على عتبة الجولة الثانية في الحلبة الإعلامية

رغم كل تصريحات قادة السلطة الوطنية حول الاستعدادات السياسية والإعلامية الفلسطينية لمواكبة تنفيذ عملية فك الارتباط فقد هيمنت الرواية الإسرائيلية بشأنها على تقارير وسائل الاعلام العالمية حتى الآن. في وسائل الإعلام الغربية، الالكترونية والمكتوبة على حد سواء، برزت قصة اقتلاع المستوطنين من منازلهم وهم يغرقون في بحر من الدموع والانفعالات مرتدين ثوب الضحية بنجاح.

اما الرواية الفلسطينية حول عدم شرعية المستعمرات، بقاء المعابر والموانىء تحت سيطرة الاحتلال، فظائع المستعمرين وهوية ارض قطاع غزة التي تعرضت للسطو المسلح عام 1967 على يد الإسرائيليين الذين سبق وهجروا آلافًا مؤلفة من اللاجئين فيها من بيوتهم داخل اراضي 1948 فقد غابت بشكل شبه كامل. حتى الآن وصل الى البلاد نحو 4 آلاف صحفي من العالم فيما يهبط يوميًا 200 آخرين للمشاركة في تغطية العملية التي تخللتها فصول مسرحية متفق عليها بين الجيش وقادة المستوطنين الذين ما انفكوا "يتخاصمون" ويتعانقون بتأثر درامي. وليس سرا ان عدد المستعمرين في بعض مستعمرات غزة لم يتعد أصابع اليد الواحدة وفي الأيام الأولى للإخلاء كان الكثيرون منهم قد غادر طواعية لكن الجيش ظل يدفع بالمزيد من قواته المعززة ويضاعف من جنوده ضمن مساعي التهويل الدعائية وكأنه يوشك على دخول معركة فيما كان يخطط في الواقع لاحتلال عدسات التلفزة وقد نجح بذلك إلى حد كبير . في كثير من التقارير اليومية لشبكات "السي. إن. إن" و"الفوكس نيوز" و"سكاي نيوز" وغيرها تعددت القصص والوجوه الصحفية لكن رسالة السطر الأخير بقيت واحدة: "كارثة" اقتلاع صاحب الدار وأولاده من منزل بناه وأقام فيه بجوار مزرعته عشرات السنين.

وعلى سبيل المثال كانت هذه الشبكات تبث احيانا بعض صور المنازل والمنشآت التي احرقها او اتلفها المستعمرون لكن دون تعليق او تفسير ودون ان يتم فضح نزوع المستوطنين للعنف ودون الإشارة الى عدم قانونية استيطانهم بموجب قرارات الشرعية الدولية.

لا شك أن الحرب الإعلامية بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي حول "فك الارتباط" في جولتها الحالية تعدم تكافؤ الفرص لحظة انطلاقها لأسباب موضوعية. في الشوط الأول من هذه المواجهة الإعلامية كان من الطبيعي ان تتركز الكاميرات في القصة الجارية لا في تقارير ارشيفية سيما وانها تنطوي على مختلف عناصر الدراما الصحفية من دموع ونار ومشادات كلامية وجسدية وهالة "تاريخية". كما ان سيطرة الاحتلال على حركة الصحافيين ومنع المراسلين الفلسطينيين (700 مراسل) العاملين في الصحافة الدولية من مغادرة مدن القطاع ودخول المستعمرات قد أثر على النتائج النهائية لتغطية الحدث. وربما تجد من يقول إن أغلبية الإعلام الأميركي والأوروبي متعاطف بطبيعة الحال مع الموقف الإسرائيلي جراء اعتبارات غريبة، ومع ذلك لا بد من ملاحظة النجاح الإسرائيلي في الجانب الإعلامي من الإخلاء حتى الآن ومحاولة الإفادة منه.

قبيل بلوغ ساعة الصفر كان الإسرائيليون قد اعدوا خطة إعلامية ليست خارقة لكنها عملية ومفيدة وتساعدهم في كسب نقاط مع بدء موسم الحصاد السياسي الوشيك. بداية أدرك الاحتلال (مكتب الناطق بلسان الجيش) حيوية تيسير المهمات التقنية وتوفير الأدوات اللوجستية المطلوبة للبث الالكتروني بدءا من تشكيل مركز إعلامي دولي وترتيب مؤتمرات صحفية مكيفة مرورا بتنظيم سفريات منظمة ومجانية وتوزيع المشروبات وانتهاء بتقديم الشروحات الذكية التي تسوق كعلاقات عامة لا كنشاط دعائي يستهدف التأثير على التغطية ذاتها مباشرة. وأردفت منظمات يهودية مختلفة هذا المجهود الرسمي بتوزيعها "هوايات" خفيفة وأنواع من الحلوى تحمل اغلفتها عناوين مواقعها على الشبكة العنكبوتية مليئة بالشروحات حول حجم الألم المنوط بتصفية "مشاريع العمر الناجحة" في المستوطنات. في المقابل لم تستنفد السلطة الوطنية كافة إمكانياتها لتسويق الرواية الفلسطينية والتأثير على تقارير الإعلام الغربي ودفعه لموازنتها. ويبدو ان سلسلة إجراءات عفوية قد حلت مكان إستراتيجية إعلامية متكاملة تقتضيها الظروف والمعركة المقبلة على مصير الضفة الغربية طالما ان البندقية ليست السلاح الوحيد في المواجهة. اما ان يركن الفلسطينيون لعدالة قضيتهم فهذا غير معقول فالمحق عليه ان يكون حكيما ايضا سيما وان سالب الحق يتمتع بقدرة فائقة على خربطة الأوراق وتزوير الحقيقة. حتى الآن لم يرق الجهد الإعلامي الفلسطيني للمستوى الكافي لموازنة قصة تفكيك المستعمرات عبر تجهيز تقارير مهنية وحقيقية عن جرائم الاحتلال منذ بداية تهجير أهالي غزة. تقارير تستحضر قصة اغتصاب 45 قرية من بين 54 في قضاء غزة التاريخي عام 1948 قبل ان يلحق بهم ويحتل ما تبقى عام 1967 فيحتل الأرض ليقيم بضعة آلاف مستعمر على 40% منها مقابل مليون ونصف فلسطيني اصلاني يعيشون في علبة سردين يفتقرون الى ماء الشرب الذي نهبه المستعمرون لارواء العشب الاخضر في ساحاتهم. كما توقعنا من الجانب الفلسطيني في هذا المضمار التركيز هذه الايام على مخاوف قيام "دولة" غزة منقوصة السيادة والمحاصرة كالسجن الكبير سماؤها ومعابرها وموانئها ليست لها.

