تقسيم وفق "حق الوجود"

أشبع المعلّقون والساسة والقادة العسكريون الإسرائيليون خطة الفصل تشريحاً وتحليلاً وطفحت الصحف بالتوقعات والتكهنات حول العملية السياسية التي ستوضع في "الفورمالين" من ناحية والحرب المدوية من ناحية أخرى. ولكن إلى جانب هؤلاء قام عدد من كبار الدارسين والبحاثة والقانونين بأبحاث ودراسات سعت إلى "تعديل" خطة الفصل أثناء الاشتباك. وبين هؤلاء من قدّم دراسات تبين أن إسرائيل لن تكسب شيئاً من تنفيذ هذه الخطة إذا بقيت في محور فيلادلفي على الحدود مع مصر وآخرون قالوا بأن خطة الفصل تمّت لدوافع شخصية.

ولكن بين كل هؤلاء وأولئك برز كتاب "تقسيم البلاد" لمؤلفه الصحافي في "هآرتس" والمتخصص بإجراء المقابلات السياسية والفكرية مع الشخصيات، آري شافيط. ورغم أن الكتاب يحوي خلاصة مقابلات أجريت مع ثلاثة وثلاثين شخصية سياسية وعسكرية حول موقفهم من خطة الفصل إلا أن كثيرين اعتبروا أن الكتاب يوفّر فرصة للقيادة الإسرائيلية لإعادة النظر في موقفها من الفصل. فالكاتب يقدّم نوعاً من الخلاصة الفكرية السياسية التي تُسهم في بلورة خطة عملية لفصل "الجمهورين الإسرائيلي والفلسطيني عن بعضهما". وهو يركز على فكرة استحالة السلام في هذا الجيل أو الذي يليه نظراً للتباين الحاد بين شعب مهدّد وشعب يخضع للاحتلال.

والحقيقة أن أهمية كتاب شافيط تكمن في تصنيف الكثيرين لكاتبه بأنه يساري النزعة. غير أن آخرين شككوا منذ وقت طويل بهذه اليسارية عندما أجرى مقابلاته مع أبرز المؤرخين الجدد ومع عدد من قادة الفكر والسياسة في إسرائيل. ومع ذلك فإن كتاب شافيط الأخير يبين بشكل حاد طبيعة المنطلقات التي خرج منها. فالقصة في نظره، ووقتما يشاء تبدأ بنكبة 1948، وهي عندما يريد عكس ذلك تبدأ عام 1967. ومثل غيره من يساريي اللحظة يوفر الأرضية الأخلاقية لكل حروب إسرائيل. وهو لا يُخفي واجب أن يقرّ العرب والفلسطينيون بالحق التاريخي لليهود في "وطنهم الأصلي". ومعروف أن هناك الكثير من اليساريين الإسرائيليين الذين باتوا يدعون إلى حل عادل يقوم على تقسيم فلسطين ليس بموجب "الحق التاريخي" وإنما وفق "حق الوجود".

ومن الجائز أن اليساريين الأخيرين يدعون إلى ذلك وهم يؤمنون بوجوب أن تقدم إسرائيل على "تنازلات" جوهرية الآن وهي في ذروة قوتها لنيل اعتراف جدّي بحق الوجود. ويرون أن ذلك يوفر على إسرائيل مصاعب وأزمات لاحقة في العلاقة مع الفلسطينيين والعرب. ويقولون إن بوسع إسرائيل أن تتبنى النهج الأوروبي والغربي عموماً في التفكير لكنها لا يمكن أن تخرج من جغرافيا الشرق ويجب عليها أخذ ذلك بالحسبان.

ورغم أن شافيط في خلاصاته يستند إلى منطلقات مضللة إلا أنه يقرّ هنا وهناك بقواعد هامة.

