاولة لسحب بساط ماضيه من تحته.

إن جيل الوسط في الليكود لم يبرز كما هي الحال في حزب "العمل"، فالليكود كان حتى العام 1977 حزب حيروت الأيديولوجي العقائدي المتشدد، سيطر على زعامته منذ العام 1948 وحتى العام 1983 شخص واحد، هو مناحيم بيغن، واستمر في زعامته حين تحول الى الليكود في العام 1977، وبعد مغادرته الحلبة السياسية واصل زميله في قيادة الحزب يتسحاق شمير الذي منع حتى العام 1992 وصول شخصيات أخرى وصلت متأخرة الى الحزب مثل دافيد ليفي واريئيل شارون وغيرهما، وانتقل دفعة واحدة الى "الشاب" بنيامين نتنياهو ابن الخامسة والاربعين، بدلا من شمير الذي كان ابن الثامنة والسبعين في ذلك العام، وسرعان ما سجل نتنياهو خسارة فادحة للحزب بعد عودته الى الحكم بثلاث سنوات، لتعود دفة القيادة الى "البناة القدامى"، إلى أريئيل شارون.

ومن اسباب عدم ظهور اسماء منافسة أخرى لشارون في الليكود هو ان نتنياهو لم يفكك في أي يوم طواقمه الخاصة والقوية التي تعمل لأجله، ولديه قاعدة تنظيمية وتغلغل سلطوي واعلامي يجعل الوقوف امامه، من حديثي العهد، امرا صعبا، حتى حين يجري الحديث عن شخصيات لها مكانتها، مثل وزير الدفاع شاؤول موفاز، او القائم باعمال رئيس الحكومة، الوزير ايهود اولمرت.

أما في حزب "العمل" فإن شريحة الجيل الوسط هي اكبر، فاليوم ينافس بيريس على زعامة الحزب اربعة مرشحين، وقد يقررون في النهاية التنازل عن المنافسة وتتويج بيريس "زعيما الى الابد"! ولكن الى جانب الاربعة هناك من قادة الحزب من نافسوا سابقا على زعامة الحزب وقرروا التنحي في هذه المرحلة، نظرا لتعقد الأمور. فاليوم ينافس بيريس كل من إيهود باراك وعمير بيرتس ومتان فلنائي وبنيامين بن اليعيزر، ولكن في الماضي رأينا في حلبة المنافسة اسماء مثل عمرام متسناع وابراهام بورغ وافرايم سنيه، حتى أن حاييم رامون حاول وانسحب بسرعة.

وهذه الشريحة ستقرر في هذه المرحلة، على مضض، "التنازل" لشمعون بيريس، لأنها تدرك ان الأمل في عودة الحزب الى الحكم هو ضعيف للغاية، ولا تريد أي من هذه الشخصيات ان تنكوي بتجربة عمرام متسناع الذي تزعم الحزب في الانتخابات البرلمانية قبل ثلاثة اشهر من الانتخابات، ومني الحزب بهزيمة قاسية نسبت له واضطر لتحمل المسؤولية والتنحي، على الرغم من ان هزيمة الحزب لم يكن سببها متسناع وانما نهج الحزب نفسه.

ما هو مضمون اليوم انه بعد الانتخابات البرلمانية القادمة، التي قد تجري في الربيع القادم، سنواصل رؤية الرعيل الاول ولكن مكانته ليست مضمونة بعد، ومن السابق لأوانه جدا المراهنة على هذه المكانة.

وبالامكان، منذ الآن، تحديد ان الرعيل الأول في الحلبة السياسية سيفوز في معركة البقاء، ولن يبقى امام الجيل الوسط والاجيال الشابة سوى انتظار القدر المحتوم.

سقوط بقرات مقدسة

من الطبيعي ان التحليل العميق لحالة الخارطة الحزبية في اسرائيل يبقى ابعد من الصعيد الشخصي، فعلى الرغم من انه لا يمكن تجاهل العامل الشخصي في الحياة السياسية في اسرائيل، إلا ان العامل الايديولوجي يبقى الأهم.

