خطة الفصل أخفت الاضطرابات الكبرى

أخفى تركيز الأنظار على خطة الفصل ومظاهر التأييد والاعتراض عليها، الكثير من عوامل الاحتقان السياسية والاجتماعية في إسرائيل. وبدا للحظة أن جميع الناس في إسرائيل نسوا همومهم وتفرغوا فقط لإبداء الرأي في خطة الفصل. ولكن الأمور في الواقع كانت خلاف ذلك.

فالحلبة السياسية الإسرائيلية بجميع مكوناتها كانت تغلي تحت هذا المظهر المضلل. وتدل على ذلك حقيقة ما يجري في حزب العمل وما يجري بعيدا عن الأنظار في الليكود وما حدث على الملأ في الكنيست إثر مناقشة قضايا الفساد الحكومي.

ويشير بن كسبيت في مقالته في "معاريف" إلى ما يجري في كل من الليكود والعمل وإلى استمرار العمل بعيدا عن الأضواء لتحقيق نظرية "الطوفان الكبير". ومعروف أن سيناريو الطوفان الكبير الذي يقوده حاييم رامون من حزب العمل وإيهود أولمرت من الليكود وبرعاية كل من أرييل شارون وشمعون بيريس يدعو إلى تجاوز الأطر الحزبية القائمة. وفي نظر هؤلاء فإن اجتماع خط الوسط من أنصار الليكود والعمل المؤيدين لخطة الفصل والجدار الفاصل يمكنهم خوض انتخابات على أنقاض العمل والليكود سويا والحصول على ما يقارب ثلث مقاعد الكنيست.

ورغم أن كثيرين رأوا في سيناريو "الطوفان الكبير" عند كشف النقاب عنه قبل عام ونصف مجرد تلويح بشق العمل والليكود فإن استمرار الحديث عنه يعني أنه ليس مجرد تكتيك ردعي. بل هو في حقيقة الأمر تعبير صارخ عن أزمة حقيقية في المؤسسة السياسية الإسرائيلية التي فقدت منذ وقت معنى الحزب القائد. فالنظام الانتخابي الإسرائيلي، وخصوصا في ظل القانون السابق الذي أتاح انتخاب رئيس الحكومة مباشرة قضى على فكرة الحزب القائد. إذ سمح للناخبين باختيار رئيس الحكومة لأسباب سياسية والتصويت لأحزاب أخرى على خلفية عرقية أو فكرية أو مصلحية.

وقد سمح انهيار العملية التفاوضية مع الفلسطينيين ونشوب الانتفاضة لشارون بقيادة الليكود ثانية نحو احتلال مكانة الحزب القائد. ولكن ذلك ترافق مع درجة عالية من التناقض السياسي في الليكود التي جعلت الحزب في واد والقائد في واد آخر. وقد تعمقت الخشية من فقدان ميزة الحزب القائد أيضا بعد تعديل قانون انتخاب رئيس الحكومة والعودة إلى النظام القديم.

ومن الجلي الآن أن خطة الفصل ورغبة شارون في لعب دور تاريخي جعلته بعيدا عن المزاج العام ليس فقط لمركز الليكود وإنما كذلك لناخبي الليكود. وفي ظل المصاعب التي تواجهها خطة الفصل وبعيدا عن التصريحات المهدئة التي يطلقها شارون حول الخطة بسبب قدوم وزيرة الخارجية الأميركية كوندليسا رايس فإن هناك من يفكر بتأجيل بدء التنفيذ. وهناك بين المعلقين الإسرائيليين من آمن بأن شارون قد يقدم على خطوة تقديم موعد الانتخابات في ظل أزمة وزارية. وحينها من غير المستبعد أن يحسم شارون ليس فقط خياره السياسي وإنما كذلك خياره الحزبي ويعمد إما إلى تنفيذ سيناريو "الطوفان الكبير" أو يفعل شيئا قريبا من ذلك.

كما أن هناك من يعتقد أن حملة اليسار على فساد السلطة الذي بلغ مستويات عالية جدا في ظل حكومة الليكود قد يدفع شارون إلى الظهور بمظهر المدافع من جديد عن الليكود. وهناك من رأى في خطاب شارون أمام الكنيست حول موضوع الفساد نوعا من التحدي لمعارضي الفساد.

ولكن الوضع في حزب العمل وإن تشابه مع الوضع في الليكود ينطوي على معان أخرى. فللمرة الأولى منذ تشكل هذا الحزب وسياقاته الماضية يغدو أمر انتخاب زعيم شرقي له أمرا محتملا.

وصحيح أنه بعد سقوط إيهود باراك في الانتخابات جرى اختيار بنيامين بن أليعزر، اليهودي العراقي، رئيسا للحزب. غير أن قلة من الشرقيين والذين هم في غالبيتهم من يهود شمال أفريقيا رأوا فيه شرقيا. بل أن أغلبيتهم رأت في بن أليعزر امتدادا للأشكناز في صفوف الشرقيين. ولكن ليس هذا حال عمير بيرتس، الرئيس الحالي للهستدروت.

ومعروف أن بيرتس من يهود المغرب ممن عاش لفترة طويلة في سديروت على حدود قطاع غزة، كما أنه مر في بداية حياته بحركة "الفهود السود". وهذا يعني أن بيرتس هو التعبير الاجتماعي عن الشرقيين أكثر من أي شخص آخر لأنه لم يدخل السياسة من باب العسكر أو الأكاديميا وإنما من باب العمل الاجتماعي.

ورغم أنه من السابق لأوانه الحديث عن نجاح بيرتس في مواجهة كثيرين بينهم باراك وشمعون بيريس إلا أن حصوله على نسبة تأييد تصل إلى الربع تقريبا هو أمر يدل على تغييرات كبيرة.

فقد خرج بيرتس من العمل سوية مع حاييم رامون للفوز في انتخابات الهستدروت ضد مؤسسة حزب العمل ذاتها. وعاد حاييم رامون إلى قيادة الحزب قبل أن يعود إليه بيرتس مؤخرا. وها هو بيرتس يتقدم حتى على الجنرالين باراك ومتان فلنائي.

ومما لا شك فيه أن حزب العمل الذي يشهد اليوم صراعا مريرا ليس على زعامته وحسب وإنما على هويته وصورته بات الشاهد الأكبر على أزمة الأحزاب في إسرائيل. فهذا الحزب بسياقاته التاريخية لعب الدور الأكبر في إقامة الدولة اليهودية وتحديد وجهتها. ولكنه اليوم صار في موضع يعجز فيه عن ادعاء كونه البديل للحكم اليميني. وصار قادة هذا الحزب وفي مقدمتهم شمعون بيريس يرون دور الحزب أساسا في تلطيف مواقف اليمين. ويبدو أن حزب العمل الذي عجز عن التكيف مع متطلبات التغيير لم يفلح ليس فقط في تداول السلطة مع الليكود وإنما عجز كذلك عن البقاء في موقع البديل الجاهز.

فالفساد الشائع في حزب العمل يضعف دعوته للإصلاح، كما أن قيادته الدولة اليهودية عقودا يزعزع الثقة بشعاراته حول السلام. ويجري الحديث اليوم عن احتمال تأجيل الانتخابات التمهيدية المقررة في نهاية الشهر. والسبب المطروح هو التحقيق في ممارسات الفساد التي رافقت عملية تنسيب الأعضاء. وبديهي أن فاقد الشيء لا يعطيه وحزب العمل لم يعد في ذهن الإسرائيليين البديل لسياسات الليكود.