وبين هذه القواعد استحالة قبول الأسرة الدولية بأية حدود غير حدود 67 سوى تلك التي يقبل بها الفلسطينيون. كما أن تحليله للأسس التي تجعل السلام مستحيلاً في العقد أو العقدين المقبلين ينطوي هو الآخر على قراءة معمّقة للواقع السياسي القائم ليس فقط على الصعيد الإسرائيلي وإنما الفلسطيني أيضاً. وكما يبدو فإن العقدة في نظره قضية اللاجئين من جهة وقضية الحدود من جهة أخرى. والمفارقة تكمن في أن إسرائيل أقدمت على تغييرات جدية على الأرض في القدس والكتل الاستيطانية وغور الأردن تجعل العودة إلى حدود 67 مستحيلة من الوجهة الإسرائيلية. كما أن الفلسطينيين الذين شعروا أن التسوية التاريخية في نظرهم تتمثل في القبول بحدود 67 يؤمنون أن أي حل دون ذلك مستحيل ولذلك يشددون على حق العودة.

وإذا كان شافيط قد انطلق من خطة الفصل في كتابه ليعرض لقضية السلام عموماً ويتحدّث عن الآفاق المحتملة في العقد أو العقدين المقبلين فإن شلومو بروم في نشرة مركز "يافه" للدراسات الإستراتيجية يحصر نفسه في "اليوم التالي" لخطة الفصل.

ويعتقد بروم وهو من كبار الباحثين في المركز أنه رغم كثرة الأسئلة حول الخطة والعقبات التي تعترض تنفيذها فإن السؤال المركزي هو هل ستسير إسرائيل في أعقاب خطة الفصل نحو المصالحة مع الفلسطينيين؟

ويرى بروم أن تنفيذ خطة الفصل سيثير آمالاً لدى العديد من القوى المحلية والدولية، ولكن ذلك سيعيد بلورة الاصطفافات السياسية داخل إسرائيل. وسوف يطالب قسم من أعضاء الحكومة الحالية بتجميد الوضع الجديد لفترة طويلة في حين سيطالب حزب العمل باستئناف العملية السياسية مع الفلسطينيين على أساس "خريطة الطريق" وبين هؤلاء وأولئك سيقف عدد من الوزراء مثل إيهود أولمرت الذين سيطالبون بخطة فصل أخرى في الضفة تشمل إخلاء مستوطنات تقع خارج الكتل الاستيطانية الكبرى.

ويعتقد بروم أن شارون ليس في صف الداعين للتوجّه نحو الحل الدائم لذلك سيعمد إلى تجميد الوضع مشدداً على وجوب وفاء الفلسطينيين ببند "تفكيك البنى التحتية للإرهاب" قبل التوجّه نحو تنفيذ خريطة الطريق. ويؤمن بأن تفكك الحكومة الحالية أمر معقول لأنه يصعب عليها التوافق حول ما ينبغي فعله سياسياً.

ويحلل بروم بعد ذلك في مقالته الوضعين الفلسطيني والدولي ويخلص إلى أن السيناريو الأكثر احتمالاً ومنطقية، بعد تنفيذ خطة الفصل، هو سيناريو الأزمة. فالفلسطينيون سيُطالبون باستئناف مفاوضات التسوية الدائمة فيما ستطالب إسرائيل بتصفية البنية التحتية للإرهاب قبل إجراء مفاوضات حول المرحلة الثانية من خريطة الطريق (دولة فلسطينية في حدود مؤقتة).

ويخلص بروم إلى أنه في وضع كهذا ستزداد فرص اندلاع موجة عُنف تؤدي إلى تجدّد الانتفاضة بكامل قوتها ووتيرتها.

تجدر الإشارة إلى أن هذا هو التوقع الذي سبق وقدّمه رئيس الأركان السابق موشيه يعالون وتناقض في حينه مع تصريحات رئيس الشاباك السابق آفي ديختر. فقد أكد يعالون أن خطة الفصل تقود إلى حرب إرهابية كبرى ضد إسرائيل وقال ديختر إن يعالون لا يستند في ذلك إلى معلومات استخبارية.

ولكن وبصرف النظر عن صحة أو خطأ يعالون بخصوص الحرب فإن المؤكد أن خطة الفصل لم توضع من أجل تقريب الطرفين نحو إبرام اتفاق سلام. وبالتالي يتعذّر حتى على الأميركيين تسويقها وكأنها كذلك. كل ما بقي التثبت منه هو: هل ستنفذ الخطة؟ وهل ستكون وفق التنبؤات أم ستبقى مجرد حدث لن يغير كثيراً من وجهة الأمور؟.