شارون "الجديد"

منذ إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي، أريئيل شارون، عن "قبوله" لرؤيا الرئيس الأميركي جورج بوش لحل النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني المعتمدة على مبدأ الدولتين (أعلنت في 24 حزيران 2002)، ثمة انشغال غير مسبوق في إسرائيل بما اصطلح على توصيفه بـ"صورة شارون الجديدة"، مقارنة بصورته "القديمة" التي ارتسم وفقًا لها، فيما يتعلق على وجه التحديد بسيناريوهات تسوية النزاع المذكور، باعتباره من أشدّ الأعداء الألدّاء لفكرة قيام دولة عربية أخرى بين النهر والبحر وبكونه أكثر المتمسكين إن لم يكن "المبتكر" لمفهوم "الأردن هو الدولة الفلسطينية".

في صلب هذا الانشغال لفتني مؤخرًا رأي نقدي ثاقب لباحث إسرائيلي تعرّض لتفاصيل "صورة" شارون، بين ما كانت وما يعتقد أنها مستمرة عليه وبين ما يجري تسويقه من "عناصر جديدة" طرأت عليها، وأخضعها للفحص في ضوء مواقفه من حدثين هامين تزامنا، بهذا القدر أو ذاك، مع قبوله السالف لرؤيا بوش: الأول هو أحداث 11 أيلول في الولايات المتحدة. والحدث الثاني مبادرة السلام العربية التي أطلقتها قمة بيروت، مؤكدًا أنه إذا كان في الحدث الأول ما يفسر دوافع "التغيير" لدى شارون (أقلمة نفسه للظروف الدولية الجديدة التي شرعت الإدارة الأميركية البوشية تدفع بها خطوات كبيرة إلى الأمام) فإن الحدث الثاني قد وضع هذا "التغيير" على محكّ الاختبار العملي وأشّر إلى أن شارون، الرافض للمبادرة، لا يزال شارون.

في هذا الشأن كتب ذلك الباحث يقول "مقابل هذه المبادرة انكشفت حكومة شارون يكونها مجرّدة من أية رؤيا سياسية". وفي مجرّد هذا ما يحيل أو ينبغي له أن يحيل إلى أن "التغيير" الذي طرأ على شارون كان تكتيكيًا وليس تغييرًا جوهريًا، لناحية اتخاذ موقف أخلاقي يحقق نوعًا من العدل النسبي. وأعاد إلى الأذهان، في معرض الإلماح إلى حدود هذا "التغيير" وإلى ماهيته، أن ردود أفعال مماثلة من الاستخفاف وعدم الاكتراث صدرت عن إسرائيل الرسمية حيال الملك الأردني والرئيس المصري، اللذين توجها مباشرة إلى الشعب في إسرائيل عير لقاءات مع قنوات التلفزة الإسرائيلية. كما أنعش الذاكرة بأن ردود فعل أشدّ فظاظة صدرت حيال توجهات علنية من طرف الرئيس ياسر عرفات إلى الشعب في إسرائيل وقيادته. وفي إحدى المناسبات بعث عرفات بـ"رسالة مفتوحة إلى أصدقائي الإسرائيليين" (20 تموز 2001). وفي أخرى توجّه إلى الإسرائيليين والرأي العام العالمي عبر مقال ظهر في "نيويورك تايمز" (3 شباط 2002) تحت العنوان "حلم السلام الفلسطيني".

ما من شك الآن في أن هذا الانشغال مرشّح للتصاعد في غضون الفترة القليلة المقبلة، على ضوء نجاح شارون أخيرًا في إزالة جميع العقبات الداخلية التي اعترضت سبيل الانطلاق قدمًا نحو وضع خطة الانفصال عن قطاع غزة وشمال الضفة الغربية موضع التنفيذ، وذلك إلى ناحية إعادة إنتاج المزاعم التي تكرّس "الصورة الجديدة". وسيكون إخراج الحقائق من هذه المزاعم أشبه بعملية استخراج الكستناء من النار. فقد أصبح شارون محاطًا أكثر من ذي قبل برأي عام يدقّ له الطبول، واليسار (الصهيوني) الذي وقف له بالمرصاد ذات يوم بات الآن ينظم المظاهرات تأييداً له.. والأهم من كل ذلك أن وسائل الإعلام الإسرائيلية أصبح أداؤها منذ زمان مفارقًا لماهية الدور المفترض بوسائل إعلام الدول الديمقراطية أن تؤديه.

وربما يجدر هنا استعادة ما كتبه المعلق السياسي لصحيفة "هآرتس" ألوف بن، أخيرًا، تحت العنوان "فرحة البلدوزر"، وبالأخص قوله إن من اعتقد بأن شارون تحول إلى يساري وبدأ الاهتمام بـ"حقوق الفلسطينيين"، يكون قد ارتكب خطأ جسيمًا. فشارون لا يزال يعتقد أن البلدوزرات والشقق السكنية هي التي تحسم الحدود، بتأييد ودعم من أميركا. وأضاف أن سياسة الكتل الاستيطانية التي اتبعها شارون تُصيب قلب الوسط السياسي في إسرائيل. فإن الجميع يحبون معاليه ادوميم وأريئيل، باستثناء حركة السلام الآن وبعض الزاعقين من اليسار. إيهود باراك، الذي يريد منافسة شارون، يلتف عليه من اليمين ويحذّر من فقدان الكتل الاستيطانية بسبب النهم المفرط. وشمعون بيريس تمتم محتجا على "توقيت" الإعلان عن خطة البناء في معاليه أدوميم، ولكنه لم يعترض على المبدأ. النتيجة المطلوب استخلاصها هي أن الانتخابات القادمة ستدور، إذًا، حول قضية من الذي سيحافظ على أريئيل وبيت آرييه أفضل من الآخر.

في ضوء هذا كله ستكون المطالبة بنقاش معمّق حول القضايا الأساس التي لا ينبغي بـ"الصورة الجديدة" أن تغيّبها من نصيب قلة ضئيلة- القلة نفسها التي لا تنفك تقول إن من يعتقد بأن شارون قد تغيّر يرتكب خطأ فادحًا. غير أن قولها هذا سيضيع وسط الزحام وفي غمرة ركام الانشغال الذي لا يكلّ بتفاصيل أخرى عديمة القيمة في... "صورة شارون الجديدة"!

يوم السبت الأخير، وفي موازاة عرض المقاطع الرئيسية في "تقرير مدار الاستراتيجي 2005" عن المشهد الإسرائيلي في 2004، جرى الإعلان أيضًا عن نتائج استطلاع للرأي حول مواقف السكان اليهود في إسرائيل أجراه "مدار"، ويعتبر الاستطلاع الأول من نوعه.

ودلّ الاستطلاع، الذي جرى تنفيذه من قبل معهد "داحف" بإدارة د. مينا تسيمح على عينة من 501 يمثلون جميع فئات السكان البالغين في إسرائيل والمستوطنات الكولونيالية، مع هامش خطأ نسبته 5 بالمئة، ضمن أشياء أخرى، على أن 65 بالمئة من المستطلعين يعارضون، بكيفية ما، رغبة غالبية الفلسطينيين بإقامة دولة فلسطينية مستقلة في الأراضي التي احتلتها إسرائيل في حزيران 1967 (قال 50 بالمئة إنهم يعارضون ذلك بينما قال 15 بالمئة منهم إنهم يميلون إلى المعارضة).

وفي السياق الذي نكتب عنه كانت هذه النتيجة بالذات هامة في الاستطلاع (وهي تضاف بطبيعة الحال إلى نتائج أخرى ليست أقل أهمية) لكونها تعبّر دون روغان عن أن التأييد الإسرائيلي لمبدأ الدولتين ما زال يفصله بون شاسع عن التأييد المرتجى لجوهر الدولة المستقلة- التأييد الذي ينطوي على قدر نسبي من العدل ولكن على قدر مطلوب من الاستجابة للرغبة الفلسطينية.

Terms used:

هآرتس, باراك