السلام "الممكن" بحسب شارون

منذ أن أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي، أريئيل شارون، عن أول تأجيل لتطبيق خطة "فك الارتباط" بحوالي الشهر حذّر معلقان على الأقل من كبار المعلقين الإسرائيليين من أن تحركات شارون الأخيرة تشي بأنه ماض نحو ما من شأنه تأبيد النزاع مع الفلسطينيين، ولا شيء أقل من ذلك.

فقد أشار ألوف بن (المعلق السياسي لصحيفة "هآرتس") إلى أنه في المقابلات التي منحها في الآونة الأخيرة وسّع شارون حدود الصراع الإسرائيلي- العربي (في قراءة إسرائيل بطبيعة الأمر) من "نقاش حول أراضٍ، سكان وترتيبات أمنية"، إلى "خلاف أيديولوجي". ومع أن شارون، برأي بن، محقّ في ادعائه أن العرب لا يعترفون بـ"حق الشعب اليهودي في إقامة دولة في أرض موطنه"، بيدَ أن استنتاجه أن السلام لن يكون ممكناً إلا بعد أن يُربي العرب أولادهم بروح الصهيونية يقود إلى تخليد المواجهة.

وأضاف: الآن يشعر شارون بالندم لأنه ركّز طوال السنين الماضية على قضايا الأمن أكثر مما ركّز على مسألة "الحق". فقد علّمه والده التمييز بين الحقوق "على الأرض"، والتي هي حقوق يهودية برمتها، وبين الحقوق "في الأرض" التي يملكها سكان آخرون. وبحسب أسلوب شارون هكذا يجب تربية المعلمين العرب أيضاً، ومن ورائهم تلاميذهم، إلى أن يُنشد كل طفل في صنعاء وكازابلانكا، في الإسكندرية وحلب، "أرض إسرائيل لشعب إسرائيل". حينها فقط يصبح السلام ممكناً.

أما عوزي بنزيمان (وهو كاتب متخصص أكثر شيء في سيرة شارون) فقد أعرب عن شكوكه في أن تفلح خطة "فك الارتباط" في الأيلولة إلى حل على أساس "دولتين للشعبين". وضمن أمور أخرى كتب في صحيفة "هآرتس" يقول: في الجهاز السلطوي الإسرائيلي يصعب إيجاد شخص موثوق فيه يقول لك إلى أين تسير مبادرة "فك الارتباط". هذه الخطوة التاريخية تبدو بصورة متزايدة مثل سلسلة عمليات عفوية أكثر من كونها خطة هيكلية معدة ومضبوطة المعايير. فخلافًا للتخطيط الذي بذله مجلس الأمن القومي في عملية توزيع المستوطنين الذين سيتم إخلاؤهم على التجمعات السكانية القائمة داخل الخط الأخضر، يأتينا رئيس الوزراء ويطرح بصورة طائشة اقتراحا بديلا: نقلهم بصورة جماعية إلى منطقة نيتسانيم. وديوان رئيس الوزراء بادر إلى زيادة التعويضات الممنوحة للمستوطنين، خلافا للمبالغ التي حددتها اللجان البين وزارية الاختصاصية. كما أنهم غيروا موعد الإخلاء نتيجة للضغوط التي تلوح من هنا وهناك، رغم أن تزامن الانسحاب مع المواعيد السنوية كان معروفًا سلفًا.

إلا أن هذه ملموسيات هامشية في رأي بنزيمان مقايسة بالفشل الأكثر جوهرية في العملية، والناجم عن أن أحدًا في قمة هرم الحكم لا يعرف ماذا سيحدث غداة وضع "فك الارتباط" موضع التطبيق، لافتًا إلى أنه لم يجر نقاش محكم حول ذلك في أي إطار رسمي- لا داخل الحكومة ولا في المجلس الوزاري المصغّر. أما في الجيش الإسرائيلي فمع أنهم يتدارسون سيناريوهات لما سيترتب على "فك الارتباط" وتداعياته، إلا أن هذه النقاشات ليست متجوهرة في أمور عينية محدّدة لأن المستوى السياسي لا يطرح أهدافه وغاياته على الأمد البعيد.

لا ينبغي التعامل- استدراكًا- مع ملاحظتنا بصدد تحذير المعلقين المذكورين وتوقيته قريبًا من إعلان التأجيل بكونها تسليمًا بأن تحركات شارون، التي كانت سابقة على الإعلان المذكور، تعني أنه سائر في وجهة تفضي إلى إنجاز "حل الدولتين". بيد أنها تتيح الإتيان بتفاصيل مزيدة تنضاف إلى ما تراكم قبلها فيما يتعلق بمسلكه ووجهته.

