مواجهة الإفقار تستلزم تطوير وسائل جديدة وراديكاليّة في السلوك والتفكير

تقبع حوالي 60 بالمئة من العائلات العربية في إسرائيل تحت خط الفقر، وتفتقر إلى غالبية الوسائل التي يمكن لها أن تحسن حالتها. وتضاف إلى هذا الواقع حالة الاختناق الاقتصادية السائدة في غالبية السلطات المحلية العربية، التي تشكل الإطار الاقتصادي الأوسع (الماكرو) للسكان العرب، وبمثابة إدارته العامة. تدنو السلطات العربية، حاليا، من حالة إفلاس مالي تهدد بالقضاء على خدمات الرفاه الاجتماعي والخدمات البلدية، التي يحتاجها مواطنوها كحاجتهم الى الهواء للتنفس. ولا يقل عن ذلك أهمية كون السلطات المحلية العربية المشغلَ الأكبر في الاقتصاد العربي المحلي، وبالتالي فإن الضائقة التي تعانيها هي عمليا ضائقة تلحق بآلاف العائلات. الوسائل التي من شأنها اختراق هذه الحلقة المفرغة هي الاستثمار في الإنسان نفسه، وتطوير اقتصاد محلي قادر على الصمود، والمبادرة الفردية، والاستثمارات واقتلاع الحواجز البنيوية. لا تحظى هذه العوامل والوسائل برعاية وعلاج، كما أن غالبيتها محاصر بالانغلاق الحكومي وبالتمييز. فقد أظهر تقرير لفحص مستوى وأوضاع التعليم العربي، أصدرته لجنة متابعة قضايا التعليم العربي، أن الفجوة في التحصيل العلمي بين التلاميذ العرب واليهود تواصل الاتساع سلبا بسبب التمييز المستمر في تخصيص الموارد، وبسبب التدخل الفظ للسلطة في مضامين التعليم.

تتحدث كافة التقارير والمعطيات الرسمية عن تمييز مستمر، في تخصيص الميزانيات والموارد في جميع بنود ميزانية الدولة. فالسلطات المحلية العربية تعاني تمييزًا في الميزانيات، وتتلقى بقايا ميزانيات التطوير وميزانيات المبادرة وهبات إقامة المصانع أو توسيعها. تخضع المناطق الصناعية الواقعة بالقرب من القرى والمدن العربية لمناطق نفوذ السلطات المحلية اليهودية، لتتمتع الأخيرة من مردود ضريبة الأملاك، "الأرنونا". تقول الدولة للمواطنين الضعفاء ما مفاده: "لن أوزع عليكم السمك، بل سأوزع عليكم الشباك حتى تتعلموا الصيد بمفردكم، ولا تعتمدوا في معيشتكم على سلطات الدولة". لكن السكان العرب لا يملكون ما يكفي من الشباك، بل يتم أحيانا مصادرتها.

ليس بمستغرب، في مثل هذا الواقع، أن تكون 30% من العائلات الفقيرة هي من العائلات العربية، وأن يكون نحو 60% من الأولاد الفقراء في الدولة عربًا، وأن تعيش 60% من العائلات العربية تحت خط الفقر. وليس غريبا أن تكون غالبية السلطات المحلية العربية في أدنى درجات سلم الدخل في الدولة. فمعدل الدخل السنوي للفرد في الوسط العربي لا يزيد عن 4000 دولار مقارنة بالمعدل العام في الدولة (16000 دولار). ولا يزيد نصيب السكان العرب في الدولة، في الناتج القومي المحلي السنوي، عن 4%.

المشكلة المركزية التي ينبغي برأيي أن "تطير النوم" من عيون المواطنين العرب وقادتهم هي درجة الفقر وفقا للدخل الاقتصادي (أي وفقا للدخل الإجماليّ) قبل دفع مخصصات الدولة والضرائب، باعتباره المقياس الموثوق للمناعة الاقتصادية والاجتماعية للأقلية العربية. فليس من الحكمة الاعتماد على منن الدولة لضمان العيش وفق حد أدنى من الكرامة، لا سيما أن مدفوعات المخصصات للسكان العرب لا تساعد على الخروج من دائرة الفقر، كما هي الحال لدى السكان اليهود. يشير هذا المعطى إلى مدى تجذر الفقر في أوساط الأقلية العربية، ولربما يشير أيضا إلى العدد القليل - نسبيا- من العائلات العربية التي تستوفي شروط الدعم أو مخصصات الرفاه الاجتماعي. أضف إلى ذلك أن هذه المخصصات لا تحسّن كثيرا مستوى معيشة العائلات التي تنجح بفضلها في النجاة من الفقر. فهي ترفع، قليلا، مستوى الدخل بما يكفي لإخراج هذه العائلات من الإحصائيات الرسمية للفقر، لكن حالتها المادية لا تتغير، على أيّة حال، ولا تتحسن كثيرا. هذا الاعتماد على المخصصات هو في غاية الخطورة لمجتمع يصبو الى العيش بكرامة. ينبغي المطالبة بالحصول على الوسائل والموارد والميزانيات، والمشاركة في تحديد الميزانيات وتوزيعها، ومعالجة المشكلة علاجا متواصلا ومنظما وموحدا.

