الكنيست يسجل رقما قياسيا بالانشقاقات في فترة قصيرة

اختتم رئيس الحكومة الاسرائيلية، اريئيل شارون، الاسبوع الماضي بجلسة مصالحة بينه وبين وزير المالية بنيامين نتنياهو، وتم اللقاء في بيت الأول، وشاركه نتنياهو في حفل احياء ذكرى زوجته الراحلة ليلي. وأعلن الناطقون باسم الاثنين، ان كلا منهما قرر فتح صفحة جديدة في العلاقات، ووقف التناحر بينهما.

توجد ملاحظتان على هذا المشهد: الأولى هي أن صفحات العلاقات العامة في الحلبة السياسية الاسرائيلية هي لا أكبر من صفحات أصغر دفاتر الملاحظات، بمعنى ان هذه الصفحة الجديدة من الصعب ان تصمد لبضعة أيام أو أسابيع قليلة جدا. والأمر الثاني أن العناق الذي شهدناه بين الاثنين لم يكن سوى "عناق دببة".

ولربما أن الاثنين توصلا الى قرار حقيقي كهذا فكلاهما عاش أصعب ستة أشهر في هذه الحكومة، وكل واحد منهما تمترس في زاويته، وحصّن معسكره في الحزب، ويريدان الآن استراحة قليلة مستفيدين من عطلة الكنيست (البرلمان) التي بدأت مع مطلع الشهر الحالي وتستمر حتى منتصف شهر أيار القادم. ولكنها فترة استراحة لإعادة تنظيم بيت كل واحد منهما، استعدادا للمنافسة الكبرى بينهما على زعامة حزب الليكود، هذا الحزب المقبل على الانشقاق المؤكد. والسؤال المتبقي من كل هذا، هو حجم هذا الانشقاق، ليس فقط على صعيد مؤسسات الحزب وانما بالاساس على صعيد القواعد الشعبية وكمية الاصوات في الانتخابات القادمة.

ما هو مؤكد ان واحدة من المعارك الاساسية لاريئيل شارون التي سنشهدها في الاشهر القادمة ستكون معركته للحفاظ على تزعمه للحزب، أمام نتنياهو.

شارون ينهي دورة صاخبة

منذ أن بدأت الدورة البرلمانية الشتوية في شهر تشرين الأول الماضي، كان من الواضح ان امام شارون اصعب المهمات. فقد كان عليه ان يقر خطة الفصل القاضية باخلاء مستوطنات قطاع غزة ومحاصرته من البحر والبر والجو، واربع مستوطنات صغيرة في شمال الضفة الغربية مع استمرار احتلال تلك المنطقة.

ثم كان عليه ان يقر ميزانية اسرائيل للعام الحالي 2005، ولاحقا واجه مسألة فرض الاستفتاء الشعبي حول خطة الفصل. كما كان واضحا ان شارون سيجتاز هذه القضايا، ولكن شيئا ما لا بد وان يحصل. في عدد "المشهد الاسرائيلي"، الصادر يوم 19 تشرين الأول/ اكتوبر الماضي، قبل ايام من افتتاح الدورة البرلمانية الشتوية في اسرائيل، نشر كاتب هذه المعالجة مقالا تحت عنوان "دورة برلمانية اسرائيلية جديدة لن تنتهي كما بدأت"، واختتمه بالسطور التالية: "على اي حال بالامكان التلخيص انه لا يمكن لهذه الدورة البرلمانية ان تنتهي في الربيع القادم كما ستبدأها في الاسبوع القادم، ولا شك اننا مقبلون على نوع من التغيير الملموس على الخارطتين البرلمانية والحزبية، وسيكون لهذا انعكاس هام على السياسة الاسرائيلية من الصعب تحديده منذ الآن، خاصة وان الكثير من المؤثرات المحلية والاقليمية والعالمية ستلعب دورا في المجريات على الحلبة الاسرائيلية الداخلية".

وهذا ما نجده على ارض الواقع اليوم، فخلال ستة اشهر حدث انشقاق في ثلاث كتل برلمانية والرابعة على وشك التعرض لذلك. وهذا رقم قياسي للكنيست في فترة قصيرة الى هذا الحد، كما ان شارون احدث انقلابا في حكومته، ولكنه بقي متربعًا على سدّة ائتلاف حكومي هش.

