مجزرة شفاعمرو- الخلفية والسياق

لا معنى لقراءة مجزرة شفاعمرو (الخميس 4 آب 2005) من دون التمعن في سياقيها السياسي والثقافي.

وإذا كان السياق الأول يرتبط الآن بخطة فك الارتباط وما تثيره من تداعيات وتجاذبات سياسية مختلفة في المشهد السياسي والحزبي الإسرائيلي العام، فإن السياق الثاني الذي لا يقل أهمية لا يبدو منوطًا بمحور زمني آني، لأنه يحيل أساسًا إلى جوهر التربية الفاسقة التي يخضع لها كل إسرائيلي منذ المهد، فيما يتعلق بصورة العربي الفلسطيني.

في واقع الأمر نشرت في إسرائيل، خلال السنوات الأخيرة، دراسات جديرة تتناول بأناة وتمحيص دقيقين صورة العربي الفلسطيني في الثقافة الإسرائيلية، بما في ذلك في مناهج التعليم الرسمية، وما تؤول إليه من مترتبات خطيرة، عبر التنقيب في شتى الخلفيات والصيرورات.

ويهمني أن أكرّر الإشارة في عجالة إلى دراسات باحثين اثنين في هذا الصدد:

الأول يتسحاق لاؤور (وهو شاعر وروائي وله محاولات في الكتابة المسرحية أيضًا)، الذي نشر كذلك كتابًا احتوى بعض دراساته في هذا الخصوص عنوانه "نكتبك يا وطن". والثاني هو البروفيسور دانيئيل بار- طال.

يدرس "لاؤور"، ضمن أمور متعددة، سيرورة تبلور الهيمنة (الصهيونية) إزاء صورة العربي في السجال الإسرائيلي العمومي وفي الخطاب الثقافي بمساعدة مباشرة و"سخيّة" من طرف النخبة الثقافية، وبالأخص الكتاب والشعراء والمؤرخين وعلماء الاجتماع الخ... وذلك في إطار تفكيك بنى الذاكرة والنسيان. وهو يؤكد أن الذاكرة والنسيان هما جزء من منظومة الهيمنة ومن منظومة بناء الذاكرة القومية. ويستشهد بأكثر من باحث في هذا الشأن ينوهون بأن أيديولوجيي الدولة القومية أوجدوا كذلك "ذاكرة الموتى"، الذين يحمل رسالتهم ويواصل دربهم المقاتلون الأحياء، وبأن النسيان أيضًا مرتبط ببناء القومية (وبعض الأيديولوجيين القوميين، مثل الفرنسي إرنست رينان، جعل هذا النسيان حتى بمنزلة مطلب قومي). فلا غرو، والحال هذه، إن تضمن مشروع بناء "الأمة الإسرائيلية الحديثة" وفرة من الأشياء التي كان ينبغي بـ"الذاكرة القومية" الإسرائيلية نسيانها (ومن ذلك يذكر الباحث، مثلا، الييدشية باعتبارها لغة التنويريين وما جرى ارتكابه ضد اليهود الشرقيين، الذين جلبوا عنوة إلى هنا من أقطارهم العربية، وطرد الفلسطينيين). كما تضمن المشروع نفسه وفرة من الأشياء التي كان ينبغي بتلك الذاكرة أن لا تتذكر سواها، بدءًا من "الشعب المختار" وجيل الآباء والهيكل الثاني وثورة باركوخبا وانتهاء بـ"تمرّد غيتو وارسو" باعتباره المندوب- التمثيلي لذكرى الهولوكوست. (على صلة وثقى بما قيل في هذا المحور لفتتني مؤخرًا دراسة نقدية حول ثيودور هرتسل، مؤسس الحركة الصهيونية وواضع الأعمدة الرئيسية للدولة اليهودية، يؤكد كاتبها المؤرخ والأستاذ الجامعي د. إيلان بابه، ضمن أمور أخرى، أنه في ظل الأجواء التضليلية والتصحيفية التي دأب الآباء المؤسسون على إشاعتها فيما يختص بالمكان، حيّزًا وتاريخًا، كان من السهل تناسي الواقع الآسيوي خارج القوقعة الصهيونية، كما كان من السهل تخيّل أن طلائع المستوطنين الصهاينة إنما هم موجودون في أوروبا. ولقد قام بعض هؤلاء، ربما دون معرفة أو قصد، ببناء "فلسطينه" التي بدت مشابهة لـ"الطنويلاند"- الأرض القديمة الجديدة- التي رسمها هرتسل في روايته الخيالية، التي تحمل الاسم ذاته. وكحال أبطال روايته، لم يشاهد هؤلاء أيضاً سكاناً محليين، شرقيين، أو الشرق الأوسط الذي عاشوا فيه).

أما البروفيسور دانيئيل بار- طال، أستاذ علم النفس الاجتماعي- السياسي في جامعة تل أبيب، فإنه، في موازاة يمكن اعتبارها مكملة لما يدرسه "لاؤور"، ينكبّ على بحث شخصية العربي التنميطية في الروح الإسرائيلية. ويبقى من المثير دائمًا العودة إلى الخلاصة التي يكررها هذا الأستاذ الجامعي.

