هل ستضمن إسرائيل بقاءها؟

أثار الصحافي الأميركي بنجامين شفارتس ضجة كبيرة في الأوساط السياسية والصحفية في إسرائيل، بسبب مقالة نشرها في مجلة "اتلانتيك" الأميركية، التي تصدر في بوسطن (عدد شهر مايو الحالي) وعنوانها: "هل ستبقى إسرائيل بعد مئة عام؟". إذ اعتبرت هذه المقالة بمثابة صدمة لإسرائيل، كونها لم تنشر في صحيفة عربية، وإنما في صحيفة أميركية، ثم باعتبار أن كاتبها ليس من كارهي إسرائيل، وليس عربيا، وإنما أميركي ومن كبار محرري مجلة اتلانتيك، إضافة إلى كونه يعمل باحثا في معهد "راند" للأبحاث. والأهم من هذا وذاك، كما هو واضح من عنوان المقالة، أن شفارتس يتنبأ بأن إسرائيل لن تستطيع البقاء حتى العام 2048، بمعنى أنها لن تكمل المئة عام.

الواقع أن شفارتس ليس فريد نوعه في طرح هذا السؤال الوجودي الذي ظل يقضّ مضاجع الإسرائيليين، منذ قيام دولتهم المصطنعة قبل أكثر من خمسين عاما على حساب الشعب الفلسطيني، فقبله كثيرون وضمنهم إسرائيليون حذروا بصراحة وجرأة عن هذا السيناريو.

مثلا، فقد قام ابراهام بورغ، الرئيس السابق للكنيست الإسرائيلي وأحد زعماء حزب العمل، في مقال نشره العام الماضي، بنعي دولة إسرائيل والمشروع الصهيوني، قائلا: "الدولة الإسرائيلية تقوم الآن على الفساد والقمع والظلم. وبناء عليه، نهاية المشروع الصهيوني وشيكة جداً. وهناك احتمال كبير بأن يكون جيلنا آخر أجيال الصهاينة.. قد تبقى الدولة اليهودية قائمة لكنها ستكون من نوع مختلف، غريبة وقبيحة.. الدولة التي تفتقر إلى العدالة لا تدوم. لا يمكن أن ينجح هذا.. لا يمكن الاحتفاظ بكل شيء بدون دفع ثمن. لا يمكن أن نترك غالبية فلسطينية تحت الجزمة الإسرائيلية ونعتبر أنفسنا في الوقت عينه الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط. لا ديمقراطية بدون حقوق متساوية لكل من يعيشون هنا، العرب واليهود على حد سواء". ("يديعوت أحرونوت"، 9/4/2004).

ربما لو جاء نعي إسرائيل من شخصيات عربية، لجزمنا سلفا أنه يمثل نوعا من التمنيات الذاتية، التي اعتادت عليها الخطابات العربية، ولكن أهمية هذا الأمر بالذات أنه يأتي من شخصيات فكرية وسياسية: أميركية وإسرائيلية. وثمة تيار فكري وأكاديمي في إسرائيل، يتمثل بتيار "ما بعد الصهيونية"، يعتبر أن الصهيونية ماتت مع قيام مشروعها (إسرائيل)، وحتى أنه يعتبر قيام إسرائيل جريمة أخلاقية وسياسية وقانونية، كونها قامت على خرائب الشعب الفلسطيني، وهذا التيار يطالب بتصحيح الوضع بقيام دولة المواطنين أو دولة ثنائية القومية.

أيضا، ربما يشي هذا النعي بنوع من المفارقة، للوهلة الأولى، بالنظر لقوة إسرائيل وإمكانياتها الكبيرة، بالقياس لمحيطها، وبالنظر للدعم الدولي الذي تحظى به، خصوصا من الولايات المتحدة، القطب المهيمن على العلاقات الدولية، وفي مختلف المجالات، السياسية والأمنية والاقتصادية والتكنولوجية. ولكن لو تمعنّا في الوضع فسرعان ما سنجد أن إسرائيل هذه، برغم جبروتها وصلفها وعنتها، وبرغم اعتداءاتها واحتلالاتها، دولة هشة، لا تقوم على مرتكزات صلبة، ولذلك فهي سريعة العطب، ما يعطي شرعية للسؤال عن إمكان استمرارها من عدم ذلك.

وبشكل أكثر تحديدا فإننا إذا تفحصنا إسرائيل جيدا فسنجد أنها، وبسبب من طبيعتها وطريقة تكونها التاريخي، مليئة بالتناقضات، فهذه الدولة لم تقم كنتاج طبيعي لتطور المجتمع الاستيطاني في فلسطين، وإنما قامت بفعل الهجرة الاستيطانية إلى هذا البلد، منذ أواخر القرن التاسع عشر. وهذه الدولة لم تقم بطريقة سلمية، أو نتيجة التوافق مع أهل الأرض الأصليين، وإنما قامت بالوسائل العسكرية، أي بالقوة وبالرغم عن إرادة أصحاب هذه الأرض.

المعروف أن كل الدول الحديثة في العالم نشأت كنتاج لتطور تاريخي لكتلة مجتمعية معينة في إقليم جغرافي معين، حتى الولايات المتحدة واستراليا وكندا (التي قامت على الاستيطان)، إلا إسرائيل هي نشاز في ذلك، فقد أنشئت مؤسسات الدولة، وجلب المجتمع عبر الهجرة والاستيطان، وتم استلاب الأرض، لإعلان قيام الدولة عليها في مايو من العام 1948.

