النهج الواقعي- الخطر الأكبر على حكومة شارون

يقول المعلق الصحفي الإسرائيلي المعروف ناحوم بارنياع: "قوانين السياسة تشبه قوانين الطبيعة: فهي تفتش عن نقاط توازن. عندما يقوم حزب معروف بأنه حزب يساري بالانضمام للحكومة، فان الجانب اليميني في الحكومة يتوجه بشكل تلقائي نحو اليمين. هذا هو طريق اليمين لاختزال الضرر الذي مس برصيده بسبب المشاركة مع اليسار" ("يديعوت احرونوت"، 17 كانون الثاني 2005). كان هذا تحليل بارنياع للانطباع الذي لا يمكن التحرر منه، كما يقول، بأنه كلما دخل حزب المباي الى الحكومة تنطلق الدبابات الى مهامها.

الحقيقة ان هذا هو الوجه الاخر لكل حكومة وحدة وطنية، انها تصبح اكثر متطرفة وان ما يخشى اليمين المتطرف فعله، في الوضع العادي يصبح مباحاً في عهد الوحدة. ولذلك فان معارضتنا لانضمام حزب العمل ليست موجهة ضد أريئيل شارون فقط، فنحن من حيث المبدأ ومن حيث التنفيذ على ارض الواقع، وليس تكتيكياً، ضد حكومة وحدة قومية، لان حكومة وحدة قومية هي بالضرورة حكومة يمينية. وحدة قومية في ظروف احتلال واضطهاد قومي تنزع دائماً للتوحد حول المواقف الاكثر تطرفاً، واليمين يسعى لهذه الوحدة لانه الكاسب الاكبر منها، فاليمين لا يريد تغيير الوضع القائم، بينما القوى التي تدعي انها تريد تغيير هذه السياسة، ستكون اسيرة، برضاها التام، لبرنامج ومواقف هذه الحكومة. وبطبيعة الحال فان آخر من يمكن الاعتماد عليه في هذا الصدد هم وزراء حزب العمل. وشهدنا منذ اليوم الاول لدخولهم الحكومة وهم يتصرفون وكأنهم الناطقون باسم شارون في هجومهم الساحق على ابي مازن، وبأن عليه ان يقدم "الايصالات" لحكومة اسرائيل، وانه لا توجد لديه دقيقة واحدة لالتقاط انفاسه. (ولذلك قابلتُ بالاستنكار والرفض القول الذي صدر عن احد السياسيين العرب الذي قال، تجنياً، انه لو كانت هنالك امكانية لسقوط مشروع ضم حزب العمل لقمنا بتأييد هذه الحكومة. هذا الامر مناف لكل الحقائق ومناف لكل تاريخنا، وسنكون سعداء لو فشلت الحكومة في قرارها ضم حزب العمل).

اما شمعون بيريس، صاحب نظرية الشرق الأوسط الجديد، فقد صمت وكأنه غير موجود، امام هذا الهجوم على السلطة الوطنية وعلى ابي مازن. اذاً ماذا يريد "اليسار الصهيوني" وماذا يريد "الواقعيون" بين جماهيرنا منّا، بسبب موقفنا المعارض لهذه الحكومة؟. ها هي ثمار هذه الحكومة تظهر في الاسبوع الاول لتشكيلها. والحقيقة اننا لم نكن بحاجة الى هذا الاسبوع لنقدر ماذا سيكون شكل هذه الحكومة. عملية "السور الواقي" في نيسان 2002، التي أحرقت الاخضر واليابس كانت من ابرز ثمار هذه الحكومة، اعتقال ياسر عرفات جرى في ظل النسخة الاولى لهذه الحكومة. سياسة "عرفات لو رلفنتي" (سياسة عزل عرفات) وليدة هذه النسخة المسخ. الاغتيالات التي جرت صبح مساء كان مهندسها الاول "العمالي" بنيامين بن اليعازر (وبهذا الصدد فاذا كانت هنالك نقطة ضوء في هذه الحكومة فهي ان "العمالي" بن اليعازر ليس وزير دفاع فيها)..