من الضروري الاشارة هنا الى انه على صعيد الأحزاب الصهيونية لم يبق سوى حزب صهيوني ايديولوجي واحد، يتحرك بموجب ايديولوجيته وعقائده، وهو حزب المفدال الديني الصهيوني، فحزب "العمل" تخلى منذ زمن طويل عن "الاشتراكية الدولية" التي لا يزال عضوا فيها، وكذلك الأمر حزب "مبام" الذي حلّ نفسه وانخرط في حركة ميرتس، كما ان حزب "حيروت"، الذي جعل من افكار مؤسسه الاول جابوتنسكي ايديولوجيا له لم يعد يسير وفق قوالب معينة، معروفة سلفا، وحتى الصهيونية كمفهوم وايديولوجيا لم تعد كما كانت، ولا يوجد فكر صهيوني واحد، فهناك يسار يسير في اتجاه معين معلنا انه يريد انقاذ الصهيونية، وهناك يمين متشدد متطرف يعلن انه الوصي على انقاذ الصهيونية.

إن ما جرى في السنوات الأخيرة، ولنقل بالأساس حينما بدأت تدرك اسرائيل أن عليها التوجه الى مفاوضات ستؤدي حتما الى انسحاب من أراض محتلة، يؤكد أنه بدأت تهتز عدة بقرات مقدسة لم يكن خلاف عليها سابقا في الرأي العام الاسرائيلي. وأولى هذه البقرات بدعة "ارض بلا شعب لشعب بلا ارض"، وتليها بشكل مكمل بدعة "ارض اسرائيل الكاملة"، ومن ثم فكرة التفوق العسكري، الذي يجعل إسرائيل حصينة في وجه أي عدو، ويساعدها على الاحتفاظ بالاراضي المحتلة.

وقد بدأ هذا السقوط بالأساس مع توقيع اتفاقيات اوسلو والاعتراف بوجود منظمة التحرير الفلسطينية، باسمها، والتوقيع معها على اتفاقيات، فمعارضة اليمين سقطت فورا مع عودته الى الحكم في العام 1996. صحيح أن اوسلو لم تبق على حالها، وان التقدم في العملية لم يكن وفق البرنامج ولكن المسار في أساسه قلب الكثير من البرامج السياسية وموازين القوى في اسرائيل.

وأكثر من ذلك، فإن انهيار بدعة "ارض اسرائيل الكاملة" باتت تدركه قوى اليمين المتطرف. لنأخذ مثلا الوزير العنصري السابق افيغدور ليبرمان، الذي يحاول تسويق برنامج سياسي عنصري مبني على أساس تبادل سكاني من خلال نقل تجمعات سكانية عربية مخنوقة الى دولة فلسطين العتيدة وضم جميع المستوطنات مع مساحاتها الشاسعة لاسرائيل، فعلى الرغم من عنصرية وعدم واقعية هذا البرنامج، ولكنه ينطوي على مؤشر لم نكن نتوقعه من عقلية عنصرية كهذه، وهو ان البرنامج في المحصلة يعترف بوجود كيانين على ما يسمى بـ "ارض اسرائيل الكاملة".

إن الامتحان "الصعب"، من ناحية اليمين المتطرف، كان في عملية اخلاء المستوطنات، فقد أوهم قادة المستوطنين، وبشكل خاص المتدينين الصهاينة، انصارهم في الحركات الشبابية ان الصلوات الى جانب كون المشروع يتناقض مع الدين سيفشل عملية الاخلاء، وفجأة انهار كل شيء خلال خمسة او ستة أيام، في مسرحية اعلامية مبرمجة.

وعلى الرغم من انها مسرحية، إلا أنها تركت أثرا كبيرا عند جيل الأحداث والشبيبة، وهم يسألون اليوم، أين وعودكم؟. وهذا نقاش بدأ يظهر في وسائل الاعلام الاسرائيلية، وعلى ما يبدو سيكون له أثر آخر.

وليس من المستبعد ان نشهد في الأشهر القادمة اصطفافا شبابيا يمينيا من الذين خاب أملهم، قد يعاقب القيادات التقليدية لليمين واليمين المتدين، ويزيد ايضا من حالة التشتت التي يشهدها اليمين ايضا أسوة بباقي أطراف الخارطة السياسية.

إن ما تقدم ينعكس في حالة البلبلة لدى الجمهور الاسرائيلي، وهذا ما يظهر في استطلاعات الرأي، التي غالبا ما نرى فيها تناقضات تؤكد ان الجمهور لا يعرف بالضبط ما هو المخرج السياسي الذي "يقوده للخلاص والاستقرار". وهذا أيضا بسبب غياب برنامج سياسي واضح لدى الأحزاب الكبيرة، ولعدم قناعة هذا الجمهور بالبرامج السياسية لدى الأحزاب الصغيرة، من اقصى اليمين الى أقصى اليسار الصهيوني.