السياق السياسي للعملية الإرهابية


بعد الإعلام العبري، هناك بعض المتحدثين العرب. والفرق شاسع من حيث المنطلق، بل إنه فرق مطلق. لا حاجة للإسهاب في هذا.

المقصود هو نوع قراءة وشكل التعاطي مع العملية الإرهابية التي نفذها مستوطن كهانيّ مسلّح بسلاح عسكري رسمي في باص داخل حيّ سكني في مدينة شفاعمرو، عصر يوم الخميس.

لقد أكد كثيرون أن شكل التعامل مع العملية كـ"حادث إطلاق نار" هو أمر خطير لأنه يُخرج الحدث من سياقه الحقيقي - السياسي. والسياق السياسي ليس "ربط الحدث بقضية السلام"، كما تذمـّر البعض (بالعربية) مستخفـًّا. بل يعني رؤية الأمر فيما يتجاوز "لحظة الجنون" التي تم التحدّث عنها (بالعبرية). أي عبر النظر إليه كعملية مخططة لها دوافع سياسية وأهداف سياسية يـُراد تحقيقها.

لنتأنى قليلا:

هل يكفي القول إن الحدث/العملية الإرهابية سببه "الثقافة العنصرية ضد العرب في إسرائيل" وحسب؟ ولو صحّ ذلك، فماذا بشأن التوقيت؟ لماذا اقتـُرفت العملية الآن، وما معنى ذلك؟.

هذا السؤال عن التوقيت لا ينفي الثقافة العنصرية. بل يعتبرها البنية التحتية الأساسية أو المخزون المـُسبق للفعل الإرهابي. وهو سؤال يريد القبض على الدوافع العينيـّة. أعرف أن هناك دوافع عميقة ولكن لنترك هذا للأخصائيين في علم النفس الاجتماعي مثلا. وليت الصحفيين يقومون بدورهم ويمتنعون عن القبض بيد واحدة على كل وسائل التحليل. فإتقان كل وسيلة منها يحتاج إلى حوالي سبع سنوات من الدراسة!

لو اكتفينا بالقول إن العنصرية وحدها السبب، فذلك يعني أنها عملية بدون أهداف.. ودافعها هو الكراهية العنصرية فقط. أي ما يشبه الانتقام، أو القتل القبلي. ولكن المشكلة عند أصحاب هذا الادعاء أنهم يشطبون من خلاله معنى وأبعاد أن تكون العملية مخططة. ومعنى أن تكون مخططة هو أن مخططيها ومنفذها أرادوا نتائج محددة من خلالها. وهو ما يعطي الجريمة صفة العمل الإرهابي المنظـّم الذي لا يلقي المسؤولية على منفـّذها فحسب، بل على سلسلة من أصحاب المسؤولية، تصل حكومة إسرائيل بوصفها المسؤولة العليا عن حالة الاحتلال التي أفرزت هذه العملية أيضًا.

(2)


نحن لسنا بحاجة لكثير من الذكاء والدراية حتى نقول إن هناك عنصرية متمكنة في إسرائيل الرسمية والشعبية أيضًا. مع ذلك، فإن من يقول هذا ويضع نقطة على آخر السطر، فإنه يقوم بعملية فك ارتباط من دون أن يدري مع السياق السياسي الذي يجمع هذه الجماهير العربية بشعبها الفلسطيني وقضيته.

البعض تحدّث بشكل غاضب عن العنصرية ورفض ربط العملية بـ"فك الارتباط" والانسحاب العسكري من غزة. وهو بهذا يقول للجمهور عمليًا إن "مسألة فك الارتباط لا ترتبط بنا". ولكن لحظة: هل ترتبط خطة فك الارتباط بالشعب الفلسطيني؟ وهل نرتبط نحن بهذا الشعب؟ وهل هناك ارتباط بين الارتباطين أم لا؟