خلال الأشهر الستة حدث انشقاق في حزب المتدينين القوميين "المفدال"، وأصبحت كتلته البرلمانية من كتلتين، واحدة تضم نائبين احدهما رئيس الحزب السابق ايفي ايتام، والكتلة الثانية تضم اربعة نواب. كما حدث انشقاق في كتلة "هئيحود هليئومي" بزعامة افيغدور ليبرمان، على خلفية البرنامج السياسي الجديد لليبرمان الذي يعترف فيه بضرورة وجود دولتين على "ارض اسرائيل الكاملة"، وإن كان برنامجه عنصريا. والآن هناك كتلتان، الأولى تضم اربعة نواب من جناح ليبرمان الذي استقال من عضوية الكنيست وبقي زعيما سياسيا، كما أن نائبا واحدا من الاربعة، هو ميخائيل نودلمان، متمرد على كتلته ويصوت الى جانب الحكومة. والكتلة الثانية تضم ثلاثة نواب، في اساسها حزب الترانسفير (موليدت) الذي كان يتزعمه الوزير الاسبق رحبعام زئيفي.

كما انشقت كتلة "يهدوت هتوراة" التي كانت تضم خمسة نواب، على خلفية الموقف من الحكومة الحالية، وعلى الرغم من ان الكتلتين تدخلان في اطار الائتلاف الحاكم.

أما على صعيد حزب "الليكود" فإن الانشقاق ليس معلنا ولكنه تحصيل حاصل، فإن مجموعة المتمردين على شارون في كتلة الليكود، التي تضم 13 نائبا، تصوت ضد الحكومة وتمارس عملها كمعارضة في الكنيست، إن كان في اللجان البرلمانية او في الهيئة العامة، وصوت اعضاؤها ضد ميزانية الدولة، وهذا عمليا تصويت ضد كل مجمل السياسة الحكومية.

وعلى صعيد الحكومة فقد ابعد شارون حزب "شينوي" وضم اليه حزب "العمل" وكتلتي "يهدوت هتوراة". وليس هذا فحسب بل نجح شارون في خلق بلبلة في الكتل البرلمانية وأحدث فيها تصدعات ونقاشات حادة داخلية فيها، مثلما حدث في كتلة "ياحد- ميرتس" اليسارية الصهيونية حول الموقف من الحكومة بزعم انها متوجهة الى خطة الفصل، والأمر نفسه حدث في حزب شينوي، كما انه على صعيد الكتل الثلاث الفاعلة بين العرب في اسرائيل نشأ خلاف حاد، إذ اختارت القائمة الموحدة التي تضم نائبين دعم الحكومة من خلال التأييد والامتناع في التصويتات المصيرية، فيما عارضت هذا الموقف كتلتا "الجبهة الديمقراطية والعربية للتغير" و"التجمع الوطني الديمقراطي".

أما على الصعيد السياسي فإن التغيرات على الساحة الفلسطينية من جهة، واستفحال أزمة الولايات المتحدة في العراق من ناحية أخرى، انعكسا على مجريات الحركة السياسية الرسمية في اسرائيل.

تقلبات متسارعة تعبيرا عن أزمة

السبب الرئيسي لهذه التقلبات المتسارعة على الحلبتين الحزبية والسياسية الاسرائيلية يعود الى وقوف اسرائيل في مفترق طرق عاصف من جميع الاتجاهات، تواجه فيه اسرائيل اسئلة مصيرية كانت قد بنت نفسها عليها، ومن اهمها انهيار بدعة "ارض اسرائيل الكاملة"، وهذا الانهيار بدأ في مسار اوسلو، ولكنه في كل مرحلة كان يجرف معه قوى سياسية اسرائيلية جديدة، الى ان وصل الأمر الى اوكار التطرف والفاشية، ونورد هنا افيغدور ليبرمان وبرنامجه السابق ذكره كمثل.

كما بدأت اسرائيل مسار التوجه الى "الأزمة الديمغرافية" الجدية من ناحيتها، هذه الأزمة التي نجحت في تجميدها وابعادها لفترة 12 عاما، منذ العام 1990 وحتى العام 2001، والآن انهارت موجات الهجرة، ولم يعد عدد المهاجرين اليهود يسد الفجوة المتنامية بين الزيادة السكانية العربية في اسرائيل وبين اليهود الاسرائيليين.

وطبعا هذا الى جانب استمرار القلاقل الامنية وعدم الاستقرار، وانعكاس هذا على هروب السكان ورؤوس الاموال الاجنبية وحتى المحلية.

ولهذا فإننا نرى ان الأزمة مستفحلة في الاحزاب الصهيونية العقائدية والتاريخية في اسرائيل. وفي كل واحد من هذه الاحزاب هناك "النواة الصلبة"، التي غالبا تكون من الذين تربوا على "مبادىء" الحزب منذ سنوات، وتنضم اليها مجموعات المستوطنين والمتطرفين. مشهد كهذا نراه في حزب الليكود، مثلا، حيث يقف على رأس النواة الصلبة عوزي لنداو، وسبقه في هذا الموقف نجل رئيس الحكومة الاسبق مناحيم بيغين، بنيامين بيغن، وكلاهما تربى على مبادىء حزب "حيروت" اليميني المتشدد، ولكن لنداو اليوم هو اقلية، إذ ان غالبية المحيطين به هم من المستوطنين وانصارهم.