اما الطرف "القومي" في هذه الحكومة فقد حقق قصب السبق، والسرعة التي فعلها فاقت كل التوقعات. فقط بعد اقل من اسبوع على انتخاب ابي مازن، يقول الوزير تساحي هنغبي، الذي عرفناه شاباً في "يميت" يحاول منع اخلاء البلدة وارجاع الارض المصرية الى اصحابها المصريين، يقول اننا سنشتاق الى عرفات، في اشارة واضحة إلى ان اوراق ابي مازن قد احترقت. وهناك أوساط في الحكومة الاسرائيلية تقول ان ابا مازن يواصل سياسة عرفات، يندد من جهة ومن جهة اخرى يسمح للارهاب، وهنالك تقديرات، ان ابا مازن سيحظى بلقب الشرف "لو رلفنتي"- هذا اللقب الذي اسبغوه على ياسر عرفات، في فترة لا تتجاوز الستة اشهر.

لقد سبق ان قلنا في حياة عرفات، وفي اعقاب موت عرفات، إن شارون لا يريد سلامًا، ولا يريد "بارتنر" (شريك)، وغير معني بهذا الطريق. وقلنا لمَن حاول "دمغ" ابي مازن منذ اليوم الاول بانه مرضي عليه من اسرائيل واميركا، لانه يطرح مواقف واضحة وحازمة في التوجه للنضال الفلسطيني، قلنا له "تمهّل"، فسياسة ابي مازن الواقعية التي تضع الامور في نصابها هي هي الخطر الأكبر على سياسة شارون.

لذلك فالحاجة ملحة اليوم، امام الرئيس المنتخب لأن ينفذ برنامجه السياسي، ليس من اجل ارضاء شارون، بل لان المصلحة الوطنية العليا للشعب الفسطيني تتطلب ذلك. وهذه المهمة هي أيضًا امتحان للشعب الفلسطيني، هل يريد ان يكون شعبًا تحكمه التقاليد الديمقراطية والالتزام الطوعي الواعي للمواطن ابن الشعب الحضاري؟ ام ان ينتهج الشعب الفسطيني سياسة "لكل فصيل استراتيجيته، ولكل فصيل ادواته". هذا ينفذ برنامجه وذاك ينفذ برنامجه؟. وهكذا وكما قلنا في مقام سابق سنجد انفسنا في وضع هنالك من يفاوض وهنالك من يطلق النار.

وطبعاً سيأتي البعض ليهتف كيف من الممكن منع المقاومة؟ كأن المقاومة العسكرية هي فعل منفصل، مطلق يجري في الفراغ. المقاومة المسلحة او المدنية يجب ان تكون ملتزمة باستراتيجية والاستراتيجية يجب ان تتخذ من خلال عملية تعددية سياسية وفكرية، والتزام وطني واحد. بالأمس قال ابو مازن ان عملية "كارني" جرت عشية اليوم الذي قام فيه باداء القسم لتوليه الرئاسة امام المجلس التشريعي وقال ان هذا الامر يضع علامات استفهام حول المقصود من هذه العملية، وبالتالي، يمكن الاضافة، يضع علامة استفهام حول المغزى، ومن المستفيد، من تقويض الشرعية الفلسطينية من خلال عملية مسلحة.

من المهم ان نفهم، وهذا الامر يعود ويؤكده العقيد جبريل الرجوب في المقابلات التلفزيونية، انه من الضروري استيعاب ما جرى في الحادي عشر من ايلول 2001. نعم نحن نوافق العقيد الرجوب في هذا التحليل لان هناك صكاً مفتوحاً، وتقريباً فهو صك مطلق، لشارون (وللعدوانية الاميركية) في تنفيذ ما تراه مناسباً، من اجل ضرب ما يسمونه الارهاب. شئنا ام أبينا فهناك "تفهم" عالمي، وليس اميركيًا فقط، لكل خطوات اسرائيل بحرق الاخضر واليابس في غزة او في الضفة امام اي قذيفة هاون تطلق حتى لو كانت تصيب الرمال.

