إخلاء المستوطنين من غزة بعد فشل مخططات تهجير الفلسطينيين

يكتب المؤرخ والصحافي توم سيغف، الذي نشر مؤخراً كتاباً عن حرب عام 1967، أن ما نشهده الآن من مظاهر إخلاء المستوطنين في قطاع غزة، خاصة المؤلمة منها، أمر محير. "فليس دوماً بالوسع معرفة إن كان المستوطنون يبكون مصير الشعب اليهودي أم فقط خسارتهم للجاكوزي... فمعظم البث التلفزيوني وقع أسيراً للاستغلال العاطفي الذي قام به المستوطنون، وتبنى فرضية أن إخلاء قطاع غزة كارثة قومية و"مؤلمة لنا جميعاً". ولم يقم أحد بوصف هذا الإخلاء على أنه خطوة نحو الأمل. وبالمناسبة فإن الإعلام الإسرائيلي ضيع الدراما الحقيقية وهي أن المجتمع الإسرائيلي يحاول الآن تخليص نفسه من خطأ تاريخي اقترفه قبل حوالي أربعين عاماً، وهو يبحث الآن عن طريق العودة إلى تقليد صهيوني آخر".

وقد أوضح الوزير الليكودي السابق، دان مريدور، في مقابلة تلفزيونية أن المستوطنين لم يفهموا أن وقت الاستيطان الصهيوني الطليعي والمبادر قد انتهى بعد قيام الدولة اليهودية. فهناك حكومة منتخبة من الإسرائيليين وهي التي بات من واجباتها تحديد أولويات الدولة ومواقع الاستيطان، وليس أية جهات حزبية أو أيديولوجية أخرى.

ورغم اكتشاف الكثير من الإسرائيليين الجانب المسرحي في عملية إخلاء مستوطنات قطاع غزة، فإن ذلك لم ينسهم حقيقة أن ما جرى هو استكمال لصراع سياسي في إسرائيل حول هوية الدولة وحول من هو يهودي. وبديهي أنه في كل نقاش كهذا يحتل العرب مكانة مميزة في هذا الصراع إن لم يكن لأي شيء فعلى الأقل كعنصر ديمغرافي. فالاستيطان، في العقيدة الصهيونية، كان يهدف ليس فقط إلى السيطرة على الأرض وإنما كذلك لتحديد حدودها. ولذلك سعت القيادة الصهيونية للحصول على أكبر قدر ممكن من الأرض وأقل قدر ممكن من سكانها العرب.

ولذلك فإن الخطط العسكرية الإسرائيلية للتوسع ولاحتلال الأرض، وإن كانت معبرة عن غطرسة قوة، فإنها سعت كثيراً لأخذ البعد الديمغرافي بالحسبان. ويكشف توم سيغف في مقالة له في "هآرتس" أنه عشية حرب 67 أمر وزير الدفاع موشيه ديان رئاسة أركان الجيش الإسرائيلي بعدم احتلال قطاع غزة. وأنه قبل نصف عام من ذلك أوصى رؤساء الموساد وشعبة الاستخبارات العسكرية ووزارة الخارجية الإسرائيلية أنه لا يجدر بإسرائيل احتلال الضفة الغربية. وقال انه في الحالتين كانوا يعرفون أن احتلال المناطق المأهولة بالفلسطينيين يعرض مستقبل إسرائيل، كدولة يهودية وديمقراطية، للخطر.

وأشار إلى أن شراهة ديان دفعته لاحتلال قطاع غزة والضفة الغربية بخلاف المصلحة القومية لإسرائيل، كما حددها هو ورؤساء الدولة أنفسهم. وبعد الحرب صار الجميع على اتفاق بأنه لا انسحاب من قطاع غزة إلى أبد الآبدين. "وغزة لم تكن فقط مثل تل أبيب: لقد كانت مثل القدس".

وخلص سيغف إلى أن من سيقوم بكتابة تاريخ العقود الأربعة الماضية منذ حرب 67 يمكن أن يصف "عهد الأوهام والفانتازيا، الغطرسة والقمع، بروحية الصهيونية القومية الدينية، المسيحانية والعنصرية التي تجلت في المستوطنات".

