عمليات سيناء تعيد الاسرائيليين إلى الغيتو

شكلت عمليات سيناء، في طابا ورأس الشيطان، فرصة للاسرائيليين لمعرفة الثمن الذي يضطرون لدفعه جراء استمرار الصراع العربي الاسرائيلي. فسيناء كانت، وما زالت، "الحديقة الخلفية" لاسرائيل التي تشعرهم بأن الارض لا تضيق بهم، وأنه يمكن لهم العثور خارج "الجحيم" على "جنة" مؤقتة. وليس صدفة ان التحذيرات التي أطلقتها اجهزة الامن الاسرائيلية للجمهور بعدم التوجه لسيناء لم تلق آذانا صاغية. فالجميع في اسرائيل ينتظرون العطل والمناسبات للخروج من الاجواء الضاغطة أمنيا واقتصاديا. ويجدون ان الخيارات أمامهم، خاصة للفئات الدنيا والوسطى، تتلخص في مصر وتركيا.


ويمكن لكل اسرائيلي متوسط ان يذهب لقضاء إجازته في هذين البلدين، وخصوصا بعيدا عن صخب المدينة، بتكلفة لا تزيد عن تكلفة حياته اليومية العادية. ولكن دائرة مكافحة الارهاب في ديوان رئاسة الحكومة، تحذره بين الحين والآخر، ومؤخرا بشكل جدي، بضرورة عدم الذهاب الى هذين البلدين، وكذلك الى تايلاند. بل ان هذه الدائرة تضع بين يديه قائمة من التعليمات بينها، الابتعاد قدر الامكان عن الاماكن التي يتردد عليها الاسرائيليون.
والواقع ان هذا الحال يجعل من اسرائيل اكبر "غيتو" في العالم بعد ان هدمت في جميع ارجاء العالم كل أسوار الغيتوات. ومن المؤكد ان ذلك يفتح النقاش على مصراعيه حول الهدف من وجود اسرائيل: هل اقيمت الدولة اليهودية من اجل ان يغدو اليهود شعبا كأي شعب آخر والقضاء على الغيتو، أم من اجل تخليده؟ وهل ان التحذيرات التي تصدرها اجهزة الامن الاسرائيلية معدة للقول بأن اسرائيل هي اكثر الاماكن أمنا للاسرائيليين في العالم؟ وماذا إن كان هناك تحذير من عملية واحدة او اكثر في سيناء وتركيا مقارنة بأربعين او خمسين تحذيرا كهذا لعمليات في اسرائيل؟ .
ومن الجدير ملاحظة ان هذا النقاش يأتي بعد سنوات قليلة على بدء النقاش المناقض سواء في اسرائيل او في الدول العربية حول "الشرق الاوسط الجديد" و"التطبيع". وبعد ان كانت الخشية من الغزو الثقافي والاقتصادي تصل حدود الهوس في الجانب العربي صارت الخشية من العزلة في الجانب الاسرائيلي هوسا مؤكدا. وهكذا يكتب عوزي بنزيمان محذرا من الرعب الروتيني الذي لم يعد أحد في اسرائيل يهتم للتمييز بين صنوفه. وهذا ايضا ما أشار اليه الكثير من المعلقين الاسرائيليين حتى قبل عمليات سيناء.
وقد نقلت وكالة "رويترز" عن عامل انقاذ مصري قوله انه يعمل الآن مع الاسرائيليين كتفا الى كتف ولكنه "جاهز لقتلهم إن لزم الامر". ومن الجائز ان هذا يكشف النقاب عن عمق الهوة التي تفصل بين مشاعر الناس والاحاديث عن السلام. ومع ذلك ليس في الحكومة الاسرائيلية من يحاول التحذير من الهوة التي ستسقط فيها اسرائيل ان استمرت في طريقة تعاملها هذه مع محيطها. بل ان الوزراء "العاقلين" في حكومة شارون، مثل زعيم حركة شينوي تومي لبيد، قال ان العمليات تبين ان هذه هي الحرب بين الاسلام واليهودية. وهكذا ليس هناك ما يدفع لتغيير المواقف بل من الواجب تكريس "الصمود" في مواجهة الاسلام المتطرف.
ورغم التصريحات التي صدرت هنا وهناك ضد اعتراف دوف فايسغلاس بأن خطة الفصل أعدت من اجل القضاء على خريطة الطريق، فإن وزراء شينوي لم ينبسوا ببنت شفة ضد "الخديعة" التي تعرضوا لها على يدي شارون. ان الامور ستبقى هكذا في اسرائيل لأن المفارقة الاسرائيلية تبلغ حدود الكمال. فاسرائيل تمتلك من القوة العسكرية والاقتصادية والعلمية ما يجعلها تشعر انها تتفوق على العرب بشكل كبير لا يشجعها على تقديم "تنازلات". وهي بالمقابل تشعر ان العرب هم اليوم في أضعف موقع ممكن وأنه يصعب التكهن بمستقبلهم. ولذلك لا حاجة البتة لتقديم "تنازلات". بل ان رأي عوزي بنزيمان في وجوب التمييز بين "الارهاب الفلسطيني" و"الارهاب الاسلامي" لن يجد من يصغي اليه.

والحال ان اسرائيل حاولت منذ اللحظة الاولى للعمليات ان تحقق مكاسب جزئية، حتى قبل معرفة تفاصيل العمليات. فقد أوحت للجميع ان العمليات هي في الغالب من تنفيذ حركات فلسطينية، وخصوصا حركة حماس. وأرادت من وراء ذلك اقناع نفسها بالمهمة التي انتدب رئيس الشاباك آفي ديختر نفسه لها، وهي احداث قطيعة بين مصر وحماس. وقد نقل للمصريين "معلومات" حول تحضير حماس لعملية كبرى ضد اسرائيليين في سيناء. وحال وقوع العمليات توجهت الانظار نحو حماس. وفقط في اليوم التالي شرع الاسرائيليون في الحديث عن ان التحذير لا يزال قائما لأن العمليات هذه لم تكن العمليات المنتظرة.
ويبدو ان رئيس الحكومة الاسرائيلية اتخذ قرارا استراتيجيا بتغيير نبرة التعامل مع مصر. وبدلا من استمرار الشجار معها يسعى لاحتضانها من اجل تحقيق منافع قصيرة وبعيدة المدى. وفي الحالين سيجري التركيز على التعاون الامني لتحقيق الهدف الاول الذي وضعه شارون لنفسه في الماضي في تعامله مع مصر: تأمين جبهة سيناء. وهو يريد ان لا تكون هذه الجبهة عنصرا داعما للفلسطينيين. ومن الجائز ان عمليات سيناء سوف تشكل نقطة تحول في العلاقات الامنية المصرية الاسرائيلية، طبعا بدعم اميركي وتحت ستار مكافحة الارهاب الاصولي الدولي.