نظرة إلى تصدع العلاقات الأوروبية - الاسرائيلية

شهدت الأسابيع الماضية نوعا من السجال حامي الوطيس بين الحكومتين الفرنسية والإسرائيلية، وبلغ هذا السجال ذروته إذ تدخل فيه بشكل مباشر كل من الرئيس الفرنسي جاك شيراك ورئيس الحكومة الإسرائيلية أريئيل شارون. بدأ هذا السجال بادعاء فتاة فرنسية ـ يهودية بأنها تعرضت للاختطاف والتشويه. وقد استغلت وسائل الإعلام الصهيونية هذا الخبر، كعادتها، لتسعير حملتها على العرب والمسلمين الذين باتت تتهمهم بالإرهاب، على الطالع والنازل، من دون التمحّص في هذه القضية وتبيّن صدقية مدعيّتها!

ولم يلبث أن دخل شارون على الخط مقدما النصح ليهود فرنسا بالهجرة إلى إسرائيل، معتبرا أن فرنسا لم يعد بلدا آمنا بالنسبة لليهود. لكن الفتاة المذكورة ما لبثت أن عادت عن أقوالها السابقة معترفة بأنها اختلقتها! ولكن شارون لم يتراجع عن مواقفه ولم يعتذر لفرنسا ومواطنيها عن الاتهامات التي كالها ضدهم، بل إنه صعّد من حملته ضد فرنسا مطالبا يهودها بترك وطنهم والمجيء لإسرائيل.

وقد استند شارون في مواقفه هذه إلى الادعاءات التي تروّجها إسرائيل بشأن تصاعد موجة اللاسامية في فرنسا تحديدا، وفي أوروبا عموما، وبشأن الخطر على اليهود الناجم عن تواجد أعداد كبيرة من المهاجرين العرب والمسلمين، والذين يؤججون الكراهية ضد اليهود، بحسب رأيه، في المجتمعات الأوروبية. وتدّعي إسرائيل بأن موجة اللاسامية التي تتوازى مع الانحياز للعرب ضد إسرائيل، باتت تطال الحكومات أيضا وليس فقط المجتمعات في أوروبا.

وفي الواقع فثمة مراوغة في محاولة إسرائيل الإيحاء بأن الموقف من سياساتها العدوانية والعنصرية ضد الفلسطينيين هو نوع من اللاسامية، وكأن الموقف منها، على خلفية هذه السياسات، هو موقف معاد لليهود. ولعل إسرائيل بهذا الموقف الابتزازي المفبرك، لا تضر بذاتها فقط وإنما تضر باليهود في بلدانهم، بخلقها فجوة بين اليهود والأوطان التي يعيشون فيها (وهذا هو الموقف التقليدي للصهيونية)، كما أنها تخلق نوعا من الانتماء المزدوج لليهود، بين أوطانهم وبين إسرائيل.

وهو ما يفتح مجالا للريبة تجاه ولاء اليهودي في وطنه، كما أن إسرائيل في كل ذلك تفاقم من مشاعر الريبة والعداء ضدها لدى مجتمعات وحكومات أوروبا، في آن معا. والمفارقة أن إسرائيل بمواقفها هذه تتناسى أنها هي البلد الوحيد الذي لم يعد آمنا بالنسبة لليهود، بسبب سياسات حكومتهم الخرقاء، وأن إسرائيل هي أحد أهم أسباب زيادة الكراهية لليهود في العالم.

على أية حال فإن السجال الفرنسي ـ الإسرائيلي، أشار إلى حقيقة التدهور في مكانة إسرائيل على الصعيد الأوروبي من جهة الحكومات والمجتمعات، وبين إلى أنه ثمة تبدل كبير في العلاقات الأوروبية ـ الإسرائيلية. ويمكن تتبع هذا التبدل في المحطات التالية:

أولا ـ منذ قيامها ظلت إسرائيل بمثابة الابن المدلل لأوروبا، برغم من أنها نقلت ولاءها إلى الولايات المتحدة، بدءا من النصف الثاني من القرن العشرين. وعمليا فإن إسرائيل مدينة بقيامها لأوروبا الاستعمارية، التي منحت الادعاءات الصهيونية الشرعية السياسية الدولية، وأمدّتها بكل أنواع العون السياسي والاقتصادي والعسكري، لإقامة مشروعها الاستيطاني الاحلالي في فلسطين، قلب الشرق الأوسط. وكانت أوروبا (الغربية تحديدا) ترى في وجود إسرائيل في الشرق الأوسط امتدادا لها ونوعا من إضفاء مشروعية على وجودها الاستعماري السابق فيه، ومنافحا عن مصالحها في مواجهة النفوذ السوفييتي في هذه المنطقة، وفرصة للتكفير عن الذنب التي اقترفته بعض دولها إزاء اليهود إبان صعود الفاشية والنازية، في الأربعينيات من القرن الماضي. بدورها فإن إسرائيل عملت على تعزيز مكانتها لدى أوروبا، بادعاء انتمائها لحضارة الغرب والدفاع عن مصالحه في مواجهة الراديكالية القومية والشيوعية، وأيضا بالادعاء بأنها واحة للديمقراطية والحرية في الشرق الأوسط، إبّان مناخات الحرب الباردة.