وفي إطار هذه "الأوهام والفانتازيا" كانت خطة تفريغ قطاع غزة من أهله وتقليص عدد الفلسطينيين في الضفة الغربية. وقد أوكلت هذه المهمة إلى الموساد وإلى فريق خاص من رجال الاستخبارات السابقين الطامحين لإنجاز مشروع قومي قديم ولإصلاح الخطأ التاريخي الذي ارتكبوه عام 48 بإبقاء الفلسطينيين في تلك المناطق.

وحسب كل الشارات فإن إسرائيل اعتمدت على هذا الصعيد سياسات مختلفة ومتوازية. وكان بين أول هذه السياسات تحديد المناطق المراد تفريغها والتي تجلت بداءة بغور الأردن وقطاع غزة.

واستخدمت إسرائيل في الحرب أسلوب التدمير والقتل لدفع سكان مخيمات غور الأردن للرحيل شرقاً. وبالفعل تم تفريغ أكبر مخيمات اللاجئين في الضفة، مخيم عقبة جبر، من سكانه في غضون ساعات قليلة. وهو تفريغ يشبه إلى حد كبير تفريغ مدينتي اللد والرملة من سكانهما عام 48. وحاولت فعل الشيء نفسه في قطاع غزة من خلال تسهيل هرب الشباب الفلسطيني إلى مصر إما عبر زوارق في البحر أو عبر سيناء. وبعد ذلك قامت بترحيل المئات والآلاف من الشباب الفلسطينيين من غزة إلى مصر بحجة أنهم أسرى حرب كانوا أفراداً في جيش التحرير الفلسطيني.
ولكن بعد ذلك جاءت سياسة ترغيب الفلسطينيين في الهجرة من خلال فرض قيود شديدة على الحركة وسد منافذ الرزق في الشهور الأولى التي أعقبت الحرب. وقد دفع ذلك الكثيرين إلى النزوح إلى الأردن في رحلات منظمة وشبه منظمة بغرض "جمع الشمل" أو اللحاق بأعمالهم في الخارج أو خشية البطش الإسرائيلي. وحسب التقديرات الإسرائيلية فإن ما لا يقل عن ربع مليون فلسطيني نزحوا عن الضفة والقطاع في إطار التدابير الإسرائيلية لفترة ما بعد الحرب. وبين هؤلاء ما لا يقل عن خمسين ألف فلسطيني من قطاع غزة.

ويبدو أن هذا الحديث واجب الآن في ضوء مسرحية إخلاء سبعة آلاف مستوطن من قطاع غزة في إطار خطة الفصل. فقد أعدت سيناريوهات هذه المسرحية منذ عامين تقريباً، وصارت أدوار المستوطنين والجنود ورجال الشرطة الإسرائيلية معروفة في هذه العملية. ومنذ عام تقريباً والجميع يتدرب كل على أداء دوره في اللحظة المناسبة. وهكذا رأينا الجيش الإسرائيلي، بالبث الحي، يصارع من أجل فتح بوابة مستوطنة "نفيه دكاليم" وسمعنا محطات التلفزة العربية تتحدث عن "اقتحام قوات الأمن الإسرائيلية" للمستوطنات. وشهدنا المستوطنين يمثلون دور الضحية ثانية مستعيدين صورة الأطفال اليهود الخائفين من جنود الرايخ النازي. والكثير الكثير من المشاهد المضللة الأخرى التي توحي بأن الجنود الإسرائيليين كانوا خارج المستوطنات وليسوا جزءاً منها.

ثمة حاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى للتأكيد على أن مسرحية الإخلاء كانت حاجة ضرورية لشارون لادعاء أنه من المستحيل إخلاء ربع مليون مستوطن في الضفة الغربية وأن على العالم البحث عن حلول أخرى. لقد سبق تيري لارسن الجميع بالإعراب عن ثنائه على شارون لنجاحه في إخلاء سبعة آلاف مستوطن. وكاد يعتبر الأمر معجزة. لقد قتل شارون من الفلسطينيين والعرب أكبر من هذا العدد. وبوسعه، وهو الذي في حرب 48 أخلى أكثر من سبعمئة ألف فلسطيني وفي حرب 67 أخلى ما لا يقل عن ربع مليون فلسطيني، التباهي بأن ذاكرة العالم ضعيفة. وأنه لا يهم ما تفعل وإنما كيف سينظر الآخرون له.