من كرة القدم وحتى رامبو

مسافة كبيرة تفصلني عن ملاعب كرة القدم، ليس جغرافيًا فقط، بل اهتمامًا أيضًا. ولكن أحيانًا تتعدى الكرة ملعبها فتحطّ في شباك السياسة. وهنا أصبح مشجعًا متحمّسًا..

فقد كتب عدد من الصحف مؤخرًا عن مباراة فريق مدينة سخنين الجليلية وفريق تل أبيبي. ومما نُقل فإن عددًا من مشجعي سخنين، تصرّف مثل "بيتار أورشليم"، المعروف بفظاظة عدد من جمهوره.. وهنا، بدون تأتأة يجب القول: هذا عيب، ومسيء، ليس لهم ولفريقهم وبلدهم فقط، بل لنا جميعًا.

فهناك من ينتظر كل فرصة لاقتناصها وتصعيد تحريضه. لا يعني هذا أن بعض العنصريين بالعبرية يحتاجون ذريعة، ولكن لماذا نسمح بتوفيرها، وشطف أدمغة المزيد من اليهود بها، بالتالي؟!

هناك من الوقحين من دعا الى وضع سخنين "خلف القضبان". وهناك من كتب بشكل منافق وكأنه متفاجئ من هذه الهمجية في الملاعب.. صباح الخير: هنا اسرائيلكم، باحتلالها وفظاظتها وعنف معظم مساحاتها وملاعبها، الكروية منها والسياسية، والعسكرية طبعًا.

قد يتصرف نفر من العرب أحيانًا بشكل معيب ومرفوض، ولكن شتان ما بين إدانة هذا، وما بين السماح لأحد بالتفوّه الاستعلائي علينا. حذار ثم حذار!

يجب القول بوضوح: ان التصرفات المعيبة في الملاعب لا تُسجّل على العرب حتى لو أقدم عليها نفر من العرب. بل إنها تُسجّل على الثقافة الاسرائيلية الملوّثة بالعنف والعنصرية والاستعلاء القومي. ثقافة الأباتشي والقنّاصة والزعيق العنصري، وسرقة الحنفيات من الفنادق في الخارج أيضًا!
وآمل أن لا يخرج علينا أيّ من المتحدثين العرب، لاعبًا كان أو مدرّبًا أو مشجّعًَا أو غيرهم، بتصريحات إشكالية.. كالوقوع مثلا في فخّ فقدان الثقة بالنفس والتأتأة أمام مقدّمين ومذيعين وصحفيين متعجرفين، يعانون من انتفاخ في غدد الغرور.

لننتقد أنفسنا بجرأة، وعلى الملأ، لأن هذا هو واجبنا تجاه أنفسنا أولا. فوقف كل أشكال العنف في مجتمعنا ومنه، هو همّنا نحن وعلينا مواجهته بجرأة. ولكن لا يعني هذا أن نسمح "للرايح والجاي" بأن يستغلّ الأمر ليحرّض على جماهيرنا، أو يمارس غروره على حسابنا. بل يجب مساعدته بكل ذكاء ولباقة ولطافة على إغلاق فمه على عنصريته، بأسرع وقت!

ويُقال هذا، لأن هناك بعضٌ من عربنا ينسى نفسه فيروح يُسهب في الاعتذارات حتى يخبط على وجهه، ونحن لا نريد هذا له، ولا لنا!

(2)

الحقيقة أحيانًا كالشمس، قد تغطيها الغيوم أو يلفّها الضباب، لكن هذا لا يعني أنها اختفت.
في بعض الأحيان قد تُحجب الشمس بفعل زوبعة غبار صحراوية. وفي حين آخر قد يكون سبب احتجابها غمامة من التلوّث القاتم.

تبرئة ياسرة بكري إبنة قرية البعنة الجليلية، قبل أسبوعين، أشبه بالمثال الأخير. فبعد سنتين ونصف السنة من ملاحقتها والزعم بأنها تواطأت في تفجير الباص قرب ميرون، برّأتها المحكمة الاسرائيلية تمامًا. ليس لانعدام الأدلة الكافية، كلا، لقد برّأتها تمامًا.

الغمامة التي غطّت حقيقة براءة بكري، هي غمامة ملوّثة بل مسمومة. سببها ليس أي نوع من الكيماويات أو الغازات التي تخنقنا بها مصانع الأغنياء. بل إنه الهوس العنصري الذي غطى عقول المجتمع الاسرائيلي، حين حولته المؤسسة السياسية- الأمنية الحاكمة إلى مجتمع يُعلّف بالأكاذيب "الأمنية" لخدمة المصالح التوسّعية.