ومع أنه من الصعب الجزم منذ الآن، على صلة بما يقوله هذان المعلقان تحديدًا، فيما إذا كان شارون عاقدًا العزم فعلا على تطبيق "فك الارتباط" عن قطاع غزة وأجزاء من شمال الضفة الغربية، باعتبارها الخطة الوحيدة التي لا يني عن توكيد تمسكه بها، فإنه ليس صعبًا البتة رؤية ازدياد متاعب شارون مع اقتراب الموعد المقرر لهذا التطبيق، سواء على مستوى مختلف التحركات الحزبية والسياسية أو على مستوى انفلاتات المستوطنين أنفسهم في السرّ وفي العلن. وذلك حتى من دون أن نتحدث عن انخفاض مستوى تأييد الرأي العام الإسرائيلي للخطة، حسبما أشار استطلاع أخير لصحيفة "معاريف" (أظهر الاستطلاع أن نسبة الإسرائيليين الذين يؤيدون خطة الانفصال انخفضت إلى 54 بالمئة بعد أن كانت هذه النسبة قبل أسابيع قد وصلت إلى 61 بالمئة).

ومع أن الاستطلاع نفسه بيّن أن نسبة معارضي الخطة لم ترتفع كثيرا وإنما بـ2 بالمئة فقط- من 31 إلى 33 بالمئة- فإن الصحيفة توضح أن غالبية الإسرائيليين الذين تراجعوا عن تأييد الخطة لم ينتقلوا إلى معسكر المعارضين وإنما إلى معسكر المترددين، الذين ارتفعت نسبتهم من 7 إلى 11 بالمئة، ما يعيدنا إلى الشكوك حول جدية شارون في المضي قدمًا بتطبيق الخطة.

ينوّه ألوف بن بأن "السيرة الذاتية الغنية" لشارون في الجيش والسياسة تشكّل التعبير الجلي عن مقولة "الوقائع على الأرض": سنضرب العرب بالهراوة والمستوطنات إلى أن يقبلوا شروطنا. كما أن "رسالة بوش" (رسالة الضمانات) التي بعث بها السنة الماضية والتي يعرضها شارون باعتبارها قمة إنجازاته السياسية، تعترف بوجود المستوطنات كأساس للحدود المستقبلية بين إسرائيل وفلسطين. وثمة في هذا الأمر دمج ناجح للصهيونية العملية (عنزة أخرى وبيت في مستوطنة) مع الصهيونية السياسية التي سعت للحصول على اعتراف الدول العظمى.

في ضوء ذلك فحسب يؤكد ما كشفت النقاب عنه صحيفة "معاريف" أمس الاثنين، بشأن قرب البدء بأعمال ضم مستوطنة "معاليه أدوميم" إلى القدس بواسطة بناء قسم آخر من الجدار، أن رهان شارون الأساسي في الفترة المقبلة هو على "الوقائع في الأرض"، كما يوضح نبأ الصحيفة الإسرائيلية أيضًا. ولعل من نافلة القول إنه رهان لا يصيب "حل الدولتين" في مقتل فحسب، وإنما يحيل أيضًا إلى "مفهوم" السلام الإسرائيلي في أية مفاوضات قد تجري مستقبلا.

ولا ينبع لهاث شارون خلف هذا الرهان من طبيعته المتأصلة فقط، وإنما أيضًا من مناخ الاحتواء والتأييد الذي يحيط به من كل حدب وصوب (ليس مبالغة). وفضلا عن إشارة استطلاع "معاريف" السالف إلى ارتفاع شعبيته على وجه العموم فإن أفعاله في مضمار "الحفاظ على الاستيطان اليهودي" تمسّ شغاف قلب الوسط السياسي في إسرائيل، كما أشير إلى ذلك مرارًا وتكرارًا في الآونة الأخيرة.

فليس سرًا أن الجميع في إسرائيل، ربما باستثناء حركة "السلام الآن" وبعض حركات اليسار الراديكالي، في نفوسهم هوى لا يوصف لـ"معاليه أدوميم" و"أريئيل". وإيهود باراك، الذي يطمح إلى منافسة شارون بعد فوزه في انتخابات رئاسة "العمل" التي بدأ الإعداد لها هذه الأيام، يلتف عليه من اليمين ويحذّر من فقدان الكتل الاستيطانية بسبب النهم المفرط. وشمعون بيريس، رئيس "العمل" الحالي، تمتم محتجا على "توقيت" الإعلان عن خطة البناء السابقة في "معاليه أدوميم"، ولكنه لم يعترض على المبدأ، ما يعني أنه متساوق مع شارون في خطة الضم الجديدة.

النتيجة المطلوب استخلاصها هي أن الانتخابات الإسرائيلية القادمة ستدور، إذًا، حول قضية من الذي سيحافظ على "أريئيل" وأخواتها من المستوطنات أفضل من الآخر. وهناك شك فيما إذا كان ثمة من يستطيع منافسة شارون أفضل منه في ذلك.