الانسحاب السوري من لبنان في رؤية إسرائيل التكتيكية والإستراتيجية

عمد وزير الخارجية الإسرائيلي سيلفان شالوم الى التفاخر بأولوية الدعوة الى إخراج القوات السورية من لبنان. وهرع مستشار وزير الدفاع الاسرائيلي اوري لوبراني الى الصحافيين لإبلاغهم بالرسائل التي تصل من شخصيات لبنانية. وتبرع نائب رئيس الحكومة الإسرائيلية شمعون بيريس، صاحب فكرة الشرق الاوسط الجديد، بالحديث عن فرص السلام مع لبنان. وبين هذا وذاك تحدث اسرائيليون كثيرون من رئيس الحكومة اريئيل شارون الى اصغر ضباط الجيش الاسرائيلي عن المصلحة الاسرائيلية في لبنان.

ولكن في الوقت الذي أكثر فيه القادة الاسرائيليون من استخدام تعابير الحرية والديمقراطية والاستقلال كانت المصلحة الاسرائيلية تنقسم في الواقع بين اتجاهين: الاول تكتيكي والثاني استراتيجي. وعلى الصعيد التكتيكي رأت اسرائيل أن الضغط الأميركي خصوصا والدولي عموما المركز الآن على سوريا بشأن لبنان يضعف مكانة سوريا الإقليمية والدولية. وهذا يقود الى إغفال العالم الاحتلال الإسرائيلي وانتقال الاهتمام بهذا الموضوع الى مكانة ثانوية مقارنة بالموضوع السوري الساخن. وفضلا عن ذلك ترى اسرائيل أن اضعاف سوريا يقود بالضرورة الى انتقال حزب الله من موقع قوة تحظى بـ"اجماع" لبناني الى قوة موضع اختلاف لبناني شديد.
ومن المؤكد ان الدوافع التكتيكية الاسرائيلية وراء كل هذا التركيز على الموضوع الذي تباهى شالوم بأنه قبل أكثر من عام دعا اليه، تريد إخفاء الحرج الاسرائيلي من الوضع الفلسطيني. فقد وصل الى الحكم في السلطة الفلسطينية شخص لا تستطيع اسرائيل ادعاء انه من جناح "الرفض الفلسطيني". كما أنه، وحتى وقت قصير، كانت الولايات المتحدة واسرائيل تضعان الرئيس محمود عباس (ابو مازن) في موضع "البديل المقبول" للرئيس الراحل ياسر عرفات. ولم تصدر عن ابو مازن أية إشارات تدفع أحدا للاعتقاد بإمكانية اتهامه. ويعرف الجميع ان ابو مازن يطالب، وفقا للشرعية الدولية، بحل شامل للقضية الفلسطينية.

واسرائيل ليست جاهزة لذلك، ولهذا الغرض، فإنها معنية، حتى بحجة الدفاع عن حكومة ابو مازن والسلطة الفلسطينية أن تتوجه الأنظار نحو سوريا وحزب الله. وهي تعمل قدر استطاعتها على ان يكون انشغال العالم بهذه القضية لفترة طويلة قدر الإمكان. ففي هذا الانشغال مصلحة واسعة لإسرائيل. وليس أدل على ذلك من إعلان اسرائيل انها لا تطالب فقط بانسحاب القوات والاستخبارات السورية من لبنان وإنما تطالب كذلك بسحب الحرس الثوري الايراني.

واذا كان الوجود العسكري السوري محددا ويمكن قياسه فان من المستحيل قياس وجود الحرس الثوري الايراني، وهو وجود يخضع لتضخيم مقصود. غير أن الأهم من ذلك أن انسحاب القوات السورية يفتح الباب أمام اسرائيل للمطالبة بنوع آخر من الانسحاب. وهذا ما أفصح عنه شمعون بيريس أخيرًا في حديثه عن وجوب إنهاء نوعين من الاحتلال: الاحتلال الأجنبي وهو المعروف، والاحتلال الداخلي والمقصود به حزب الله.

ومن المؤكد أن لاسرائيل أهدافا تكتيكية أخرى. غير أن الحديث عن الأهداف الاستراتيجية أيضا يطول، ولكن ما يهم اسرائيل أكثر من أي شيء آخر هو تأكيد انتصار الإرادة الأميركية في المنطقة من ناحية وتعزيز عوامل المواجهة الأميركية السورية. وهنا لا بد من الإشارة الى أن الخطة الأميركية لغزو العراق كانت في نظر اسرائيل مقدمة لتحقيق نظرية "دومينو" جديدة. فسقوط النظام العراقي، حتى وان أنهى ما كان يسمى بالجبهة الشرقية، لا يمكن له أن يحدث الأثر الاستراتيجي المطلوب من دون إكماله بإسقاط النظامين الإيراني والسوري.

وفي الوقت الذي تلعب فيه اسرائيل دورا مركزيا في التحريض الدولي ضد إيران من خلال التركيز على الخطر النووي، لعبت هذا الدور أيضا ضد سوريا من خلال الموضوع اللبناني والعراقي والفلسطيني. ويمكن القول دون مبالغة انه في الوقت الذي يتلعثم فيه الإسرائيليون والأميركيون عند الحديث عن الدور السوري في كل من العراق وفلسطين، نجد أن الحال في لبنان يختلف عن ذلك. وقد اعترف الرئيس بشار الاسد بأخطاء جوهرية سورية في التعاطي مع الشأن اللبناني بصورة أضرت ليس فقط بالعلاقات اللبنانية السورية، وإنما كذلك بمصالح سوريا. فلا شيء يريح اسرائيل أكثر من نشوء شرخ في العلاقات السورية مع دول الطوق، وخصوصا مع لبنان. وإذا أخذنا في الحسبان أن واحدا من أعمدة الإستراتيجية السورية في العقود الأخيرة هو تلازم المسارين السوري واللبناني، فان النجاح في فك عرى هذا التلازم يحقق لإسرائيل هدفا استراتيجيا. فقد كان هذا التلازم واحدا من مقومات النصر الذي حققته المقاومة اللبنانية بطرد الاحتلال الإسرائيلي من الجنوب.

وعموما، فإن الانسحاب السوري من لبنان يضع الإسرائيليين أمام وضع جديد يتراوح بين البهجة والشماتة من جهة والقلق من جهة أخرى. فقد كانت إسرائيل تحسب سوريا في لبنان "الطرف الثالث" الذي يمكنه ضبط الوضع هناك. وإذا أفلحت سوريا سياسيا وفعليا في المحافظة على نفسها في موقع الممانعة للمشروع الأميركي، فان الانسحاب السوري من لبنان يجعل من بهجة إسرائيل مؤقتة، ويزيد من قلقها.