أسلبة الإعلام الإسرائيلي

كتب الكثير عن وسائل الإعلام الإسرائيلية وعن ماهية أدائها للدور المفترض بوسائل إعلام الدول الديمقراطية أن تؤديه، خصوصًا في فترات الأزمات. لكن الاستطلاع العام الذي تجريه مرة كل سنتين مجلة "العين السابعة" المتخصصة في شؤون الاتصال والصادرة عن "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" ينفرد بتناوله لهذا الموضوع من زاوية شديدة الخصوصية- هي زاوية رؤية الصحفيين الإسرائيليين أنفسهم لهذا الأداء.

ثمة الكثير من النتائج المثيرة التي توصل إليها استطلاع 2004، وهو الثاني من نوعه، وننشر نتائجه في مكان آخر (مثلاً- معظم الصحفيين يواجهون- على الأقل بوتيرة معينة- حالات من تشويه الاقتباسات من قبل زملائهم الصحفيين، وحالات خنوع لتأثير اعتبارات تجارية على مضامين الأخبار وتغطية غير معقولة نتيجة لعلاقات هات وخذ بين الصحفيين ومصادر الأخبار. ويعتقد حوالي سبعة من كل عشرة صحفيين أن منظومات الإعلام لا تطبّق بالمدى المطلوب قواعد الأخلاق والاستقامة التي تطلبها من الأشخاص الذين تغطي أخبارهم. وقال حوالي نصف الصحفيين إنهم يتعرضون لضغوط شديدة من أجل التجاوب مع التوقعات بأي ثمن. وعلى المستوى الأكثر عملية أيضًا تشير نتائج البحث إلى أزمة شديدة في مشاعر الأمن والاستقرار لدى الصحفيين، وهي مشاعر من شأنها أن تمّس بقدرتهم على أداء عملهم بصورة مهنية. ويشعر حوالي ثلث الصحفيين أنهم لا يعتاشون بكرامة من مهنتهم ولا يشعر حوالي ربع منهم بالأمن فيما يتعلق بمكان عملهم. وأشار أربعة من كل عشرة صحفيين إلى تعرضهم لملاحقات أو مظاهر عداء من جانب الجمهور. وقد يكون الأمر الأكثر غرابة من كل ذلك، برأي معدي الاستطلاع، أن حوالي 40 بالمئة من المستجوبين أشاروا إلى أنهم كصحفيين في إسرائيل سنوات الألفين يشعرون أحيانًا بأنهم عرضة لخطر ملموس على حيواتهم).

وقد شمل هذا الاستطلاع، على وجه التحديد، سلسلة من الأسئلة لم يتضمنها الاستطلاع السابق الأول (2002) تتعلق بمفهوم الصحفيين لتأثير وسائل الإعلام، من جهة ومفهومهم للعناصر المؤثرة على وسائل الإعلام، من جهة أخرى.

وعلى صلة بذلك مال المستجوبون من الصحفيين الإسرائيليين إلى الاعتقاد بأن الجمهور (الرأي العام) يتأثر من وسائل الإعلام أكثر مما يؤثر فيها، في حين أن تأثير السياسيين على وسائل الإعلام أكبر نسبيًا. ويعتقد أغلب المستجوبين (54.5 في المئة) بأن تأثير السياسيين هذا هو تأثير سلبي أساسًا (ومن مثلهم يعرف). وفقط 3.8 في المئة يعتقدون بأن تأثير السياسيين هو "تأثير إيجابي بالأساس".

وأشارت نتيجة إضافية، ليست أقل إثارة، إلى فجوة كبيرة بين التأثيرات التي عزاها الصحفيون لوسائل الإعلام وبين المهمات النموذجية المعوّل على المؤسسات الإعلامية أن تؤديها، في قراءتهم. وفي هذا الشأن مال المستجوبون إلى الاعتقاد بأنه ينبغي على وسائل الإعلام، إلى حد يتراوح بين بعيد وبعيد جدًا، أن تكشف عن فساد الشخصيات العمومية وأن تصاعد التشديد على أن يفي السياسيون بوعودهم تجاه الجمهور الواسع وأن تدفع إلى الأمام قضية الحفاظ على حقوق الإنسان، لكن في الواقع العملي يشعر الصحفيون بأن وسائل الإعلام الإسرائيلية تؤدي هذه المهمات فقط على نطاق متوسط أو على نطاق أعلى قليلاً من المتوسط. كما يعتقد الصحفيون أن وسائل الإعلام الإسرائيلية تؤدي دورًا على نطاق ضيق في قضية جعل السجال السياسي أقل عربدة وأنها تكرّس قيمًا صهيونية أكثر مما ينبغي بها أن تفعل.

لا شك أن واقع الإعلام في إسرائيل كان على الدوام من مفاعيل معادلة التأثر والتأثير السالفة. ونقصد به، أساسًا، واقع حرية الصحافة في أن "تغرّد بعيدًا عن السرب"، كما يقولون. وقد سبق لـ"مؤشر الديمقراطية الإسرائيلية" أن أشار إلى أن حرية الصحافة متدنية، أقرب إلى الحدّ الذي قد يدفع بإسرائيل دفعًا نحو تعريفها بأنها "دولة شبه حرّة" في هذا المضمار.

وفضلا عما يمكن استشفافه من نتائج هذا الاستطلاع بالنسبة لجوهر الإعلام الإسرائيلي، أولا ودائمًا، فإن ما تقدّم يعدّ أيضًا، بكيفية ما، مقتربًا لخلفيات مسوغات الانزياح الأخير نحو اليمين، من وجهة نظر إسرائيلية محضة. لكن لا بدّ من القول إن هذا الانزياح نحو اليمين يترك في الآن نفسه بصماته الأكثر عمقًا على الواقع الإسرائيلي. ومن هذه البصمات، مثلا، اتجاه النظام الإسرائيلي اليميني الحاكم، الذي يتقوّى باستمرار كما هو بيّن في الوقائع الميدانية أيضًا، نحو فشستة المجتمع الإسرائيلي على أكثر من صعيد.

ومع أن الأمر يحتاج إلى مقاربة مستقلة فإن ما هو أشدّ وضوحًا للعيان، ارتباطًا مع الاتجاه صوب الفشستة، يتمثل في ما يحدث على مستوى وسائل الإعلام الإسرائيلية المختلفة من تضييق للخناق، الضيّق أصلاً، حول حرية التعبير والتفكير، لصالح صوت "الإجماع". وهو ما أمسى مدار تحذير أكثر من باحث ومختص في هذا الشأن. غير أنه بكل توكيد غير منحصر في هذا الجانب فقط. ففي الفترة الأخيرة أشار أحد الأخصائيين التربويين الإسرائيليين إلى ما هو حاصل في جهاز التربية والتعليم، منذ أن "زُفَّت" الوزيرة ليمور ليفنات إلى حقيبته الحكومية، من صعود لأسهم اليمين التربوي الجديد والمتطرف، ولجعل إسرائيل قاب قوسين أو أدنى من النظام الفاشي المنفلت من كل عقال. وما يحصل في الاتجاه نفسه فيما يرتبط بالمواطنين العرب لا يقل دلالة.

وينبغي بنا حيال ذلك العودة إلى توكيد أن الحالة الإسرائيلية المرافقة لأجواء "الحرب الأخيرة" (على الفلسطينيين، شعبًا وأرضًا) تتميز على وجه الخصوص بنزوعية غير مسبوقة- منذ حرب لبنان في العام 1982، إذا شئنا التحديد الزمني- نحو إسقاط الشرعية في الحيّز الإسرائيلي عن مجموعة من شبه صيرورات لم تدجّج بفاعلية قوى في القاع. وهي نزوعية واشية بمحاولة مستميتة لجعل وقائع الأمور منفصلة تماماً عن الذاكرة وعن الكينونة الثقافية- المجتمعية. من ذلك، مثلاً، محاولة إسقاط الشرعية عن "حرية التعبير" التي تتمرّد على "الإجماع" وإسقاطها عن العقل والتفكير الفردي الحرّ.

