إسرائيل و"الـهوية الأوروبية الجديدة في ميادين الأمن"

يسود بين بعض الأوساط في إسرائيل، الاعتقاد أنه بإزاء سير أوروبا في منحى تكوين "هوية أمنية جديدة" لنفسها، يتعيّن إعادة ترتيب الأوراق في إسرائيل من النواحي كافة، السياسية والإستراتيجية والعسكرية.

وقد عبّر عن هذا أخيرًا الكتاب/المذكرة الصادر عن "مركز يافه للدراسات الإستراتيجية" في جامعة تل أبيب في آذار 2005 والذي يحمل عنوان "هوية أوروبية جديدة في ميادين الأمن".

مؤلف الكتاب هو العميد في الاحتياط عوزي عيلام، وهو باحث زميل في المعهد المذكور منذ 2002. وقبل ذلك أشغل منصب المدير العام لوفد وزارة الدفاع الإسرائيلية إلى أوروبا، الذي كان يتخذ من باريس مقرًا له، وذلك بعد تدرّجه في مناصب عديدة ضمن قيادة هيئة أركان الجيش الإسرائيلي وديوان رئيس الوزراء ووزارة الدفاع، بداية كقائد في وحدة المظليين ثم كمدير وحدة الأبحاث والتطوير في هيئة أركان الجيش والمدير العام للجنة الطاقة الذرية في ديوان رئيس الوزراء والعالم الرئيسي ورئيس مديرية تطوير الوسائل القتالية والبنى التحتية في وزارة الدفاع.

تعرض المذكرة ما تعتبر أنه "الوجه الجديد" لأوروبا في ميادين الدفاع والأمن. ويسلسل المؤلف المراحل المختلفة في تكوّن هوية أوروبا الأمنية عبر تحليل العوائق التي تعترض طريق استكمال هذا التكوّن. كما يقدم توصيفًا مفصّلاً لعلاقات إسرائيل مع أوروبا وتشريحًا للإمكانيات المختلفة المتاحة أمام التعاون بين إسرائيل ودول الاتحاد الأوروبي. وتتطرق نتائج البحث إلى الجوانب السياسية والعوامل القسرية الأوروبية الداخلية وأيضًا إلى الخيارات المختلفة التي يمكن أن تنفتح أمام إسرائيل إذا ما عرف قباطنتها كيفية "موازنة وتدبّر ممارستهم بحكمة"، على ما يقول المؤلف.

يرى المؤلف أن الهوية الأمنية الجديدة تطورت في أوروبا على مدار السنوات الخمس عشرة الفائتة منذ انهيار الكتلة السوفياتية- الأوروبية الشرقية وانتهاء الحرب الباردة. وقد تطلب الأمر، في قراءته، عدة سنوات حتى تمكنت هذه القارة من بلوغ ما يسميه "نقطة التوازن الجديدة".

ومن ضمن السيرورات، التي يدرجها في عداد عوامل الأيلولة إلى تلك النقطة، يخصّ بالذكر ما يلي: توحيد ألمانيا وتطور الاتحاد الأوروبي كعنصر مركزي في أوروبا والتقدم الاقتصادي والمالي، بما في ذلك اعتماد عملة نقدية مشتركة.

ويشير إلى أن طريق أوروبا نحو الوحدة تميزت بمدّ وجزر، تقدم وتراجع. وهذا المسار المتعرّج انسحب، كذلك، على بلورة هويتها الأمنية. وبينما يؤكد أن لقاء "سان ميلو" لقادة بريطانيا وفرنسا في كانون الأول 1998 كان بمثابة "نقطة تحوّل" في سياسة الأمن والدفاع الأوروبية، وهي النقطة التي أتاحت لاحقًا المشاركة في الحرب على كوسوفو واتخاذ القرارات المتعلقة بإنشاء القوة الأوروبية للرد السريع، فإنه يشير إلى أن الأحداث في العالم بعد هجمات الحادي عشر من أيلول 2001 والانعطاف في سياسة الولايات المتحدة، سواء إزاء طابع "الحرب على الإرهاب" أو إزاء تدخلها في أمن أوروبا، أدت دورًا بالغ الأثر في قرارات الاتحاد الأوروبي المرتبطة بضرورة بلورة قدرة فاعلية عسكرية مستقلة. كما يلفت إلى أنه كان هناك تراجع كبير في التكاتف الأمني الأوروبي في أعقاب الأزمة بشأن قرارات المشاركة في الحرب ضد العراق. وكانت للخلافات الحادة في الآراء في هذا الخصوص، سواء بين دول أوروبا نفسها أو بين بعضها وبين الولايات المتحدة، إسقاطات لا تزال مستمرة على كل شبكة نشاط الأمن والدفاع في الاتحاد الأوروبي.