مؤدى هذه الخلاصة أن التعامل السلبي (حتى لا يقول الإجرامي) حيال الإنسان العربي لمجرّد كونه كذلك، من طرف اليهود الإسرائيليين عمومًا، يتم اكتسابه في جيل مبكر لدى جميع فئات المجتمع الإسرائيلي، بصورة غير منوطة البتة بموقف فئة أو شريحة اجتماعية معينة دون سواها. بكلمات أخرى فإن التربية في البيت (الإسرائيلي)، وفقما يقول "بارطال"، ليس في مقدرتها، حتى إن أرادت، أن تحول دون اكتساب تعامل ثقافي سلبي إزاء العرب، فأولاد إسرائيل يتعلمون التنميط السلبي للعربي من ثقافة المجتمع أولاً وعلى الدوام. ويصبح هذا التعامل السلبي مركزيًا لدى معرفة مصطلح "عربي" ويتفاقم في جيل الطفولة حتى سنّ 9- 10 سنوات، حيث يبلغ ذروته. بعد ذلك ربما تبدأ لدى البعض عملية اعتدال متدرّجة، لكن في الحالات جميعًا يظل مفهوم العربي سلبيًا بالمطلق.

ويؤكد "بارطال" أن النزاع الإسرائيلي- العربي، الذي يقف في صلبه الآن بموجب قراءته نزاع إسرائيلي- فلسطيني ونزاع إسرائيلي- سوري، وإن كان الأخير قد خفّت حدته في السنوات القليلة الماضية، يستمر في كونه العامل الحاسم في إنتاج التنميط الثقافي السلبي للعرب عمومًا والفلسطينيين والسوريين خصوصًا. مقابل ذلك فإن الإنهاء الرسمي للنزاع مع المصريين والأردنيين غيّر، بقدر ملحوظ، النظرة (الإسرائيلية) تجاههم.

كما يؤكد أن التنميط السلبي يواصل أداء دور مركزي ليس في تفسير الواقع العيني فحسب، وإنما يشكل أيضًا عقبة أمام حل النزاع السالف بطرق سلمية. فالطريق السلبية، التي يتم من خلالها النظر إلى العرب عمومًا وإلى الفلسطينيين خصوصًا، لا تزال وستبقى إلى إشعار آخر تشكّل موشورًا يصدر المجتمع الإسرائيلي اليهودي، عبره، حكمه (القاطع وغير القابل للتأويل) على الخصم. وهو يؤدي، حتمًا، إلى حكم منحرف وانتقائي ومختل يلقي أوزار المسؤولية عن خلق النزاع واستمراره وعن منع الوصول إلى حلّ له على كاهل ذلك الخصم. وبالتالي فإن هذا الحكم يتمحور، بصورة حصرية ومفرطة في الإطلاقية، حول "عنف الخصم" فحسب. لكن الأشد خطورة من ذلك أن هذا الحكم يحول دون أي تعاطف وجداني حياله ودون أي اعتبار لاحتياجاته. وهكذا تشكل النظرة السلبية (إلى الفلسطيني) واحدًا من العوامل التي تمنع التقدم إلى أمام في "عملية السلام".

بوضعنا هذا الكلام أمامنا لا نستغرب تصريحات عدد من المسؤولين الإسرائيليين، وفي طليعتهم أريئيل شارون نفسه، التي أكدت أن مجزرة شفاعمرو مرشحة لأن تتكرّر. فإن الشهداء الأربعة في شفاعمرو هم ضحايا هذه الثقافة السياسية، التي لا تنفك السياسة الرسمية للدولة تنميها وتتعهدها بالرعاية طيلة أكثر من 57 عاما. وسيظل المجتمع العربي في إسرائيل بمثابة الضحية الأولى لكل تدهور يحصل في السياسة وأيضًا في التوجهات غير الرسمية للمجتمع اليهودي.

ولعلّ من نافل القول إن التدهور الحاصل الآن هو، بكيفية ما، نتاج السياسات التي يتبعها أريئيل شارون في الآونة الأخيرة.

فلقد أعلن شارون عن خطة فك الارتباط عن غزة وبعض أجزاء من شمال الضفة الغربية كخطوة في تعزيز المشروع الصهيوني، الذي تغيّا أولاً ودائمًا الحد الأقصى من الأرض مع الحد الأدنى من العرب.

ومهما تكن التسميات المتداولة فإن المنطق الرئيسي في جوهر خطة فك الارتباط هو حتى الآن منطق الانفصال عن العرب الفلسطينيين، وليس منطق الاعتراف بحقوقهم الشرعية في الحياة والحرية والسيادة.

وهذا بالضبط ما فعله الجندي الإسرائيلي عيدان نتان زادة في العمق، كما أشير في أحد التعليقات على ما حصل في شفاعمرو. فهو أيضا أراد الانفصال عن هؤلاء العرب، وهو أيضا لا يؤمن بحقهم في الحياة والحرية والسيادة.