دولة هجرة

شهد الأسبوع الماضي حدثًا مرّ ظاهريًا مرّ الكرام، غير أنه ينطوي، في العمق، على تذكير بـ"جوهر" إسرائيل، من جانب قباطنتها ولنا جميعًا.

الحدث هو قرار رئيس الحكومة الإسرائيلية، أريئيل شارون، جلب آلاف الأثيوبيين إلى إسرائيل بادعاء أنهم يهود من طائفة الفلاشا. وجاء هذا القرار في ختام اجتماع شارك فيه وزير الداخلية الإسرائيلي، أوفير بينيس ووزيرة الإستيعاب، تسيبي ليفني ورئيس الوكالة اليهودية، سالي مريدور.

وبحسب القرار فانه سيتم نقل جميع أبناء طائفة الفلاشا الذين يملكون الحق بالقدوم إلى إسرائيل بموجب "قانون عودة اليهود" الإسرائيلي حتى نهاية 2007 .

كما تقرر في الاجتماع نقل مخيمات يقيم فيها 15 ألف أثيوبي إلى مسؤولية الوكالة اليهودية في غضون الأسابيع القادمة وأن يتم ابتداء من الأول من حزيران المقبل جلب ما بين 300 إلى 600 منهم إلى إسرائيل كل شهر.

وهذا القرار هو تطبيق لقرار سبق أن اتخذته الحكومة الإسرائيلية في شباط 2003 لكن لم تنفذه.

يذكرنا هذا الحدث بأن إسرائيل هي "دولة هجرة يهودية"، أولاً وقبل أي شيء. هذا ما كانت عليه منذ تأسيسها على أنقاض الوطن الفلسطيني وأصحابه، وهذا كما يبدو ما ستستمر عليه.

ولا معنى لرؤية هذا الأمر، الآن وهنا، من دون الالتفات إلى مسألتين:

* الأولى- الزيادة "غير الكبيرة" في نسبة السكان اليهود في إسرائيل. عادة ما تعزو المصادر الرسمية هذه النسبة الضئيلة إلى "هبوط عدد المهاجرين اليهود إلى إسرائيل". ويوم الإثنين (7/2/2005) نشرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" أن الوكالة اليهودية عرضت "تقريرًا متشائمًا" في إجمال الهجرة في سنة 2004، أشير في سياقه إلى أنه على رغم الزيادة في عدد الزوار من دول الغرب، بما في ذلك الولايات المتحدة، فإن عدد المهاجرين قد تناقص بـ22134 (بنسبة 9,5 بالمئة) وأساسًا بسبب هبوط المهاجرين من "رابطة الشعوب"- الإتحاد السوفياتي السابق- بنسبة 18 بالمئة. وزادت أنه في أعقاب هذه المعطيات اتخذت الوكالة اليهودية قرارًا يقضي بإتباع إستراتيجية جديدة تنصّ على تكريس أقصى الجهود للعمل مع الشبيبة في إسرائيل والشتات بهدف "ضمان مستقبل الشعب اليهودي"، بحيث تكون "دولة إسرائيل في صلبه".

* الثانية- وضعية الهوس الديمغرافي التي تمسك بتلابيب المجتمع الإسرائيلي والتي ارتفعت أو تكاد أن ترتفع إلى مستوى الأدلجة.

وقد باتت اللازمة، التي تتكرر كلما يدور الحديث عن الهجرة اليهودية وارتباطها المباشر بـ"الأمن القومي"، تتمثل في أنه لولا الهجرة "لما كانت أغلبية يهودية في دولة إسرائيل".

في 1948- جاء في إحدى الوثائق الإسرائيلية الأخيرة المرتبطة بما يسمى "مداميك الأمن القومي الإسرائيلي"- كان عدد اليهود في إسرائيل حوالي 600 ألف. بدون الهجرة اليهودية كان عدد اليهود في إسرائيل يبلغ حالياً حوالي 1،2 مليون فقط، وهناك شك كبير فيما إذا كانت دولة إسرائيل ستبقى موجودة أصلاً. ولولا موجة الهجرة اليهودية الكبيرة من دول "رابطة الشعوب" لكانت الأغلبية اليهودية في إسرائيل متآكلة جوهرياً منذ الآن.

