غزة بعد الفصل

أعلنت إسرائيل، خلافاً لادعاءاتها في الماضي، أن اسم الشيفرة الذي منحته لحملتها العسكرية في قطاع غزة والضفة، "أول الغيث" هو من اقتراح الناطقة بلسان الجيش الإسرائيلي. وكانت إسرائيل قد دأبت في الماضي على التأكيد بأن هذه الأسماء التي اشتهرت بها حملاتها العسكرية في لبنان كانت من اختيار جهاز الكومبيوتر. ويبدو أن هذا الإعلان يعبر أيضا عن عدم حاجة إسرائيل بعد اليوم إلى التستر خلف الكومبيوتر من أجل عدم إعطاء معاني لهذه الأسماء.

ولكن "أول الغيث" يأتي عادة متقطعاً وخفيفاً ليبشر بالشتاء القادم. وهذا ما أرادت السلطة السياسية والعسكرية الإسرائيلية قوله من خلال هذه التسمية الرامية لردع التفكير الفلسطيني بالرد من خلال إيهامه بأن الفعل الأساس ما زال متأخراً. وقد أرفق القادة العسكريون والسياسيون الإسرائيليون حملة "أول الغيث" بتهديدات صارخة تفيد بأن قواعد اللعبة قد تغيرت. وفي نظر هؤلاء فإن قواعد اللعبة الجديدة تقضي أولا وقبل كل شيء بأنه ليس مسموحاً لغزة أن تتضامن أو تثأر لحدث يجري في الضفة الغربية. فإذا كانت غزة تريد الاستقرار فإن عليها تجنب التفاعل مع ما يجري في الضفة. كما أن القاعدة الثانية هي أنه لم يعد مسموحاً للسلطة والشعب الفلسطيني بعدم تحمل نتائج أفعال حماس والجهاد الإسلامي وفصائل المقاومة الأخرى في غزة. فالاستقرار يعني كذلك تسييد السلطة الفلسطينية وزوال المظاهر المسلحة من غزة.

فغزة، بعد الفصل هي غير غزة قبلها. ونموذج غزة الجديد، منفصل عن الضفة، ليس مادياً وحسب وإنما معنوياً كذلك. والأمر لا يتعلق فقط بفصائل المقاومة وإنما كذلك بالسلطة الفلسطينية. ولذلك توجهت حملة "أول الغيث" نحو الفصائل من مختلف الاتجاهات، مع التركيز على حماس والجهاد، ونحو السلطة ولكن الأهم أنها توجهت أساساً نحو الجمهور الفلسطيني. فالطائرات الإسرائيلية التي اخترقت حاجز الصوت طوال فترة المواجهة في غزة أرادت من خلال ذلك إشعار الجمهور الفلسطيني في القطاع عموماً بأن الأمر جدي، وأن كل ما شهدوه في سنوات الاحتلال وحتى الآن لا يقارن بما سوف يشهدونه من الآن فصاعداً إن استمرت المقاومة. وإذا كان اختراق حاجز الصوت لا يكفي لإيصال الرسالة فإن القذائف التي استهدفت بيوت بعض نشطاء الفصائل ومدرسة ابن الأرقم حاولت تأكيد ذلك.

فقصة الردع الإسرائيلية، رغم ادعاء الجدة هذه المرة، قصة قديمة تقوم على مبدأ "الضلع الثالث". وقد جرى استخدام هذا المبدأ طويلاً في الصراع ضد أشكال المقاومة فحقق نجاحاً كبيراً في بعض الدول كالأردن وحقق نجاحات جزئية ضد الفلسطينيين في لبنان ومني بفشل ذريع ضد حزب الله. ويقوم هذا المبدأ على قاعدة أن هناك حاجة لمجابهة فصائل المقاومة بشكل غير مباشر عن طريق خلق مصلحة لطرف ثالث بضرب هذه المقاومة. وعندما كانت هناك قوة مركزية قادرة سهل على إسرائيل تحديد هدفها فحاولت التركيز على ضرب هذه القوة لحثها على العمل. وعندما لم تجد مثل هذه القوة سعت لتجريب حظها بالضغط على المدنيين كي يمارسوا الضغط على الدولة وعلى المقاومة.

وفي الحالة الفلسطينية الراهنة يبدو أن إسرائيل تحاول جمع كل الأوراق واستخدامها دفعة واحدة. فهي تريد إخراج قطاع غزة من الصراع بشكل كامل عن طريق "رفض معادلة: قسام في غزة مقابل اغتيال في الضفة". وهي تحاول تقييد السلطة الفلسطينية من خلال اشتراط ضرب "البنية التحتية" للفصائل قبل التعاون معها. والدليل استمرار إغلاق معابر غزة ليس فقط باتجاه الضفة وإنما كذلك مع مصر. وهي تمارس سياسة توجيه الضربات القوية لحماس والجهاد والفصائل والسلطة وترويع السكان دفعة واحدة. وهي تستغل السابقة الأميركية البريطانية في العراق وأفغانستان من أجل أن تمنح نفسها حرية عمل واسع ضد قطاع غزة.

لقد حاولت إسرائيل انتهاج أسلوب "تحديث القديم" فلجأت إلى إيصال الصراع في لحظة بدايته الجديدة إلى نقطة النهاية وبسرعة. وسعت إلى الاستفادة من الظروف الداخلية والدولية التي سمحت لإسرائيل ليس فقط بقصف مدرسة وترويع آمنين من دون التعرض لانتقاد وإنما كذلك الحديث عن استهداف مدفعي لمناطق مأهولة.

وأعلن وزير الدفاع الإسرائيلي، شاؤول موفاز، أنه سيعمل على ذهاب قادة حماس إلى حيث الشهيدان ياسين والرنتيسي. وأكد رئيس أركان الجيش، دان حالوتس، أنه ليس الفلسطينيون فقط من يمتلكون مدافع وإنما إسرائيل أيضا. وكان ذلك يعني شارة البدء لنشر بطاريات مدفعية حول القطاع. وهدد قائد إسرائيلي بمحو مدينة بيت حانون عن وجه الأرض.

وكل ذلك والعالم يبارك لشارون تنفيذه خطة الفصل. ورغم كل ذلك هناك في إسرائيل وفي الجيش الإسرائيلي من يساجل بأن الضغط الإسرائيلي لم يكن العامل الأساس في إعلان حماس والفصائل عن وقف العمليات من غزة. وأن أسباب ذلك أكثر تعقيداً من حصرها في عامل واحد.

غير أن تشابك هذه العوامل خلق وضعا فريدا ينذر بتعقيدات يغدو معها كل تبسيط وقوعا في الشرك. فغزة لا يمكنها القبول بفصل نفسها عما يجري في الضفة، كما أن الاستقرار المرجو من الجمهور لا يدوم في ظل الجمود السياسي. والصحيح أن قطاع غزة يستكمل دوره في السياسة الإسرائيلية الجديدة كحقل تجارب لا أحد يعلم بالضبط ما الذي ستقود إليه. ومع ذلك يمكن من خلال تجربة الصراع القول بأن ما يجري هو إدارة صراع وليس توجهاً لحل هذا الصراع.