كيف لا يزال هذا المجتمع يسمح لحكّامه بشطف دماغه بالأكاذيب بينما هو يبتلع ذلك السّم، لا بل يجترّه؟ فهذا التلويث البشع للعقول، هو الذي يسمح لدجّالي السلطة والمخابرات الاسرائيليين بالظهور كمن يملكون "الحقيقة المطلقة"، ليحشوها في الأدمغة بكل فظاظة . يكفي أن يردّدوا لازمة "مخرّب وإرهابي" حتى يضرب لهم القوم تعظيم سلام، بدون تفكير أو سؤال.

لا حاجة للتساذج. فمجتمع مخدّر بالتخويف بينما يقوده من رقابه نفر من مجانين التوسّع ومرضى الحروب وعصابات المستوطنين، لا شك أنه سيبتلع الكثير. وطالما ظل كلام الجنرالات يُعتبر سِفرًا توراتيًا مقدّسًا، فسيظل هذا المجتمع في حضيض العنصرية وانحطاط الخُلق.

أما الشابة ياسرة بكري فهي بريئة ليس فقط بفعل قرار المحكمة، على أهميته الرسمية والمعنوية. بل لأنها بريئة، كأهلها من الجليل والمثلث والساحل النقب، من لوثة الاستعلاء العنصري الذي يحوّل "المختلف" الى مجرم حتى إثبات العكس. وهي كالعديد من إخوتها وأخواتها، ممّن لم تلدهم أمها، براء براء من أمراض الإجماع القومي الاسرائيلي البغيض، ومضاعفاتها.

وأخيرًا، كلمتان:

أولا: مبروك لياسرة ولنا جميعًا، فقضيتها قضيتنا جميعًا. وحين تتّهم هي أو غيرها، يُزجّ بنا جميعًا في خانة الإتهام، مما يستدعينا جميعًا الإبتعاد عن سلوك النّعام!

ثانيًا: تمنيات بالشفاء العاجل لمجتمع ينقاد خلف مجانين الاحتلال والسّلاح. فمن غير اللطيف أبدًا أن تعيش وبجانبك ملايين تُقاد بالرّسن واللجام، من أجل أوهام توسعية أصولية دموية. أحيانًا، يصبح واجبك هو أن تصفع بمثل هذا الكلام، علّ الجار يصحو، ويتعافى، ويحلّ زمن العفو.

(3)

للتذكير فقط:

قبل فترة، كبار الرؤوس الحكومية والعسكرية اجتمعت. فكّرت، محّصت، اقترحت، تناقشت، تداولت، و.. يوريكا.

قررت أنه "لا بدّ من وقف الهجمات الصاروخية من غزة".

كيف؟
الجواب غير واضح. ولكن من المعروف أن الإكثار من الكلام الكبير يفيد. الجمل الطويلة المليئة بالمصطلحات العسكرية والتهديد والوعيد من شأنها خلق وهمٍ مؤقت. فالمطلوب ليس بالضبط وقف العمليات لأن هذا غير ممكن بالوسائل العسكرية. جُمل مثل "إطلاق العنان للجيش" هي أكاذيب. وكأن أيدي الجيش كانت "مجبصنة" ومعلقة في عنقه!

الحقيقة التي يصطدم بها نهج أريئيل شارون هي أنه لا يوجد حل عسكري. مهما شطّ ونطّ في جيله المتقدّم هذا، فإن "الجيش لن ينتصر".

أتخيّله يناشد: إنتصر يا جيش، بحياة ربّك، هيّا إنتصر، إعمل معروفًا، هيا تعال ننتصر..
لكنه "المسكين" لا ينتصر!

هذه هي المصيدة الفخمة التي يبدو في المحصّلة أن شارون وضعها لنفسه، ودخلها بنفسه. فهو لا يملك حلولا . الحل الوحيد يمر من مائدة التفاوض، وليس من طاولة تخطيط الاجتياحات.
لقد حذّر من حذّر بأن للقوة حدودًا. وهذا قالته أيضًا شخصيات بريئة من "تهمة اليسارية".

والآن يقف الملك عاريًا. ولكن من يفضحه ليس ذلك الطفل من القصة المعروفة، بل إنه يقدم بنفسه علانية وعلى الملأ عرض "ستربتيز سياسي قسري"!

فمبروك!

(4)

لغة الاحتلال الاسرائيلي، بحكومته وجيشه وأبواقه الإعلامية، تقول شيئًا واحدًا: الرئيس الفلسطيني أبو مازن في امتحان !

وكأن المطلوب من الرئيس الفلسطيني المنتخب أن يتحول خلال أيام إلى خادم لدى أجهزة "الأمن" الاحتلالية.

في اسرائيل أطلقوا بالونات فارغة وكأنه في فترة "ما - بعد - عرفات" سيتحول الشعب الفلسطيني ومؤسساته إلى كلاب مدللة من الحجم الصغير لدى مهووسي الهيمنة الإسرائيليين.
ربما انهم كذبوا كذبة وصدّقوها. هذا شأنهم. يمكنهم أن ينفلقوا !

