بعض ملامح الخريطة الإدراكية الإسرائيلية

لا تنقل وسائل الإعلام العربية سوى الأخبار السياسية وأحياناً الاقتصادية عن الدولة الإسرائيلية، ونادرا ما تنقل أخبارا اجتماعية. ولكن ماذا عن الخريطة الإدراكية الإسرائيلية، أي كيف يرى الإسرائيليون أنفسهم وحاضرهم ومستقبلهم؟ وماذا عن مشاعرهم ووجدانهم وأحلامهم ودوافعهم؟ ما هي طبيعة إدراكهم للفلسطينيين ولأنفسهم؟. كل هذه الأسئلة لا تجيب عليها التغطية السياسية والاقتصادية المجردة والعامة. فالكثيرون ممن يرصدون التجمع الصهيوني لا يدركون أن رصد سلوك الإسرائيليين دون إدراك لدوافعهم الداخلية ورؤاهم وما يدور في عقولهم هو رصد لحركات لا دلالة لها، أو حركات يمكن أن نفرض عليها أي دلالة. ولذا أذهب إلى ضرورة دراسة دوافع الإسرائيليين ورؤاهم وتوقعاتهم من أنفسهم ومن مجتمعهم. فالإنسان، في معظم الأحيان، لا يستجيب للدافع أو المؤثر المادي المباشر وإنما يستجيب لهذا الدافع أو المؤثر كما يدركه وبمقدار ما يسقط عليه من أساطير وأوهام.

وكي نصل إلى بعض ملامح الخريطة الإدراكية التي تحدد علاقة المستوطنين الصهاينة بواقعهم وبالفلسطينيين وسلوكهم، سنطالع سوياً مقال سلمان ناطور وهو من عرب 1948. عنوان المقال "هل حقاً هذا ما فعلناه بكم؟"، ويتناول بعض الأساطير الصهيونية، مثل أن فلسطين أرض بلا شعب، وأن شعبها جماعات من البدو غير مستقرة، تركت أرضها ليس بسبب الإرهاب الصهيوني، وإنما لأسباب مختلفة من بينها أنهم باعوا أرضهم أو أن القادة العرب هم الذين طلبوا من الفلسطينيين أن يغادروا أرضهم حتى يتم تطهيرها من اليهود، ومن ثم فالصهاينة لم يرتكبوا جرماً أو إثماً. وقد لاحظ سلمان ناطور أن الأمر آخذ في التغير.

ولكن، ما نسبة هذا التغير؟ يبدو أنها نسبة ضئيلة للغاية. ففي استطلاع للرأي قام به المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار) حول "مواقف اليهود في إسرائيل إزاء مواضيع مختلفة متعلقة بالنزاع الإسرائيلي- الفلسطيني" تبين أن 3 % فقط من مجموع الذين شملهم الاستطلاع يعترفون بأن إسرائيل ارتكبت إثماً ضد الفلسطينيين، بينما نجد أن 57 % يدعون أن الفلسطينيين أخطأوا التصرف فألحقوا الضرر بأنفسهم، وهذه صياغة تعني التهرب من أي مسؤولية خلقية. بل إن 18% قالوا إن الفلسطينيين تعرضوا لما يستحقون، وهذه إجابة يصعب فهمها. وهناك 16 % لجأوا لصياغة مبهمة تعترف بوقوع إثم وتتهرب من المسؤولية الأخلاقية في الوقت ذاته، إذ قال 16% إنه تم ارتكاب إثم ضد الفلسطينيين بغض النظر عن المسؤول عنه! والنسبة الباقية لم تجب على أي من الأسئلة السابقة.

وقد توصل استطلاع الرأي الذي سبقت الإشارة إليه أن 74 % من كل اليهود الإسرائيليين يرون أن أهم عوامل بقاء إسرائيل هو تفوقها العسكري، أي أنهم يرون أن العامل الأمني هو أهم العوامل. وقال 48 % ممن شملهم الاستطلاع إن أهم عوامل بقاء إسرائيل هو هجرة يهود العالم إليها. قالوا هذا وهم يعلمون تمام العلم أن يهود العالم، خاصة يهود الولايات المتحدة الذين يشكلون غالبيتهم، لا ينوون الهجرة. وقد قال 47 % إن أقامة علاقات طبيعية مع الفلسطينيين والدول العربية والاندماج الاقتصادي والثقافي في الشرق الأوسط هي أهم العوامل. وقد يبدو وكأن هناك تناقضاً في هذه الإجابات، ولكن الأمر غير ذلك. فهجرة يهود العالم إلى الدولة الصهيونية هي جزء من الحل الأمني، لأنها تعني وصول مادة بشرية قتالية ورأسمال وكفاءات تنعش الاقتصاد الإسرائيلي. أما مسألة الاندماج الاقتصادي والثقافي فلم يبين الاستطلاع شروط هذا الاندماج. ولكن يمكن للباحث أن يخمن.