ويخشى أن يتعدى الأمر حدود الإهمال نحو الاستثمار الفئوي، فضمن محادثة بيننا قال صحفي فلسطيني في "رويترز"، فضّل حجب هويته، إن الكثيرين من الإعلاميين الفلسطينيين يرون بأن التغطية الفلسطينية للاخلاء كانت ضعيفة وغير فعالة على المستويين المحلي والعالمي. واضاف "أعتقد ان بعض قادة السلطة الوطنية قد انساقوا عمدا خلف الرواية الإسرائيلية التي تظهر "فداحة" الخسائر الإسرائيلية كونها تخدم مصالحهم بإبراز دور السلطة بذلك والظهور باطلالة المنتصر". وربما، برأيه، يكون الموقف الفلسطيني المرتبك إعلامياً، هو انعكاس للارتباك السياسي الفلسطيني الذي يواكب عملية "فك الارتباط " منذ انطلاقها . وردا على سؤال حول دور المراسلين الفلسطينيين العاملين في الإعلام الغربي اشار الى أن اولئك حاولوا الالتزام بالأصول المهنية قدر الامكان لافتا الى ان حجم تأثيرهم يبقى "نقطة" في بحر.

بعد الجولة الأولى التي شارفت على الانتهاء وفيها حقق الجلاد فوزا واضحا على الضحية في الجولة الأولى من المعركة على الهوية والأدوار نقف على عتبة الجولة الثانية، فهل تقابل بخطة اعلامية فلسطينية لضمان فوز الحقيقة؟

في الشهر المقبل من المقرر ان يتاح للجماهير الفلسطينية المتعطشة المجال للاحتفال باي انتصار وبكل شيء من شأنه تقصير دربهم المخضبة بدماء الشهداء نحو الحرية الكاملة. ومن المتوقع ان يدخل الاهالي بجموعهم وهناك سيجدون عدسات المصورين في حالة ترقب وتأهب لرصد الفصل الثاني من مشهد فك الارتباط وعندها يتوقع كل عاقل منا ان يظهروا بمظهر العائد الى أرضه المغتصبة بشكل حضاري وسط حالة انفعال ودموع غير مزيفة بعيدا عن الفوضى وسباقات النهب والسلب التي تعيد للذاكرة المشاهد المؤلمة لرعاع من العراقيين وهم يتراكضون والنوافذ والأبواب على اكتافهم ليلة سقوط عاصمتهم بغداد في 2003.

وعلاوة على تجهيز كل المستلزمات التقنية التي تحتاجها جيوش الصحافة العالمية وتسهيل مهماتهم بدلا من خطفهم نتوخى من اللجنة الإعلامية الرسمية الخاصة بالانسحاب ان تحسن بلورة برنامج متكامل يهدف نشر الرواية الفلسطينية بشكل حقيقي بعيدا عن المبالغات ينسجم مع خطاب واحتياجات الاعلام العالمي العصري.

ولما كانت الصورة بالف كلمة في مثل هذه الأحداث ، فلا بأس بالمبادرة الى سلسلة فعاليات خاصة تنطوي على عنصر المشهدية كأن يحمل آلاف الأطفال الأيتام أغراس الزيتون او اسماء أبائهم ممن استشهدوا في عهد الاحتلال مكتوبة على قطعة قماش بطول كيلومتر او اطلاقهم الآلاف من طيور الحمام، تحميل السيدات "مفاتيح العودة" او تنظيم مسيرات ترفع فيها لافتات بأسماء ثمانية آلاف معتقل فلسطيني وبأسماء القرى المهجرة باللغات المختلفة او اقامة نصب تذكاري كبير - تمثال الحرية الفلسطيني. كما يمكن توزيع آلاف الملبوسات التي تحمل شعارات بالانجليزية: حرروا فلسطين .. او حرروا الضفة الغربية من آخر احتلال في العالم.

ولا شك ان عفوية اللقاء بين أهالي القطاع وبين الأرض المغتصبة التي سيقبّلونها ويقدمون صلوات الشكر الجماعية عليها يفجر بحد ذاته قصة صحفية درامية أهم من تلك الناجمة عن إخلاء المستعمرين من منازلهم، لكنها لن تكون كافية اذا ما كانت مظاهر التدافع الفوضوي للفوز بالغنائم هي سيدة الموقف.

(*) الكاتب: رئيس إدارة "إعلام"- مركز إعلامي للمجتمع الفلسطيني في إسرائيل.