فلا الشعب الفلسطيني ولا أبو مازن سبق أن وعدا أحدًا بإشعال حرب أهلية، كهدية رمزية لحكومة شارون الجديدة مع شمعون بيريس (برتبة سياسي زاحف). لم أسمع من أي فلسطيني أن لديه برامج للتحول إلى "لحد" رقم 2. برامج كهذه بين ظهراني هذا الشعب "ستفقع" في وجه الحالمين بها. فحذار من هذا الرهان. حطّطوا عن بغلتكم ّ.

أبو مازن انتخبه شعبه لموقفه، وليس لأنه يعجب حكومة إسرائيل أو غيرها. مسائل الإعجاب هذه متروكة لمستويات غبية من فئة الجدل الاسرائيلي الاعلامي التقليدي.

المسائل غير شخصية ولا تتعلق بالشخصيات. هناك احتلال يجب أن ينقلع إلى جهنّم. لم يكن الأمر متعلقًا بكوفية أبو عمار التي لم تعجب رفيعي الذوق وقليليه في تل أبيب، وهو أمر لن يتحدد حسب نجاح ربطة عنق أبو مازن في امتحان موضة السماجة الاسرائيلية الرسمية.

الموقف الفلسطيني الرسمي واضح: رفض لكل عملية ضد مدنيين، يدفع الفلسطيني ثمنها. هذا ما قاله أبو مازن، أمس واليوم، بصوته دون تأتأة. وأضاف أن الهدنة وتنظيم فوضى السلاح هما أمران يجب أن يتمّا بالحوار والاتفاق. لن يتم الأمر عبر المغامرة باقتتال داخلي.

ومن لا يزال في الامتحان ليس أبو مازن. كلا. بل سياسة الاحتلال الاسرائيلية. وهي سياسية لا تزال ساقطة منذ حوالي 38 عامًا كواضعيها ومنفذيها. ولن يتغير شيء جوهريًا ما لم يتغيّر هذا الواقع البشع. نُقطة.

(5)

"فات الميعاد" قال زعماء الاستيطان لقائد أركان جيش الاحتلال موشيه يعلون (الشهير باسم الدلع "بوغي")، في اجتماع قبل عدة أسابيع.

فقد اجتمع يعلون مع سادتهم بنحاس فالرشطاين وغيره طالبًا منهم ضبط ظواهر التهديد والتمرّد قبيل تطبيق خطة انفصال شارون عن غزة - التي لم ينتصر فيها الجيش!

"فات الميعاد" قالوا له وطردوه شر طردة، فخرج وذيله بين رجليه شرشوحًا مشرشحًا من قبل ابناء الاحتلال المدللين. فماذا ردّ؟

"خيّبوا أملي" – نُقل على لسان مقرّبيه.

وهكذا تتلخّص المسألة الأخطر في اسرائيل اليوم الى "فات الميعاد يا بوغي" و "خيّبت أملي يا بنحاس". وكأننا نتابع فيلمًا مصريًا من النوع "الخفيف". ومن يدري، غدًا قد يخرج بوغي منتحبًا ليقول لبنحاس: "عوّدت عيني على رؤياك". فيردّ الأخير "حسيبك للزمن".

لقد ردّدنا كثيرًا أن تمرّد المستوطنين على الاحتلال هو "قيامة المسخ على خالقه". لكن الأمور تخربطت؛ لم يعُد واضحًا من هو المسخ. ربما لأن حالة الاحتلال هي حالة ممسوخة من الأساس؟ ربما.

المستوطنون بدأوا بخطوات منها كما أعلنوا "محاصرة الكنيست".

الطريف أن تمرّدهم بدأ بشعار من شعر الغزل العامودي "عندي حبّ، وسوف ينتصر".. والأمر ليس مستهجنًا، فتمرّد أحباب الجيش لا يمكن إلا أن يُمارس بمفردات العشق.
مع ذلك، فخلف كل هذه الفورنوغرافيا المنحرفة سيظلّ أمامنا مسرح بدأ فيه أبطال إغتيال الحق الفلسطيني بالتقاتل بينهم. وهو ما يجري دائمًا حين يقرر نفر أن "يقتل ويرث معًا" ليكتشف لاحقًا أن القتيل يرفض الموت.

ربما نحن الآن في فصل مثير للسخرية يتقاطع ما بين عتاب الأحبّاء، ولوعة الفراق. لكننا بعد قليل يُفترض أن نصل فصل الفصل – ليعلق الجدّ.

عندها، لن يردّد أي طرف لازمة لأم كلثوم أو جملة عن لسان محمود ياسين.. عندها يُفترض أن يبدأ جزء جديد من "رامبو". لكنه هذه المرة لن يكون بين البطل الأبيض والسّمر الأشرار. ستكون خبيصة في خندق عشّاق الأمس، المستوطنين والجيش.

موسم ساخن بلا شكّ بانتظارنا، وبالطبع فلا بدّ من الكليشيه الذي يلائم المناسبة: اللهم لا شماتة!