وتبيّن التقارير المختلفة أنه لا يكاد هناك علاقة بين معدلات الفقر، لدى الأقلية العربية، وبين النمو الاقتصادي في الدولة، وبخاصة حين يقاس الفقر وفق الدخل الإجماليّ، وبدرجة أقلّ حين يقاس وفق الدخل الصافي. بعبارة أخرى، لا تستفيد الأقلية العربية، التي تعيش على هامش الاقتصاد الإسرائيلي، من التحولات الإيجابية في الاقتصاد الإسرائيلي، وما يدور داخل هذا الاقتصاد يكاد لا يؤثر فيها. الاقتصاد الجديد وتكنولوجيا المعلومات والصناعات المتقدمة (وهي فروع لا يكاد يوجد فيها تمثيل للعرب) تشكل مصادر الدخل والنمو الأساسية في العقد الأخير في الدولة عامة. يضاف الى كل ذلك نسبة البطالة العالية، والمشاركة المتدنية في قوة العمل لدى الأقلية العربية؛ فالجمهور العربي في هذه الدولة لا يعتبر "لاعبا" اقتصاديا، بل هوامش مهملة. وقد تضاعف الفقر في العقد الأخير، ويُتوقع أن يتدهور الوضع أكثر بسبب التحولات الجارية حاليا في مفهوم الدولة للاقتصاد.

ليس من شأن هذا الواقع أن يعفي المجتمع العربي من مسؤوليته، أو أن يبرّئ ساحته. صحيح أن غالبية مسببات هذا الواقع ليست تحت سيطرته، لكن ذلك لا يعفيه من المحاولة للعمل والتطلع والتغيير أينما أمكن. يتحتم بناء منظمات ومؤسسات تساعد في حل الضائقة أو الحدّ منها، بواسطة المجتمع المدني وقطاع الأعمال الخاصّ على حد سواء. فكل تحسين يمكن تحقيقه، مهما يكن صغيرًا، يحمل في طياته بذور أمل وتغيير، سواء كان ذلك على صعيد الفرد أو الجماعة. فقطاع الأعمال الخاص، تحديدًا، والوسط العربي، عامّةً، ملزمان بالمرور بعملية تغيير في الثقافة الاقتصادية، واختراق قيود الاستهلاك والانتقال للإنتاج، وتغيير ثقافة التشغيل والأجور السائدة في السوق المحلية. كما أن على ممثلي الجمهور ومنتخبيه- رؤساء السلطات المحلية وأعضاء الكنيست ولجنة المتابعة العليا- العمل في هذا الاتجاه. من شأن عمل جماعي مشترك وموجّه، ضد المؤسسة والحكومة، من ناحية، ويسعى في الوقت ذاته إلى التعاون مع جهات مختلفة نحو التغيير الداخلي، من ناحية أخرى، من شأنه أن يسهم في تحسين الوضع. ينبغي بلورة قواعد لعبة جديدة، سواء كان ذلك في مواجهة الدولة، أم في مواجهة الشركات الاحتكارية التي تبيع منتجاتها للعرب دون أن تقيم معملاً واحدًا في الوسط العربي، وبدون شراء مواد خام أو تكميليّة عربية الصنع. إننا ملزمون بتغيير سلوكنا الاستهلاكي، وموقفنا العاجز. فشروط السوق، وقوة الواقع، وخطورة المشكلة، كل هذه مجتمعةً تستلزم تطوير وسائل جديدة وراديكاليّة في السلوك والتفكير.

(*) باحث في مركز "مدى الكرمل" للأبحاث الاجتماعية التطبيقية.

Terms used:

الكنيست