وبقطع النظر عن التفاصيل، على أهميتها الفائقة، فإن في مجرّد هذا ما يختزل أو ينبغي به أن يختزل الطريق أمام الإسرائيليين أنفسهم نحو وعي ماهية الحصار الذي فرضته حكومتهم على الفلسطينيين، شعباً وقيادة. وتخصيصًا ذلك الوعي الذي من شأنه تفتيح الأعين والأذهان على حصار آخر، موازٍ للأول ومكمّل له، هو ذلك الذي سرعان ما وجد الإسرائيليون أنفسهم بين فكيّه النهمين الى المزيد.

وشيئًا فشيئًا يتبين أن الثمن المعوّل على هذا الحصار، الأخير، هو التساوق مع الانزلاق نحو الفاشية. وبطبيعة الحال ثمة ديناميكيات جذرية تزيّن السبيل إلى هذا الانزلاق، بعضها راسخ وقارّ بسبب طبيعة النشأة الكولونيالية للمجتمع الإسرائيلي.

وسأكتفي، عند هذا الحدّ، بالإشارة إلى أمرين:

* الأول- لا معنى للبحث عن أسباب استقرار حكومة أريئيل شارون، حتى وإن بصورة مؤقتة، دون ملاحظة وجود رأي عام يدق لها الطبول، ودون وجود مزاج شعبي لا تبهظه الإجراءات المتجهة نحو فشستة المجتمع، حتى لا نقول تدغدغه. وأمام الوضعية الموصوفة للإعلام الإسرائيلي في الاستطلاع تزول الدهشة حول انعدام دوره المرتجى في منع الانزلاق. أما الجمهور المتأثر بالإعلام أكثر من تأثيره فيه، فتلك قصة أخرى.

في إحدى مقابلاته سئل الكاتب البيروني ماريو فارغاس يوسا فيما إذا "يمكن القول إن الشعوب والطغاة يتقاسمون مسؤولية الأنظمة الاستبدادية"؟ فأجاب: "هل كان باستطاعة فرانكو أن يكون موجوداً بدون الاسبانيين؟ هتلر بدون الألمان؟ ماو بدون الصينيين؟ بإمكان جميع الشعوب في بداية أي نظام استبدادي أن يقاوموا. الحقيقة أن أغلب الدكتاتوريين ينجحون، لبرهة، في جذب وإغراء اكبر شريحة من الجماهير. وإذا استثنينا الدعم العسكري نجد أن الطغاة يأتون لأننا نطلبهم. كان تروجيللو شعبيًا جدًا لدرجة أن الشعب الدومينيكي لو كان التقى القتلة ليلة اغتياله لافترسهم... ما أريد توضيحه أن الديكتاتورية ليست فقط الإذلال والتعذيب والقهر، إنما هي أيضًا انهيار بطيء لمجتمع بأكمله".

* الأمر الثاني- لعل أكثر ما يسترعي الاهتمام أخيرًا هو البحث في اللغة، بوصفها ديناميكية جذرية في واقع استلابي شامل تهيمن عليه المؤسسة الحاكمة، ومثل هذا الواقع ينسحب على الوضعية الإسرائيلية اليوم. والأساس الفرضي لذلك أن المنظور الدلالي للغة قد أصبح قريبًا جدًا من "رؤية أيديولوجية" للهيمنة المؤسساتية، في وقت بات فيه ادعاؤها الوحيد بأنها جادّة في البحث عن مخرج من المأزق أو عن منفذ للخلاص.

وما علاقة ذلك بالفاشية وخطر فشستة المجتمع؟

يمكن العثور على الجواب الشافي لدى المفكر ثيودور أدورنو الذي قال : "الفاشية لم تكن مؤامرة فحسب، وإن كانت أيضاً شيئاً من هذا القبيل، وإنما نجمت أساسًا عن نزعة تطور اجتماعية جارفة. واللغة تتيح لها ملاذًا. ففيها- في اللغة- تنعكس الكوارث المستمرة كما لو أنها الخلاص المشتهى".