مشكلة إسرائيل أنها أيضا فريدة نوعها في التناقضات التي نشأت معها منذ قيامها، فهذه الدولة ادّعت العلمانية في حين أنها دولة دينية، في قوانينها ورموزها والأيدلوجية التي حكمت قيامها. وهذه الدولة التي اعتبرت نفسها واحة الديمقراطية والحداثة في الشرق الأوسط، تعتبر نفسها دولة يهودية، ما يجعل منها دولة عنصرية، كونها تمارس التمييز ضد السكان من مواطنيها بسبب الدين والقومية. ثم أن هذه الدولة تتحدث عن الجماعة الدينية بوصفها جماعة قومية!

وباختصار فثمة تناقضات مستحكمة في إسرائيل من نوع التناقض بين العلمانيين والمتدينين، والشرقيين والغربيين، والعرب واليهود، وبين كون إسرائيل مركز اليهودية أم أحد مراكزهم، وبين اليهودية كهوية قومية والإسرائيلية كهوية قومية متعينة، وبين أنصار التسوية ومعارضيها.

فوق كل ذلك فإن إسرائيل ظلت محكومة بتناقضاتها الخارجية، فهذه الدولة، بسبب من طبيعتها الاستيطانية العنصرية الغيبيّة، لم تستطع إجراء مصالحة تاريخية مع أصحاب هذه المنطقة (العرب عموما والفلسطينيين خصوصا)، على العكس من ذلك فهي ظلت تعتدي عليهم وتحتل المزيد من أرضهم؛ إضافة إلى أنها لم ترض القيام بإيجاد تسوية للتصالح مع تاريخ المنطقة وجغرافيتها وثقافتها، إذ ظلت تعتبر قيامها حقا مطلقا، بتبريرات سياسية وعنصرية. هكذا رفضت إسرائيل تحديد حدودها الجغرافية لدواع أمنية، كما أنها رفضت الاندراج في التاريخ الثقافي للمنطقة، برغم أنها مهد الديانة اليهودية، مفضلة اعتبار نفسها امتدادا للغرب، وجزءا من حضارته!

هكذا صعُب على إسرائيل، باعتبارها دولة استيطانيةـ احلالية، قامت بوسائل القوة والقهر، وعلى أساس ادعاءات دينيةـ أسطورية، التوجه بذاتها نحو مصالحة مع تاريخها ومحيطها، برغم التحولات الدولية والإقليمية الحاصلة لصالحها؛ لأن هذا يتنافى مع مبررات وجودها السياسية والأخلاقية والأيدلوجية.

وهذه المفارقات تبدو غاية الوضوح، مثلا، في ظهور إسرائيل بمظهر الدولة المعزولة والمتهمة والمشكوك بشرعيتها دوليا، برغم كونها الدولة الأكثر استفادة (كما يفترض) من كل التطورات الإقليمية والدولية التي حدثت في العالم، منذ قيامها وحتى اليوم؛ من مرحلة القطبين إلى مرحلة القطب الأميركي الأوحد، إلى مرحلة الحرب على الإرهاب واحتلال العراق.

هكذا نشهد اليوم، مثلا، كيف أن إسرائيل التي تحرص على تأكيد انتمائها للغرب، أكثر دولة يحرص الغرب على انتقادها واعتبارها عبئا عليه، من النواحي السياسية والأخلاقية والأمنية. ونشهد كيف تبدو إسرائيل في وضع يتيح لها الاستفراد بالفلسطينيين والإمعان بهم قتلا وتدميرا، إلا أنها تبدو أيضا عاجزة عن فرض إملاءاتها عليهم. تماما مثلما نشهد أن إسرائيل، وهي الدولة القوية والمتفوقة والمستقرة في وسط العالم العربي وبالرغم عنه، قلقة على مصيرها وحائرة بالنسبة لمستقبلها فيه، ما يجعلها تعيش هاجسا وجوديا مزمناً!

معنى ذلك أن ما جاء به شفارتس، وقبله بورغ، بالنسبة للشك في مستقبل إسرائيل ليس جديدا، بمعنى الكلمة، فقط أهميته تكمن في أنه يجدد طرح سؤال المصير، وبكل جرأة، على إسرائيل والإسرائيليين، ليضعهم أمام لحظة الحقيقة، ويكشف البرقع الذي يحجبون خلفه واقعهم الهش وتناقضاتهم المستعصية، ومن ضمن ذلك التناقض بينهم وبين المعايير الدولية، حيث تتأسس الدول على أساس المواطنة والمساواة أمام القانون، وحيث يجري التصالح مع الجغرافيا والتاريخ والبشر، لا العكس.

حتى الآن أجّلت إسرائيل، وبالأحرى تهرّبت، من الأسئلة المصيرية المطروحة عليها، منذ قيامها. وهي نجحت في ضبط تناقضاتها وأزماتها الداخلية والخارجية، والسيطرة وتوجيهها، بما يخدم مصالحها وأولوياتها، بفضل ديمقراطيتها (نسبة لمواطنيها اليهود) وإدارتها الحديثة، وبفضل الدعم الذي تحظى به على الصعيد الدولي، وخصوصا ضمان الولايات المتحدة لأمنها وتفوقها في المنطقة.

لكن بالتأكيد فإن إسرائيل هذه لم تنجح بالرغم عن التاريخ، وإنما نجحت بفضله، أي بسبب طبيعة النظام الدولي، وخصوصا بسبب الواقع العربي، الذي ظل قاصرا عن مواجهة التحدي الذي تمثله لهذه المنطقة.

لكن من يضمن استمرار هذه المعطيات، كي يضمن تاليا بقاء إسرائيل؟! ربما تلك هي الرسالة التي أراد شفارتس وقبله بورغ توجيهها.