ولا يخفي المسؤولون الإسرائيليون أن"طموحهم" هو أن يشكل اليهود في إسرائيل، في 2010، حوالي نصف عدد اليهود في العالم. وبعد ذلك تبدأ "حملة كبرى" من أجل أن تقطن أغلبية اليهود في العالم في إسرائيل (حالياً يقطن في إسرائيل حوالي 37 بالمئة من اليهود في العالم، كما يقطن فيها حوالي 47 بالمئة من مجموع يهود العالم في أجيال صفر- 14 سنة).

يجدر عند هذا الحدّ ذكر أن إسرائيل سجلت على المستوى العالمي نجاحًا يتعلق بهذا الموضوع، يتمثل في تدويل مصطلح "الدولة اليهودية" أو"الدولة ذات الأغلبية اليهودية"، حسبما انعكس الأمر بادىء ذي بدء في خطاب الرئيس الأميركي جورج بوش خلال قمة العقبة في تموز/ يوليو 2003. وفي ظل نجاح كهذا بدا من الواضح أن هجرة اليهود إلى إسرائيل لن تتم، منذ ذاك فصاعداً، بجهود إسرائيلية صرفة، علماً بأنها لم تتم كذلك في السابق أيضاً. غير أن الجديد كل الجدة هو أن هذه الجهود، الدولية وغيرها، ستكون علنية.

بطبيعة الحال ثمة متضمنات سياسية عديدة لهذا التشخيص.

مهما تكن هذه المتضمنات فلا بدّ من الإشارة إلى ما يلي:

لا يجوز نسيان أنه في موازاة الحديث عن ضرورة الحفاظ على "أغلبية يهودية" في إسرائيل يتواتر الحديث عن أن يهود الشتات (الدياسبورا) شكلوا على الدوام "إحتياطيًا بشريًا تقليديًا" للحيلولة دون نشوء أغلبية فلسطينية في إسرائيل. غير أن "ضرورة" الحيلولة دون ذلك تستجرّ أيضاً دعاوى وإتجاهات تخص، ضمن أشياء أخرى، الفلسطينيين في إسرائيل ومستقبلهم.

إستراتيجية إسرائيل الحالية تنطلق من "ضرورة" عدم التنازل عن مزيد من الأراضي للفلسطينيين. وليس من قبيل المبالغة القول إن "عدم التنازل" هذا سيأخذ مدّاً تصعيديًا في المستقبل. هنا لا مهرب من إستعادة تصريح لا تزال أصداؤه تدوّي حتر الآن أدلى به رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، يتسحاق شامير، في سياق برنامج تلفزيوني أميركي مفاده أن "إسرائيل بلد صغير وليس في وسعه أن يهب المزيد من الأراضي". وعلى نحو مماثل رأى أنه ما من حاجة للإسرائيليين للتخلي عن هضبة الجولان، أيضاً. ومضى في شرحه إلى القول إن الهدف السياسي لإسرائيل ينبغي أن يكون مضاعفة عدد سكانها (اليهود) إلى عشرة ملايين نسمة في أقصر فترة ممكنة.

وربمّا نكتفي بما صدر عن خبير سياسي أميركي من تعليق على أقوال شامير هذه، والذي جاء فيه: "لم يذكر شامير أي شيء عن الكيفية التي سوف تتدبر فيها إسرائيل إيجاد الموارد، وخاصة الأرض والمياه، لاستيعاب مثل هذا "النمو". فالضغط الحالي على الموارد هائل. ولا يحتاج المرء لأن يكون"مالتوسيًا" (نسبة إلى صاحب نظرية عرقية عنصرية لتحديد النسل) لكي يفهم أن التأثيرات السياسية، مع هذا النوع من الضغط على الموارد، سوف تعكس الندرة الناجمة عن ذلك".