وداعا للتسوية.. الفلسطينيون لن يصبحوا فنلنديين

سرعان ما هدأ الضجيج الذي أثارته التصريحات التي أدلى بها المحامي دوف فايسغلاس، مدير مكتب شارون، إلى صحيفة هآرتس (نشرت يوم 8/10)، والتي كشف فيها حقيقة خطة شارون المتعلقة بالانسحاب الأحادي من قطاع غزة، وأهدافها القريبة والبعيدة؛ وضمنها التملص من "خريطة الطريق"، وتقويض عملية التسوية برمتها، وفرض الاستيطان والاحتلال كأمر واقع.

وكانت تصريحات فايسغلاس، الذي يعتبر من أهم مستشاري شارون ورسوله الخاص إلى البيت الأبيض وإلى كونداليزا رايس مستشارة الأمن القومي الأمريكي، أثارت نوعا من التساؤلات في الساحة الإسرائيلية، عن توقيتها وأسبابها وجدواها، حتى أن بيريس عبر عن استيائه، معتبرا أن شارون خبأ عنه الحقائق ولم يخبره أن الانسحاب من غزة يستهدف تجميد عملية السلام؛ مؤكدا "أن من يسعى إلى نصف سلام، فسيأتي بنصف حرب". أما الإدارة الأمريكية، التي وجدت نفسها في وضع حرج، فطالبت إسرائيل بإيضاح نواياها من "خريطة الطريق"، محاولة تجنّب الإحراج الذي وقعت به؛ ما دفع إسرائيل إلى تأكيد التزامها بالخطة، وفق مفهومها. كذلك فقد أثارت هذه التصريحات نوعا من البلبلة، أو الصدمة، في الساحة الفلسطينية، والعربية عموما؛ على اعتبار أن خطة شارون هي الخطة الوحيدة المطروحة في دائرة التداول، في الإطار السياسي الإقليمي والدولي.

واقع الأمر أن فايسغلاس لم يأت بجديد، وأقواله ليست مفاجئة، لسبب بسيط هو أن إسرائيل لم تعلن قبولها"خريطة الطريق" بشكل مطلق، كما لم تعلن رفضها لها، من قبيل المناورة؛ فقد اعتمدت إسرائيل المراوغة، كعادتها، في تخريج موقفها من الخطة، بحيث لا تبدو كمن يعارض السياسة الأمريكية، وبنفس الوقت تقوم بما من شأنه وضع العصي في الدواليب، وترك المعارضة للطرف الأخر.

هكذا اقترنت موافقة إسرائيل على الخطة باشتراطات أهمها: أولا، قبول التحفظات الإسرائيلية، وعددها 14، وتمس وضع المستوطنات والحدود والقدس واللاجئين والأمن؛ ثانيا، رفض إشراف الاتحاد الأوروبي على الخطة، وحصر ذلك بالولايات المتحدة؛ ثالثا، عدم اعتماد جدول زمني وربط الخطة بالإجراءات العملية في كل مرحلة للانتقال للمرحلة التالية؛ رابعا، رهن الخطة بتنفيذ الفلسطينيين لتعهدات أهمها: وقف العنف (الإرهاب بالمصطلحات الإسرائيلية)؛ تغيير القيادة؛ إصلاح المؤسسات؛ ثم يأتي دور إسرائيل في تنفيذ الاستحقاقات المطلوبة منها!

