في المنزلق إلى "جمهورية موز"

رأت الصحافية الإسرائيلية البارزة شيلي يحيموفيتش (القناة التلفزيونية الثانية) أن إسرائيل قاب قوسين أو أدنى من أن تكون "دولة تسيطر عليها الميزتان الأبرز لجمهورية الموز"، وهما المستوى المتردي لنزاهة الحكم، والفجوات الهائلة بين الفقراء والأغنياء (موقع "واينت الألكتروني، أواخر نيسان 2005).

جاءت "نبوءة" هذه الصحافية في سياق مونولوج "فصحي" (من "الفصح العبري") كان عبارة عن شكوى حادّة، صافية وصريحة، من أداء وسائل الإعلام الإسرائيلية التي باتت تتماشى، إلى حدّ التماهي أحيانًا، مع أصحاب الرساميل في تأييد السياسة الاقتصادية- الاجتماعية التي تنتهجها الحكومة الحالية لصالحهم، وتنذر بأن تقضي قضاء مبرمًا على "دولة الرفاه"، حتى إلى ناحية تجاهل معاناة ضحايا هذه السياسة من اليهود أنفسهم.

غير أن أداء وسائل الإعلام هذه في ميدان التماثل، حتى لا نقول الامتثال، مع سياسة الحكومة العامة أصبح هو أيضًا من "الأسرار المفضوحة" بما لا نحتاج معه إلى عناء التكرار.

وعلى صلة بمسألة "نزاهة الحكم" في إسرائيل نشير إلى أن العدد القادم من سلسلة "أوراق إسرائيلية" الصادرة تباعًا عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- "مدار" جرى تخصيصه لهذا الأمر، وفيه يعرض الخبير القضائي الإسرائيلي موشيه نغبي ما يعتبر أنه "فشل ذريع لمنظومة أجهزة سيادة القانون (الإسرائيلية) في حماية الديمقراطية من الذين يحاولون تدميرها وتقويضها من الداخل" لغاياتهم المخصوصة، التي ليس أبسطها التغطية على الفساد المستشري في القمة. ويحتوي هذا العدد على مقالتين مأخوذتين من كتاب لهذا الخبير صدر أخيرًا (خريف 2004) عن منشورات "كيتر" في تل أبيب، مشتملاً على العرض ذاته، إنما بصورة أكثر سعة وشمولية. وجاء الكتاب تحت عنوان "أصبحنا مثل سدوم: في المنزلق من دولة قانون إلى جمهورية موز".

النتيجة التي يخلص إليها نغبي في الكتاب عمومًا مفادها أنه "لا نهضة ترجّى لدولة تخاف سلطاتها من أعداء القانون والديمقراطية، بدل أن يكون سلوكها نقيض ذلك جملة وتفصيلا".

وقد كتب في تظهير هذا الكتاب، الذي فينا أن نعتبره غير مسبوق في "المكتبة الإسرائيلية"، ما يلي:

"عصابات الإجرام المنظّم تزرع العنف في شوارع إسرائيل. وأذرعها تتغلغل في سلطات النظام الحاكم وتهدّد بأن تمسّ بالديمقراطية من الداخل. قتلة، مغتصبون، أزواج عنيفون وتجار نساء يتجولون بيننا طلقاء بسبب حدب المحاكم. أماكن لوائح المرشحين للكنيست تباع في وضح النهار عدًّا ونقدًا أو بما يوازي النقود، والساسة الذين يشترونها هم الذين يشرّعون قوانيننا... مواطنون عاديون يسامون مرّ العذاب في غياهب السجون والمعتقلات دونما ذنب اقترفوه، بينما يواصل مسؤولون كبار، استغلوا مناصبهم لتحسين وضعيتهم ووضعية المقربين منهم، جريهم نحو القمة دون حسيب أو رقيب. القضاء العسكري يمنح حصانة للقادة الذين أهدروا بإهمالهم الإجرامي حياة جنودهم أو استغلوا جنسيًا جندياتهم، وأيضاً للقادة الذين ينكلون بالفلسطينيين. الإعلام الباحث عن الحقيقة، اللاسع، يفقد نيوبه ويأخذ مكانه إعلام امتثالي وفاسق. وأفظع من كل هذا أن سلطات القانون مشلولة تمامًا حيال التحريض والعنف الديني- القومي، اللذين سبق لهما أن أديا هنا إلى اغتيال رئيس للوزراء" (يتسحاق رابين في 1995).

أما فيما يختص بالفجوات الضخمة بين الفقراء والأغنياء، وهي الميزة الأبرز الثانية لـ"جمهورية الموز" على ما تقول يحيموفيتش، فيمكن استعادة ما سبق أن قاله عالم الاجتماع الإسرائيلي شلومو سبيرسكي من كون ذلك أشبه بصيرورة "ثقافة تطور" أو "ثقافة تنمية" اقتصادية- اجتماعية انطلقت من "مبدأ" تكريس هذه الفجوات، بداية بين أبناء الطوائف اليهودية المختلفة (أشكناز وشرقيين) وبينهم وبين العرب الفلسطينيين المواطنين في إسرائيل، ثم اتسع تطبيق هذا "المبدأ" لاحقًا ليشمل، بعد 1967، الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة ومن ثمّ غيرهم على مرّ السنوات الماضية وصولاً إلى الأيام الراهنة.