وإجمالاً فإن هناك ثلاثة اتجاهات سياسية مركزية، ترتسم من القرارات التي اتخذها الاتحاد الأوروبي في السنوات الأخيرة فيما يختص بـ"الهوية الأمنية" الجديدة: أولاً- بناء قدرات أوروبية عسكرية مستقلة لمعالجة الأزمات، على أساس الاستفادة من دروس أزمة كوسوفو. ثانيًا- الاضطلاع بالمسؤولية الكاملة عن مواضيع الأمن الأوروبية كافتها، بما في ذلك قضايا الشراء والصناعات الأمنية المختلفة. ثالثًا- إعادة التنظم في مواجهة أخطار الإرهاب العالمي في أعقاب هجمات 11 أيلول 2001 واتساع خطر الإرهاب حيال أوروبا كافة.

يضاف إلى ذلك أن الأمن الأوروبي سيخضع لمسؤولية هيئتين: الأولى الإتحاد الأوروبي "الذي أخذ على عاتقه مسؤولية قضايا الأمن الداخلي". والثانية حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي سيواصل الاهتمام بالبعد الإستراتيجي الأوسع، بما في ذلك قدرة الحرب على الإرهاب الدولي والبنية التحتية العسكرية التنظيمية واللوجستية. ويشدّد الباحث على أن الميزانيات، التي تخصصها دول أوروبا لزيادة قوتها العسكرية وكذلك للبحث والتطوير في المجال العسكري، لا تزال منخفضة جدًا ويبدو أنها ستبقى كذلك حتى إشعار آخر. وهذه الحقيقة تتيح قدرًا كبيرًا من الانفتاح والتعاون مع دول ومجتمعات خارج القارة فضلاً وفي موازاة العلاقات والالتزامات داخل أوروبا ذاتها. وتلك هي "الثغرة" التي يمكن لإسرائيل أن تنفذ منها.

بطبيعة الحال يمكن الاستطراد أكثر فأكثر في قراءة تحليلات الكاتب للتطورات الأوروبية المخصوصة، غير أن المهم في هذا الكتاب يبقى من نصيب التوصيات التي يرفعها إلى قادة الحكم في إسرائيل.

يرى عيلام في هذا الشأن، كما سلفت الإشارة، أن الهوية الأمنية الجديدة الناشئة في أوروبا تستوجب صوغ إستراتيجية إسرائيلية جديدة تساعد أصحابها ليس في مواصلة التعاون مع أوروبا التي تتسع باستمرار فحسب، وإنما تساعد أيضًا في تعميق منظومة العلاقات الأمنية بين الطرفين. وبالتالي ينبغي بهذه الإستراتيجية أن تستند إلى "الأفضلية النسبية لإسرائيل" في الميادين التي تحتاج فيها أوروبا إلى مساعدة في سياق بناء هويتها الأمنية الجديدة.

وما يلبث أن يوضح أن ما يمكن أن يشكل رافعة لإسرائيل في هذا الموضوع هو "قدرتها التكنولوجية" في ميدان الصناعات العسكرية والأمنية، من جهة وخبرتها في "مواجهة الإرهاب"، من جهة أخرى.

ثمة تركيز جليّ في الكتاب على "الآفاق" المختلفة للتعاون الإسرائيلي- الأوروبي، سواء على مستوى الاتحاد الأوروبي أو على مستوى كل دولة عضو فيه على حدة. وإذا كنا لا نملك القدرة على استشراف احتمالات هذه "الآفاق"، التي يتعامل معها الكتاب باعتبارها "رؤيا مستقبلية"، في سياق ترجمتها إلى الواقع العملي الميداني، فإننا نملك القدرة على الإشارة إلى عوامل التنافر التي قد لا تجعل طريق التعاون في ما يسمى بـ"مكافحة الإرهاب" مفروشة بالرياحين.

ولا يستنكف عيلام عن التلميح إليها حين يعلن أنه في موضوع الإرهاب تبرز الحاجة، من ناحية إسرائيل، لمواجهة الموقف الأوروبي من "الإرهاب الفلسطيني". ويذكر المؤلف أن مقاربة الأوروبيين لهذا الموضوع لا تزال متأثرة بما يسميه "المواقف السياسية التقليدية التي تؤثر أن ترى فيه (أي في "الإرهاب") قتالاً شرعيًا لتحقيق الاستقلال وليس نشاطًا إرهابيًا بحد ذاته. وهذه الوضعية تثقل على الانفتاح الأوروبي في كل ما يتعلق بالتعاون مع إسرائيل في مضمار محاربة الإرهاب".

بيت القصيد إذًا هو أن تواصل إسرائيل تجييش التطورات، التي أعقبت هجمات الحادي عشر من أيلول 2001، في العالم وأيضًا في أوروبا، للتأثير على المواقف الأوروبية في هذا الشأن. والأمر الأكيد هو أنها، في هذا المنحى، لن تكون لوحدها وإنما ستحظى بمظلة سياسية كبيرة من جانب الإدارة الأميركية.

Terms used:

عوزي, الكتلة