وكان اريئيل شارون ذكر هذه الشروط في خطابه الشهير أمام مؤتمر "المناعة القومي"، في هرتسيليا(ديسمبر 2002)، في معرض تفسيره لخطة بوش، التي تتطلّب، بحسب رأيه "خلق قيادة فلسطينية جديدة، صاحبة مسؤولية ونظيفة من الفساد، ووقف الإرهاب، وبناء تعاون مدني واقتصادي، ووقف التحريض، وتنمية التربية للسلام". وذلك في مقابل مجرد "قيام إسرائيل بتخفيف الضغط العسكري، وخلق تواصل جغرافي بين التجمعات السكانية الفلسطينية، وتسهيل الظروف المعيشية للمواطنين". ويتابع شارون: "في المرحلة الثانية لخطة بوش ستسمح إسرائيل بإقامة دولة فلسطينية ضمن حدود غير نهائية، في مناطق A وB ما عدا مناطق أمنية ضرورية (أي في أقل من 40 بالمئة من الضفة).. وستستمر إسرائيل في السيطرة على جميع المداخل والمخارج في الدولة الفلسطينية، وعلى المجال الجوي الفلسطيني. وفي المرحلة الأخيرة، بحسب شارون، "سيتم التفاوض حول الوضع النهائي للدولة الفلسطينية، وحدود الدولة الثابتة.. لن نتقدم من مرحلة لأخرى حتى تسود علاقات هادئة، وإجراء تغييرات في مبنى السلطة الفلسطينية".

وقد سخر المحلل الإسرائيلي بن كسبيت من هذه الشروط التعجيزية، والمراوغة، التي تعني تهرّبا إسرائيليا من الخطة، باشتراطها تحويل الفلسطينيين إلى سويديين، أو ربما تحويل السلطة الفلسطينية إلى دولة على غرار السويد!

الآن إذا كانت هذه الشروط الإسرائيلية معروفة، وسبق أن تم تداولها في التحليلات الصحفية والسياسية، بعيد إعلان خطة شارون للانسحاب الأحادي من غزة، فما الذي قاله فايسغلاس حتى أثار كل هذه الضجة؟!

الواقع أن ذنب فايسغلاس أنه فضح حقيقة كل ما يجري من تواطؤ أو سكوت بشأن خطة شارون، من موقعه كمستشار ومرسال خاص له للإدارة الأمريكية، وأنه أكد ما تم تداوله بين المحللين، منذ أن أطلقت هذه الخطة. وفي حينه، كانت التحليلات تركز على أن خطة شارون، المتضمنة الانسحاب من غزة، إنما تستهدف تشريع ضم أكبر في الضفة، وترسيخ الاحتلال، كأمر واقع فيها، عبر المستوطنات وجدار الفصل العنصري. وأن هذه الخطة تتوخّى التملص من استحقاقات "خريطة الطريق" والتحرر من عملية التسوية برمتها، ربما لعقد من الزمن، أو أكثر من ذلك. وأن شارون لجأ لهذه الحيلة للتملّص من الضغوط الأمريكية، وللظهور بمظهر المساير لسياسة البيت الأبيض. ولعل هذا السلوك المراوغ يذكر بإسحق شامير(رئيس وزراء إسرائيل الأسبق)، الذي أعلن أنه سيفاوض من أجل التفاوض لعشرة أعوام! وذلك عندما اضطرّ، تحت ضغط إدارة بوش الأب، للمشاركة في مؤتمر مدريد للسلام (أواخر 1991).

أما أهم ما قاله فايسغلاس، في المقابلة التي أجراها معه آري شفيط، الصحفي في هآرتس، فيمكن تلخيصه في التالي:1 ـ اعتقاد شارون، أنه عبر خطته، يفرض تسوية انتقالية ذات مدى بعيد، من 5 - 20 سنة. شارون، كان يفضل أن تمتد المرحلة الأولى من خريطة الطريق لثلاث سنوات. والثانية لخمس سنوات. والثالثة ست سنوات. (بدلا من أن تنتهي أواخر عام 2005)! والمعنى أن هدف شارون هو تجميد العملية السلمية؛ 2ـ إدراك شارون أن الوقع لا يعمل لصالح إسرائيل.. هناك تآكل دولي وداخلي وكل شيء ينهار في البلاد. الاقتصاد في وضع صعب.. مبادرة جنيف ذات تأييد واسع، وعريضة الضباط والطيارين والوحدات الخاصة.. الخوف هو أن يؤدي وصول مبادرة بوش إلى طريق مسدود.. عندها لا يقوم العالم بتغيير الواقع وإنما الصيغة ذاتها؛ 3ـ فك الارتباط يوفر لإسرائيل فرصة حل انتقالي يجنّبها الضغط السياسي. ويعطي الشرعية لادعائها عدم التفاوض مع الفلسطينيين.. وينقل المبادرة إليها.. ويدخل الفلسطينيين في ضغط هائل؛ 4ـ "الانسحاب في السامرة رمزي. يهودا والسامرة تعتبر منطقة حيوية من حيث المصلحة القومية.. مستقبل المستوطنات(في الضفة) سيتحدد بعد سنوات كثيرة عندما نصل إلى التسوية النهائية"؛ 5 ـ "أدى فك الارتباط إلى حصولنا على تصريح أمريكي هو الأول من نوعه بأن التجمعات الاستيطانية ستكون جزءا من إسرائيل.