والمشهد ذاته نراه في حزب "المفدال"، هذا الحزب الديني اليميني المتشدد سياسيا. فعلى الرغم من تشدده إلا انه على مدى السنوات الـ 56 الماضية ابدى نوعا من الليونة النسبية في التعامل مع الساحة السياسية الاسرائيلية، ولكن في السنوات الأخيرة غرق بالمستوطنين والمتطرفين الذين شدوه الى مواقف اكثر تشددا، وهذا ما قاد الى الانقسام في الحزب.

ومن المؤكد ان هذا الصراع في هذه الاحزاب بالذات سيتصاعد في الفترة المقبلة، وكلما اقترب موعد تطبيق خطة الفصل. فهذه الخطة، وعلى الرغم من اخطارها على مستقبل القضية الفلسطينية لما تحمله في طياتها من مشاريع استيطانية رهيبة في الضفة الغربية، إلا انها ستكون سببا لتقاطب آخر في الساحة الحزبية في إسرائيل. وبالإمكان القول، منذ الآن، ان شكل الانتخابات البرلمانية القادمة سيكون مختلفا عن اي انتخابات سابقة، فالتغيير يحصل في كل انتخابات، ولكن المقصود هنا هو ان التغيير في هذه المرّة سيكون في المشهد التقليدي للخارطة الحزبية الاسرائيلية، وستكون اصطفافات جديدة.

أوصد ابواب الحكومة والانتخابات المبكرة واردة

توقع المعلق السياسي في القناة الثانية لاذاعة صوت اسرائيل، حنان كريستال، غداة الاتفاق بين شارون وكتلة "شينوي" المعارضة، بزعامة يوسيف لبيد، لتدعم الميزانية، بأن اريئيل شارون وبعد تطبيق خطة الفصل في غزة، "سينفصل عن حكومته الحالية، وسيعيد تشكيل حكومة جديدة يضم فيها شينوي والمفدال". وليس من المعروف على ماذا يعتمد كريستال، الذي هو ايضا معلق رياضي ويشعرك أحيانا انه يمزج في تعليقاته بين الرياضة والسياسة، بمعنى انه يعرض لك الحكومة كملعب كرة قدم، والعكس بالعكس. ولكن الواقع السياسي يثبت أمرا آخر، وهو ان شارون يوصد ابواب حكومته، واي اتجاه جديد سيكون نحو الانتخابات المبكرة.

فبعد 12 ساعة من إقرار الكنيست للميزانية، وهو القرار الذي حاول شارون الحصول عبره على مدى ثلاثة اشهر، توجه ثانية الى الكنيست طالبا منه ان يقر له ضم ثلاثة وزراء جدد، اثنان من الليكود، وخمسة نواب وزراء ايضا من الليكود، وجميعهم من انصاره في الحزب. ولكن شارون نجح في ضم نواب الوزراء، وفشل في ضم الوزراء لأن الأمر يحتاج الى قرار في الكنيست فشل في الحصول عليه، حاليا، وقرر التوجه مرة ثانية لاقراره.

من الناحية الرقمية سيصبح في حكومة شارون 23 وزيرا وما بين ثمانية الى تسعة نواب وزراء، وقد وزّع شارون جميع الحقائب الاساسية المعلقة التي كانت تنتظر وزراء لها، وفي هذه الحالة فعلى المدى القصير ليس بوسعه ان يفاوض "شينوي"، مثلا، على ضمها الى الحكومة لأنه ليس لديه ما يعرضه عليها، خاصة وان شارون ليس بامكانه ان يبعد وزراء ونواب وزراء من الليكود عن الحكومة، فغالبية هؤلاء من انصاره، كما انه لن يبحث عن قلاقل جديدة في داخل حزبه المتأزم.

المسار الوحيد الذي امام شارون هو اخراج حزب "العمل" من الحكومة. ولكن لا يوجد لدى شارون بديل بنفس الحجم، 19 نائبا بالاضافة الى نائبي احتياط، فبعد ان يطبق خطة الفصل سيزيد التباعد بين هذه الحكومة واحزاب اليمين.

كما ان حزب "العمل" ليس مضمونا ان يبقى في الحكومة بعد تطبيق خطة الفصل، وهناك الكثير من التوقعات التي تشير الى انه سيترك الحكومة لدى البدء في اعداد الحكومة لميزانية العام 2006، ولكن قرار حزب "العمل" منوط ايضا بجاهزية الحزب لخوض انتخابات مبكرة، وهذا الأمر يبدأ حسمه بعد شهر حزيران/ يونيو المقبل حين ينتهي هذا الحزب من انتخاب رئيس جديد ثابت له، هو الأول منذ شتاء العام 2001.