إذا كان الجواب على السؤالين هو أنه "بالطبع هناك ارتباط بين الخطة وبين هذا الشعب وهناك ارتباط بيننا نحن الجماهير العربية وبين هذا الشعب"، فيجب أن نستهجن قائلين: ماذا إذن؟
هل إن الربط بين هذه العملية الإرهابية في شفاعمرو وبين التفاعل السياسي الأوسع الذي تشكل خطة فك الارتباط أحد أبرز أحداثه الراهنة، هو ربط مرفوض لأن القضية "أكبر من فك الارتباط"؟ وهل يقزّم هذا الربط، فعلا، قضية العنصرية بحق المواطنين العرب من قبل مؤسسة "دولتهم"؟ أم أنه على العكس تمامًا: ربطٌ يقول إن العنصرية بحق هؤلاء المواطنين هي نتاج مرافق وغير مستقلّ عن الحالة السياسية التي تتمثـّل بحالة العداء والهيمنة العسكرية ومصادرة الحق السياسي للشعب الذي ينتمي إليه هؤلاء المواطنون؟!

هناك بين أصحاب التحليلات الغاضبة من يختار أن يزيح عنه التحليل السياسي الذي يضع الاحتلال في المركز، ويستبدله بتحليلات تتمحور في الـ"نحن هنا". وهو يظن أنه بهذا يتجاوز اللحظة ويوسّع الأفق يصير أبعد نظرًا!

ولكن باعتقادي أن التركيز على العنصرية بتعميم فجّ دون الخوض فيها بأدوات التحليل من حيث المنبع والتطور والعلاقة بين تفشيها وبين جهاز الاحتلال العسكري، وأيضًا: الابتعاد عن التفاعل السياسي الأوسع الذي نغوص فيه (الجماهير العربية) حتى العنق كوننا "هنا وهناك أيضـًًا"، هو تركيز يؤدي بأصحابه إلى نتائج عكسية تمامًا. وبدلا من طرح تحليل راديكالي أكثر تركيبـًا يجدون أنفسهم من حيث لا يدرون، أقرب إلى ذلك السلوك "العربي الإسرائيلي" الذي يمقتونه. وأقصد به ذلك السلوك الذي يركـز حتى النخاع في "قضية الأقلية العربية" مـُبعدًا عن نفسه الصورة السياسية الأشمل والمشكلة الأكثر تعقيدًا- وليبعد بذلك أيضًا الارتباط البديهي لقضية هذه الجماهير بقضية شعبها.

(3)


إن قطع العملية الإرهابية عن السياق السياسي باسم "التركيز على قضيتنا هنا" يتمّ تبريره أحيانًا بادّعاء أن "الإعلام العبري أيضًا يربط بين الأمرين". وبما أنه يربطها فعلينا- حسب ذلك المنطق- أن نطرح تحليلا مناقضًا. لماذا؟ هيك!

فأي تحليل هذا. وأي منطق هو ذلك الذي تعجز قدراتي العقلية عن الإحاطة به، والذي يقول إن ربط هذه العملية الإرهابية بخطة فك الارتباط (وبالتالي بمحطة راهنة ساخنة من قضية الصراع بين الشعب الفلسطيني وبين جهاز وعقلية وممارسة الاحتلال الإسرائيلية)، هو ربط يقلل من قيمة العملية ومعناها! وكأن محدودية فك الارتباط يجب أن تؤدي إلى محدودية في التعاطي معها، بدلا من العكس التام. فلأنها هكذا يجب التنبـّه إليها أكثر، وهذا يشمل التنبـّه والحذر من نوايا ومخططات وجرائم وأهداف من يرى فيها "مصيبة حلـّت بأرض إسرائيل"!

فوضع العملية الإرهابية في سياقها السياسي يشمل، بالضرورة، العام والخاص. إنه يشمل فرضية أن العداء للجماهير العربية في إسرائيل مرتبط بـِ، بل وجزء عضوي من العداء للشعب الفلسطيني وحقوقه وقضيته، وهذا هو العام. وهو يشمل الخاص أيضًا، أي التعامل العنصري، مدنيًا وداخليًا، من قبل المؤسسة الإسرائيلية تجاه المواطنين العرب وتصويرهم "خطرًا ديمغرافيًا" (لأنهم جزء من شعبهم! هذا ما تتهمنا المؤسسة الإسرائيلية به عمليـًا، ويا أهلا وسهلا بهكذا "اتهامات"!).

هذان العام والخاص ليس أنهما مرتبطان فحسب، بل إنهما جزءان عضويان لحالة واحدة مركـّبة.

وهذا التمييز بين العام والخاص ليس نابعًا من حاجة فضفاضة في التنظير (في غير وقته).. بل انه مهم كي نتمكـّن من فهم ما نراه ونسمعه بشأن سياق هذه العملية الإرهابية.

صحيح أن أريئيل شارون هو أحد المعنيين بربط العملية بمخططات إفشال فك الارتباط، خطته. نعم، لشارون مصلحة في ذلك. ولكن هل يجب أن يدفع هذا بالبعض إلى الظن أنه يتحاشى الوقوع في شرك شارون عبر القول إن لا علاقة بيننا وبين "خطة شارون"؟ هل يـُعقل أن ننفذ فك ارتباط أحادي الجانب عن الحدث الأهم الذي يمر على شعبنا؟! والمفارقة أن ذلك "التحاشي" المفترض، سيكون سقوطًا حرًا في الشّرَك الأكبر، وهو شرك تنفيذ فك ارتباط أحاديّ الجانب بين ما تعيشه الجماهير العربية في إسرائيل وبين مصير شعبها.

فحسب منطق الفصل بين ما يتهدّدنا "نحن" وبين ما يهدد شعبنا عامة، يمكن حل مشكلة العنصرية "ضدنا هنا" بمعزل عن إنهاء الاحتلال. أي بمعزل عن حل قضية شعبنا "هناك".

الطامة الكبرى أن أصحاب هذا المنطق يظهرون وكأنهم أكثر راديكالية ممن يؤكدون أن القضية الملحّة الأولى هي إنهاء الاحتلال. فهم- الأوائل - يقولون إنه "كفى لوضع المساواة بعد السلام" و"آن الأوان لنهتم بحالنا هون". وفي عمق المعنى فإنهم يقولون عمليًا: تعالوا نتركز في خصوصية حالتنا- وما هي هذه الخصوصية المحترمة سوى مواطنتنا الإسرائيلية؟!- وهكذا يتبدّى في العـُمق أن هذا الطرح غير راديكالي بالمرة. بالعكس، فهو يؤسرل الطرح المطلبي لهذه الجماهير ويساهم في بناء جدار بين قضيتها وبين قضية شعبها. ويختار في هذه اللحظات الحاسمة الزعم أن ما نتعرّض له معزول تمامًا عن محيطنا.

(بالمناسبة: كيف سيتـّهم ذلك البعض أجهزة المؤسسة الأمنية بالتقصير إذا أصرّ على أن دوافع العملية الإرهابية "عامة"، وليست مرتبطة بالراهن من التطوّرات؟ لماذا السذاجة في غير وقتها ولا محلـّها؟).

(4)


إن العملية الإرهابية جاءت بدوافع محددة ولها أهدافها ومن هنا توقيتها وعنوان نيرانها. لقد بات واضحًا أن هناك من أراد إشعال جبهة تزيح الأضواء وتنقل الاهتمام من الانسحاب من قطاع غزة، إلى مكان آخر. هذا لا يقلـّل من خطورة الأمر بل على العكس، يحدّد السياق الذي يفوق التحليلات التذمـّرية التي تنسى في قمة نشوتها أنها تفصل قضية هذه الجماهير العربية عن قضية شعبها. وهذا ما يجب الانتباه إليه، لأن أي حديث آخر قد يحوّل هذه العملية الإرهابية إلى جريمة يتيمة، غائمة الدافع ومجهولة الأهداف، وتجعلنا مهدّدين بعدم استخلاص العبر منها.