طبعاً سينبري هنا البعض بأن اسرائيل هي العدوانية، وان هذا العصر هو العصر الاميركي. كل هذا صحيح، ولكن القيادة التي من واجبها ان لا تحلل فقط، وان تُظهر نفسها كم هي مظلومة، كم هو العالم قاس.. من واجبها ان تتساءل، اولاً وقبل كل شيء ماذا تتطلب المصلحة الفلسطينية؟ وفي الوقت نفسه، ما هو دور الفلسطينيين انفسهم في اخراجهم من الزاوية التي يحاول شارون زجهم بها في نظر الرأي العام العالمي.

ومن الضروري الخروج من الاوهام، ومن الضروري وضع الامور في نصابها. في حديث تلفزيوني مع قناة ابو ظبي قام النائب احمد الطيبي بصب الماء البارد على الرؤوس الحامية، حين حاول، من حاول، اظهار ما يجري في سديروت وكأنه انتصار لقذائف الهاون، بحيث انه يخيف الاسرائيليين، حيث اكد الطيبي ان هذه الصواريخ تعزز الجناح المتطرف في المجتمع الاسرائيلي الذي يطالب بانزال أقصى الضربات ضد كل قطاع غزة. والحقيقة المؤلمة ان العذاب الفلسطيني لا يظهر امام الرأي العام العالمي والاسرائيلي. وفي المقابل فان كل اصابة في الطرف الاسرائيلي تقيم الدنيا ولا تقعدها، بينما نهر الدم المتدفق في القطاع، لا يتعدى التعبير عنه بضعة اسطر، او حتى بضع كلمات في جريدة.

امام الرئيس المنتخب مهمات ضخمة، ولا احد مستعد ان يعطيه فسحة قصيرة من الوقت، وكل واحد من منطلقاته الخاصة به. شارون يرد افشال ابي مازن. ومن منطلقات اخرى المواطن الفلسطيني يريد تغييراً في حياته، في حرية تنقله، في فرص العمل، في توفير الامن الشخصي. وبالطبع الفصائل الفلسطينية وخاصة حماس والجهاد تريد ان تثبت نهجها منذ الدقيقة الاولى، نهج حرية العمل العسكري.

ومواجهة ابي مازن مع هذه المهمات هي مواجهات في غاية الدقة، وهي تعتمد اولاً وقبل كل شيء على الشعب الفلسطيني وعلى التحامه حول قيادته وتعتمد على وعيه الوطني. موقف ابي مازن الرافض لعسكرة الانتفاضة وانهاء فوضى السلاح هو الامتحان الاكبر له ولقيادته، وخاصة انه اردف ذلك بالتعهد بان لا يتم ذلك الا من خلال الحوار الفلسطيني- الفلسطيني.

الحقيقة ان الوعي الشعبي الفلسطيني هو وحده القادر على ذلك، ومهما حاول حكام اسرائيل، ومهما حاول "الاصدقاء" في اقناع ابي مازن بضرورة القيام بـ"الطلينا" فلسطينية، في اشارة الى قيام دافيد بن غوريون بقصف سفينة عسكرية من المعارضة في المعسكر الصهيوني بعد قيام اسرائيل، فان الشعب الفلسطيني يرفض، وسيواصل رفضه لهذه "النصائح".

(ملاحظة: في هذا الاطار أجد من الضرورة العودة على ما قلته عن حزب الله في مناسبة سابقة، فبالاضافة الى ان حزب الله هو الذي كان يفاوض ويقاتل، وكان يُخضع اعماله العسكرية لقيادته السياسية (في ظل اتفاق سياسي في لبنان)، فان حزب الله لم تكن لديه مرة واحدة عملية ضد مدنيين، وهذا الامر تشهد عليه العسكرية الاسرائيلية قبل غيرها).

عودة بشارات- السكرتير العام للجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة