حين يهدد "الأبناء الروحيون" باغتيال شارون ووزرائه

ازدادت في الآونة الاخيرة كمية التهديدات الموجهة الى شخصيات اسرائيلية رسمية، من المستوى الوزاري. فبعد التهجّم الكلامي الذي تعرضت له الوزيرة ليمور ليفنات من جهة عناصر استيطانية متطرفة ذات رائحة كهانية (نسبة الى العنصري مئير كهانا)، جاءت التهجمات على الوزير بنيامين نتنياهو وتخريب سيارته، ثم رسائل التهديد الى الوزيرين مئير شطريت وبنيامين بن اليعازر التي كُشف عنها في جلسة للحكومة (مهددو بن اليعازر اهتموا بتذكيره بأصله العراقي العربي! لكن الجميع بمن فيهم المهدَّد نفسه تجاهلوا هذا "التفصيل").

كل هذا ينضم الى الشعارات التي ظهرت على الجدران والباحات العامة وهي تحرض على اغتيال اريئيل شارون نفسه، من قبل "أبنائه الروحيين" الاستيطانيين بالذات، كما تشير معظم الشبهات (والمنطق). يُشار هنا الى أن نص وروح الشعارات تربط بين شارون وبين رئيس الحكومة الأسبق الذي جرى اغتياله قبل عقد، يتسحاق رابين. الرابط ليس شخصيًا بالطبع، بل إنه يقوم على الخلفية الدافعة لاغتيال الأسبق وتهديد الحالي: وهي "تجرؤهما" على الاقتراب من الأذيال الاستيطانية.

لقد بدا واضحًا أن الإعلام الاسرائيلي رفع أمر هذه التهديدات الى أعلى سلّم معالجته الصحفية. وبعض الخبثاء قالوا إنه لا جديد في التهديدات من حيث اختلاف خطورتها وتصعيدها على الأقل، بل أن مكتب رئيس الحكومة الاسرائيلية يسرّبها بكثافة كـ "إضافة نوعية" الى الضغط الذي يُمارس على معسكر متشدّدي الاستيطان – اليمين معارضي "خطة الانفصال" بما فيها من حديث عن انسحاب محدود من بعض المستوطنات الصغيرة. حتى أن عضو الكنيست يوسي سريد (ميرتس – يسار صهيوني) سخر من الأمر قائلا: لديّ ألبوم كامل من هذه الرسائل! وبالطبع لم يكن دافعه التقليل من شأن التهديدات بقدر سخطه، على ما يبدو، من ظهور أمثال نتنياهو كحمامة بيضاء "مهدّدة من المتطرفين".

مع ذلك لا يمكن تجاوز معنى هذه التهديدات، استنادًا الى التالي:

التوقيت:

لم يأتِ هذا التصعيد صدفة. فقد اكتمل في الحلبة السياسية الاسرائيلية فرزٌ من القطع الصغير، بين معسكر الاستيطان التقليدي وبين هوامشه (الواسعة). لو بحثنا عن استعارة تحدّد هذا الفرز لكانت كالتالي: إنها كالفرق بين المستوطنات الكبيرة التي رخّصتها كل حكومات اسرائيل وبين المستوطنات الصغيرة التي أقامها المستعمرون دون "رخصة" رسمية ولكن بصمت تشجيعي تام من جهاز الاحتلال.

هنا، في هذه اللحظة التي تبدو لهامش اليمين "خيانة"، ويسوّقها اليمين الاستيطاني التقليدي بوصفها "تنازلا مؤلمًا"، يريد الأوائل استعمال التقنية التي أثبتت نفسها لوقف أية سيرورة سياسية: العنف والتهديد به، وربطه بما سيتركه من آثار "ستـُشعل حربًا أهلية". هكذا يمكن إزاحة النظر عن كل شيء وتقويض أي تحرّك، ولو كان سلحفاتيًا، واستبداله بالجلوس بانغلاق حول صنم بقرة "الاجماع القومي" المقدسة. ولا نجدّد لو قلنا: إن أسهل الطرق لفرض المواقف الأصولية هو اللعب على المشاعر الغريزية.