وبطبيعة الحال كانت هناك، قبل قيام إسرائيل بفترة طويلة، أجهزة اقتصادية- سياسية غير متساوية (تمييزية) تابعة لقيادة "الييشوف". وقسم من هذه الأجهزة ساعد أيضاً في تحديد نزعات "التطور" الجديدة بعد إنشاء الدولة. لكن الفارق المبدئي بعد ذلك كمن في أن من قاد النزعات الجديدة هو جهاز دولاني مستقل وعظيم النفوذ، نسبيًا، وإلى جواره "طبقة وسطى صنيعة الدولة" سرعان ما استأثرت لنفسها بقدر كبير من "الأوتونوميا"، بتغطية دائمة من جهاز الدولة.

لعل ما يعنينا من هذه الحوصلة، على رغم ما تنطوي عليه من مؤدى مثير، هو أن "ثقافة التنمية" هذه ترتبت ولا تنفك تترتب عليها مفاهيم اجتماعية عنصرية، قلبًا وقالبًا، تجاه الداخل الإسرائيلي وتجاه الخارج أيضًا. وفيما يتعلق بالفلسطينيين تحديدًا يشير الباحث إلى أنه بما أنه لن يكون هناك في المدى المنظور والبعيد جيش احتلال في مقدرته أن يفرض على الفلسطينيين جوهر التشغيل وشروطه وظروفه فإنه ستتطور، بشكل علنيّ أكثر فأكثر، أيديولوجيا تسوّغ وتبرّر الفوارق الطبقية الناشئة بين اليهود والفلسطينيين بمفاهيم ثقافية عنصرية أو قومية- تماماً مثلما أن الأيديولوجيا حول "الاستضعاف الثقافي" تطورت في الخمسينيات والستينيات كتسويغ ومبرّر للفوارق الطبقية التي نشأت بين الأشكنازيين والشرقيين. ومن الجائز جداً أن تعرض هذه الأيديولوجيا ذاتها اليهود بوصفهم "شعب الأسياد" و/أو "شعب المجتمع التكنولوجي المتطور"، الذي يُسمح بل ويحقّ له تشغيل "المستضعفين في الأرض" ضمن شروط استغلال.

في واقع الأمر لا تقتصر المفاهيم الاجتماعية العنصرية في الممارسة والتفكير الإسرائيليين على جانب التطور الاقتصادي فحسب، وإنما تنسحب أيضًا على المواقف السياسية من الحلول المرتجاة للنزاع الإسرائيلي- الفلسطيني. وهذا ما يتطرق إليه المحاضر في جامعة حيفا، د. إيلان بابي، في مقاربته "عن العودة والعنصرية" المنشورة في موقع "الضفة اليسرى" الألكتروني، أواخر نيسان 2005.

يؤكد الكاتب، ضمن أشياء أخرى، أن قضية اللاجئين الفلسطينيين هي، في العمق، أكثر من سؤال حول حلّ صحيح أو غير صحيح للتطهير العرقي الذي اقترفته إسرائيل في سنة 1948. فهذه القضية هي الأساس لفهم المشروع الصهيوني كافة، في لبوسه الحالي، وربما هي الأساس أيضًا للبديل الوحيد لوجوده. ويضيف: التسويغ الإسرائيلي الأكثر أساسية، الإجماعي، ضد عودة اللاجئين يتمثل في الخوف من فقدان الأكثرية الديمغرافية اليهودية لدولة إسرائيل. وهذا الخوف يبدو أقوى حتى من الرغبة في إنكار النكبة أو من السعي للتهرّب من المسؤولية عن ارتكاب الجريمة في 1948. والموقف الإسرائيلي الأخلاقي وكذلك الدولي تآكل جدًا، إلى حد لم يعد معه خوف إسرائيلي من الإدانة ولا رغبة يهودية في التكفير عن الذنب.

ويتابع: هناك في صلب هذا الموقف المأزق الذي أرّق الصليبيين حين اكتشفوا أنهم أنشأوا دولة ليس في أوروبا وإنما في لبّ العالم الإسلامي، وأرّق الكولونياليين البيض الذين سعوا إلى إقامة دولة قبلية خاصة بهم في أفريقيا ولم يقدروا على القارة السوداء، لكنه لم يؤرّق بالمقدار نفسه الكولونياليين في الأميركتين الذين أبادوا على نطاق واسع البيئة غير البيضاء بمجرّد قدومهم. ويبدو أنه لا يؤرّق الصهاينة الذين يمضون قدمًا في الحفاظ على ما أسماه "الجيب الأبيض" في قلب العالم العربي الذي استوطنوا فيه.

الشيء المهم أن مساعي الحفاظ على هذا "الجيب الأبيض" هي التي تتحكم الآن في مبررات البرامج الإسرائيلية المطروحة للتسوية، وفي طليعتها خطة أريئيل شارون للانفصال عن غزة وشمال الضفة الغربية. وعلى ما يبدو فإنها ستتحكم بما قد يأتي في مرحلة لاحقة، حسبما أجاد توصيف ذلك المعلق السياسي في صحيفة "هآرتس"، ألوف بن، لدى تقطيره لـ"عقيدة شارون" من المقابلات التي أدلى بها أخيرًا لوسائل الإعلام الإسرائيلية بمناسبة الفصح العبري. ومن الجائز أن تلد مخططات أكثر جهنمية كقول ذلك المعلق، استنادًا إلى ما يقوله شارون، إنه لاعتبارات ديمغرافية ستتجنب إسرائيل، في إطار التسوية الدائمة، ضم المستوطنات في المنحدرات الغربية لجبال نابلس على أن تدرس في المستقبل مقايضتها بأراضٍ مأهولة في منطقة وادي عارة داخل الخط الأخضر.