معارك شارون المقبلة

عمليا، وخلال الاشهر القادمة فإن لشارون معركتين اساسيتين، بعد ان حسم الثالثة مرحليا لصالحه، وهي معركته امام الكنيست. فبعد أن اقر الميزانية واسقط مشروع فرض استفتاء شعبي، لم يعد اي مشروع يهدد بقاء حكومة شارون حتى تطبيق خطة الفصل. الآن لدى شارون شهر ونصف الشهر عطلة برلمانية، يعود فيها الكنيست للعمل شهرين ونصف الشهر، ثم يخرج لعطلة صيفية تدوم ثلاثة اشهر.

ولهذا فإن المعركتين الباقيتين هما، امام المستوطنين وقوى اليمين، والثانية معركة الانشقاق في الليكود.

المعركة أمام المستوطنين من المتوقع ان تشتد من ناحية نوعية واساليب النشاط، ولكنها على الصعيد الشعبي تضيق ورويدا رويدا تنحصر بالاساس في جمهور المستوطنين، الذي سيشكل الغالبية الساحقة لجمهور "المقاومين" لخطة الفصل. وحتى في هذا الجمهور هناك تصدعات واختلافات في اسلوب العمل "الاحتجاجي"، إذ تكاثرت الاصوات الصادرة عن قادة المستوطنين التي تتحفظ من قوى ارهابية يهودية "صغيرة" تستعد لتنفيذ عمليات ارهابية بما فيها استخدام السلاح.

كما انه كثرت الاصوات بين المستوطنين التي تنادي بزيادة التعويضات مقابل الانسحاب بهدوء. ولكن في كل الأحوال يبدو أن المشهد الأخير للاخلاء سيكون "عنيفا"، وهو مشهد يريده شارون ليقول للعالم: "إذا كان إخلاء مستوطنات صغيرة بالكاد تضم تسعة آلاف مستوطن أدى إلى هذه المواجهات، فكيف ستكون الأوضاع في حال طُلب من اسرائيل اخلاء مستوطنات أكبر في الضفة الغربية".

لكن شارون في المقابل يريد "مقاومة" ضمن ضوابط معينة، تضمن "هيبة" اسرائيل، كدولة سيادية لديها اجهزتها.

أما على صعيد معركته امام حزب الليكود، فنعود الى ما بدأنا به، وهي المعركة بينه وبين نتنياهو. على صعيد المتمردين عليه بات من الصعب الى درجة المستحيل ان تبقى هذه المجموعة في الحزب في الانتخابات القادمة، وشارون معني بهذا، ولكنه معني بالاساس ان تخرج معهم قوى يمينية متطرفة تسللت الى صفوف الحزب للتأثير عليه من الداخل، ولكنها لم تصوت له في الانتخابات البرلمانية الماضية، وصوتت لاحزاب اكثر يمينية وتشددا، وهذه معطيات اثبتتها احصائيات ودراسات، بادر لبعضها حزب الليكود نفسه.

في المقابل فإن نتنياهو ليس معنيا بالضبط بخروج هذه الكوادر لأنه يبني زعامته عليها، على الرغم من ان دعمها له ليس مضمونا بسبب تقلباته الكثيرة بين المواقف المتناقضة، خاصة في ما يتعلق بخطة الفصل. كما أن نتنياهو يعرف ان معركته على زعامة الحزب ليست بالأمر السهل، إذ سيواجه مشكلة الاستطلاعات العامة على مستوى البلاد كلها، التي لا تزال وستبقى تعطي شارون افضلية على نتنياهو، كون ان شارون، وبرؤية اسرائيلية، قد "أقدم على ما لم يستطع اي رئيس حكومة غيره ان يفعل"، وهو الانسحاب من غزة وفي الوقت نفسه تعزيز الاستيطان في الضفة الغربية والقدس وهضبة الجولان السورية المحتلة و"إجبار" العالم على دعم خطة شارون.

لهذا فإن نتنياهو لن يقف مكتوف الايدي، ولن يجلس كالتلميذ المطيع، الذي ينتظر نهاية الدوام ليفعل ما بدا له. إن نتنياهو مضطر لافتعال الأزمات مع شارون وتوتير الاجواء معه، إذا اراد ان يتميز عنه وأن ينافسه على زعامة الحزب، وليس امام نتنياهو سوى ان يناطح شارون من ناحية اليمين.

أما الصفحة الجديدة بين الاثنين التي ذكرناها في بداية هذه المعالجة، فستتمزق في ضوء ما تقدّم تحت الأرجل ولن يعينها "عناق الدببة" الحالي بين شارون ونتنياهو.