العنوان:

توجيه التهديدات الى وزراء ورئيس الحكومة الاسرائيلية، من شأنه أن يصوّر ويحدد من هو العدو بنظر الهامش الاستيطاني المتشدّد، ومن هو الذي "يبيع ارض اسرائيل الى الأغيار". فبعد سنين من اتّهام المركز واليسار الصهيونيين بالخيانة، وبعد أن وصل شارون بكل ما يمثّله الى بداية الاستنتاج الحتمي (دون اعتراف حتى الآن) بأنه لا يمكن للقوة العسكرية مهما توحّشت أن تنتصر على ارادة شعب يرفض الخنوع، فقد صار هو أيضًا "خائنًا". وما هو مصير الخائن بنظرهم؟ كمصير رابين.

السياق:

بعض المراقبين يقولون إن القضية الفلسطينية لا تزال تحدّد وضعية السياسة الاسرائيلية، بقدر ما فرضت هذه السياسة إملاءاتها بالقوّة على تلك القضية. ومن يدري، لربما أن قانون نيوتون الفيزيائي الثاني القائل "لكل فعل رد فعل مساوٍ له في القوة ومعاكس بالاتجاه" يسري هنا أيضًا.

فيتسحاق رابين قُتل لأنه وافق على "التنازل عن أجزاء من أرض اسرائيل" حسب مفردات الأصولية الاسرائيلية. وقد جرى تسطيح اغتياله ونزع الصفة السياسية عنه بتواطؤ من زملاء واتباع رابين أنفسهم، من حزبه "العمل" أولا. فبعد الاغتيال واضح السياق السياسي، ابتلع تكتيك "لملمة الاجماع الصهيوني" القضية، ووجدنا المسؤولين عن القتل و"أهل الفقيد" يجلسون في عريشة عزاء واحدة، وكلهم يذرفون الدموع. ولم يكن من المسموح السؤال عن "حرارة" هذه الدموع: أيها الساخن الحزين فعلا، وأيها البارد السعيد بما وقع وقد "خلـّصنا من مجرم أوسلو"؟

ومهووسو الاستيطان يعرفون ذلك. لقد رأوا كيف نجا معسكرهم من دم رابين، فما الذي سيردعهم الآن؟!

المصدر الحقيقي للتهديد:

ما قيل أعلاه يقود إلى هوية ومصدر التهديد. ليس على المستوى الشخصي ولا حتى التنظيمي أيضًا، بل على مستوى تركيبته وعقيدته السياسية. بالمناسبة، لا يمكن الاكتفاء بوصم هذه الجماعات بالهوَس فقط، لأنها جماعات منظمة ذات أجندة سياسية واضحة وعلاقات واسعة وقوية في مختلف مؤسسات الحكم.

قد ينزع عديدون في المؤسسة الاسرائيلية الى حصر الامور في "الهامش" أو شخصنة هذه التهديدات. وهو بالضبط ما حدث بعد اغتيال يتسحاق رابين، كما قيل. ولكن الحقيقة الساطعة ستظل ان هذه الجماعات الاستيطانية، ومؤيديها ومشجعيها، تتجاوز الهامش.

هذه الجماعات نمت وكبرت وامتلأت بشعور القوة والاستعلاء والعنف في ظل المشروع الاسرائيلي الرسمي المتجسِّد في الاحتلال. وبعد سنين من "الدلال" ومنح عصابات الاستيطان حقوقًا اضافية فوق القانون، على حساب حياة وسلامة وحقوق الفلسطينيين، وعلى حساب أمن ومستوى عيش المواطنين الاسرائيليين – يظهر الآن بوضوح أن الثمن يتجاوز ما توقعه "الآباء الروحيون" لحركة الاستيطان، وها هي نيران التهديد تقترب منهم.

ما هو واضح، ان لجم هذه الجماعات لا يمكن ان يقتصر على خطوات محدودة، بل انه يتطلب مواجهة السرطان الأكبر المسمى الاحتلال، وكافة تبعاته وآثاره. فهذا الخطر الاستيطاني المتطرّف الذي بات يعترف به الجهاز الاسرائيلي الرسمي بكافة تفرعاته ومؤسساته، يحتاج الى علاج جذري.

آن الأوان كي تتخلص هذه الدولة من عقلية وسلوك الاحتلال. وكم من عاقل واسع البصيرة سبق وحذّر: إن الاحتلال قنبلة موقوتة لن ينجو منها الإسرائيليون أيضًا، بمن في ذلك كل ساسة وجنرالات الاحتلال. وها هو التاريخ يثبت، فهل مَن يتعلم الدرس ويستخلص العبر؟!