فالاندماج لا بد وأن يتم حسب الشروط الصهيونية، والتي تعني في واقع الأمر الرضوخ والاستسلام للخريطة الإدراكية والشروط العنصرية والإسرائيلية.

وموقف الإسرائيليين من المستوطنات في الضفة الغربية يتفاوت حسب موقعهم الجغرافي.

ففي استطلاع أجراه يائير شيلغ وجد أن 55 % ممن شملهم الاستطلاع يرون أن المستوطنات تشكل عبئاً اقتصادياً وأنه ليس لها أهمية أمنية، وأنه يجب إلغاء كل المزايا الاقتصادية الممنوحة للمستوطنين.

وبينما نجد أن ثمة انقساماً بين الصهاينة بخصوص فك المستوطنات (45 % عارضوا فك المستوطنات ووافق 51 %) وبخصوص إقامة دولة فلسطينية في الأرض التي احتلت عام 67 (34 % وافقوا، 65 % عارضوا) فإن مثل هذا الانقسام يتلاشى تماماً عند مناقشة حق العودة. إذ لا يوافق سوى 2 % على الاعتراف بهذا الحق، ويميل 5 % إلى الموافقة، ويعارضه 84 % بالإضافة إلى 7 % يميلون إلى المعارضة.

ونفس الموقف الرافض لحق العودة يتضح في مقال "أمنون دنكنر" عن مقال كتبه صحفي إسرائيلي هو "عاموس شوكين" يدعو للزواج المختلط بين الإسرائيليين والعرب كطريقة لتحقيق السلام في الشرق الأوسط (معاريف 8 مايو 2005). ويعترض "أمنون دنكنر" على هذه الدعوة وينبه إلى مخاطرها على التجمع الصهيوني. فيشير إلى حق العودة، والرؤية الفلسطينية الراسخة أن رحم المرأة الفلسطينية سيغرق في نهاية الأمر الأكثرية اليهودية، ويضيف مستنكرا: "كيف يمكن اقتراح أنه من أجل الحفاظ على الأكثرية اليهودية بعد ذلك فإن جماهير العرب (الذين يقترح شوكين عليهم بسخاء الدخول ها هنا والاستيطان معنا) لن تكون لها حقوق مستوطنين وإنما حقوق سكان فحسب؟. فحتى لو لم يكونوا هم وأولادهم بعدهم على مدى الأجيال مستحقين للمواطنة، فإنهم عندما سيكونون أكثرية واضحة في البلاد، فلمن ستكون البلاد؟ هل للأقلية من مواطنيها، أم للأكثرية من سكانها؟".

ويستطرد: "كل هذا يهين الوعي. لكن هناك إهانة أكبر: إن الشعب اليهودي في العالم يتآكل بمعدل يسبب الذعر بزواجات مختلطة وبابتعاد عن اليهودية، ونجد ناشر صحيفة النخبة المثقفة الإسرائيلية يؤيد الذوبان، ويراه الطريقة المثلى لتحقيق السلام. والإهانة الأكثر خطرا هي تلك التي يجب أن يشعر بها أولئك من بيننا الذين يشاركون شوكين إرادته السلمية مع الاستعداد لتقديم بعض التنازلات الأليمة. وهنا يتضح لهم أنهم عقدوا حلفا مع الشيطان، وأن شريكهم هذا يدبر، في جوهر الأمر، بالضبط كما يدبر الأسوأ من أعدائنا، أن يجلب تحت غطاء السلام، نهاية وجود إسرائيل كدولة يهودية".

ولنلاحظ ما يلي:

- أن الهاجس الديمغرافي جزء أساسي من الخريطة الإدراكية الإسرائيلية.

- أن نهاية وجود إسرائيل كدولة يهودية تطارد الوجدان الإسرائيلي بحدة وهي تعيد طرح نفسها بمناسبة وبغير مناسبة.

- أن رفض حق العودة هو العنصر الأساسي والثابت في الخريطة الإدراكية الإسرائيلية.