وفي النهاية يلخّص فايسغلاس خطة شارون بالتخلص من العملية السياسية التي "تقوم على إقامة دولة فلسطينية مع المخاطر التي تنطوي عليها.. مع إخلاء مستوطنات وإعادة لاجئين وتقسيم القدس.. هذا جُمد الآن.. بلورنا وضعا في مواجهة الفلسطينيين.. نجحنا في إزالة العملية السياسية عن جدول الأعمال. حصلنا على شهادة تقول: أ- لا يوجد من نتفاوض معه. ب - طالما لا يوجد من نتفاوض معه سيبقى الوضع الجغرافي القائم ساريا. ج - هذه الشهادة ستُلغى فقط عندما يحدث هذا الأمر وذاك. وعندما تكون فلسطين فنلندا. د - إلى اللقاء ووداعا".!

طبعا المسألة لا تتوقف على تصريحات فايسغلاس، فهذا شاؤول موفاز وزير الدفاع الإسرائيلي، مثلا، أفصح علانية، وقبل أيام فقط عن أهداف خطة شارون، بقوله: "مغزى خطة فك الارتباط تاريخيا إنها تدمر الاستراتيجية الفلسطينية". أما حدود إسرائيل فهي بالنسبة لموفاز: التجمعات الاستيطانية بما في ذلك غور الأردن والقدس، عاصمة موحدة لإسرائيل.. الاستيطان في يهودا والسامرة سيحدد الحدود.. خطاب بوش وفر أساسا راسخا لذلك.. القطاع سيكون كيانا قائما بذاته حتى التسوية الدائمة، وعندها سيتحول إلى جزء من الدولة الفلسطينية.. إسرائيل تتخذ خطوة لرسم الواقع الجديد: فك الارتباط في غزة وبناء الجدار في الضفة سيؤديان إلى إنجاز استراتيجي.. فك الارتباط عن غزة يعني فك الارتباط عن مليون ومائتين أو ثلاثمائة ألف فلسطيني" (يديعوت أحرونوت 29/9/2004)

على ذلك يمكن الاستنتاج بأن العملية السياسية التي انطلقت من مدريد (1991)، وتوّجت باتفاق أوسلو (1993)، والمتمثلة بقيام دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، والقائمة على فكرة دولتين لشعبين، انتهت على يد إسرائيل، واليمين الإسرائيلي، الذي طالما اعتبرها كارثة لإسرائيل، ومحاولة لتقويض الصهيونية. ولكن المشكلة أن كل ذلك يجري في ظل تواطؤ أو سكوت دولي، وأمريكي خاصة، وفي ظل عجز عربي فاضح؛ في وقت تستثمر فيه إسرائيل تداعيات الحرب الدولية ضد الإرهاب واحتلال العراق، والابتزازات الأمريكية للبلدان العربية. والمشكلة الأكبر أن الفلسطينيين، بعد أربعة أعوام من الانتفاضة، يجدون أنفسهم ضحية الاستفراد الإسرائيلي بهم، قتلا وتدميرا، دون أية بدائل سياسية مناسبة، لا سيما أنهم لن يصبحوا فنلنديين ولا سويديين ولا نرويجيين!