ثانيًا ـ لكن علاقات «السمن والعسل» الأوروبية ـ الإسرائيلية هذه لم تبق على حالها، إذ بدأ الصدع يتهددها باندلاع الانتفاضة الفلسطينية الكبرى (1987 ـ 1993). فهذه الانتفاضة الشعبية فضحت الطابع الاستعماري ـ العنصري لإسرائيل، وقوضت صورتها كدولة ديمقراطية، وأظهرتها على طبيعتها كدولة تستخدم ترسانتها العسكرية لمواجهة المتظاهرين العزل من السلاح وأطفال الحجارة.

في هذه المرحلة بدأ الرأي العام الأوروبي يتحرر من عقدة اضطهاد اليهود، بعد أن شهد «الضحايا» السابقين، ممثلين في دولتهم إسرائيل، يتماثلون مع مضطهديهم السابقين (في أوروبا) بممارستهم العنف الوحشي والتمييز العنصري ضد الفلسطينيين، واحتلال أراضيهم والسيطرة عليهم بوسائل القوة.

ثالثًا ـ في مطلع التسعينيات ازداد هذا التصدع اتساعا مع نشوء واقع موضوعي تمثل بانهيار الاتحاد السوفييتي (السابق)، إذ وجدت أوروبا نفسها (حكومات ومجتمعات) متحررة من علاقات واستحقاقات الحرب الباردة، إلى حد ما، ما دفعها إلى إعادة اكتشاف ذاتها، بتسريع قيام «الاتحاد الأوروبي»، وبمراجعة سياساتها الخارجية. وقد تجلى ذلك بسعيها لتعزيز مجالها الحيوي المتمثل ببعدها الجغرافي والتاريخي ـ المتوسطي، وبحماسها لعملية التسوية وإطلاق مشاريع الشراكة الاورو متوسطية، التي يحتل فيها العرب موقعا مهما، ما شكل عامل توجّس وقلق لدى إسرائيل. وقد فاقم من حدة هذا الصدع، أيضا، اعتبار إسرائيل جزءا من المعسكر الأميركي في التجاذب الأوروبي ـ الأميركي بشأن مضامين العولمة.

رابعًا ـ طوال مسيرة عملية التسوية، التي انطلقت من مدريد (أواخر 1991)، حاولت أوروبا الاضطلاع بدور متوازن لدفع الطرفين العربي والإسرائيلي لإيجاد حل للصراع بينهما، كما عملت على تقديم مختلف أشكال الدعم لتشجيع الطرفين المعنيين على الاستمرار في هذه العملية، من الناحيتين السياسية والمادية. لكن أوروبا وجدت نفسها في تعارض، أو تصادم، مع سعي الولايات المتحدة لتكريس هيمنتها كقطب أوحد على العالم.

وفي إطار هذا التجاذب الأميركي ـ الأوروبي «الشرق أوسطي» بدت إسرائيل بمثابة أداة طيعة في يد الولايات المتحدة للحد من نفوذ أوروبا، التي بدأت تحظى بقبول شعبي ورسمي في الساحة العربية، بحكم دراية أوروبا بظروفها وتجاوبها مع مصالحها، وقناعتها بضرورة إيجاد مقاربة ملائمة لحل الصراع العربي ـ الإسرائيلي، انطلاقا من الشرعية الدولية. واللافت أن إسرائيل، لا سيما في ظل حكومات "الليكود" باتت تتنكر لأوروبا، بل إنها بدت عدائية تجاهها.

وظلت إسرائيل ترفض أي دور أوروبي فاعل في عملية التسوية، بدعوى أن أوروبا تحابي العرب وأنها تتجه نحو اللاسامية. لذلك اقتصر الدور الأوروبي في هذه العملية على التمويل المالي، حيث قدمت الدول الأوروبية عشرات المليارات من الدولارات للفلسطينيين، لإقامة البنى التحتية والمؤسسات، التي دمرتها إسرائيل بدم بارد في السنوات الثلاث الماضية.

خامسًا ـ منذ بداية انتفاضة الأقصى (سبتمبر 2000) بدأت إسرائيل تشعر بالتدهور في مكانتها في أوروبا، إن في المجتمعات أو بالنسبة للحكومات، وذلك بسبب استخدامها أقصى أشكال العنف في مواجهتها الفلسطينيين، وقيامها بتدمير بناهم التحتية التي تم تمويلها بأموال أوروبية (في رسالة ذات مغزى)، هذا فضلا عن قيامها بإعادة احتلال المناطق التي تديرها السلطة الفلسطينية، الأمر الذي أدى إلى تقويض عملية التسوية برمتها.

وفي ظل حكومة شارون رفضت إسرائيل المحاولات التي أجرتها الدول الأوروبية لتفعيل عملية التسوية، كما رفضت الدور الأوروبي في اللجنة الرباعية، المتعلق بالحكم على تنفيذ خطة «خريطة الطريق». كما شهدت علاقات إسرائيل توترات مع أكثر من دولة أوروبية على هذه القضية أو تلك ويشمل ذلك أيضا بريطانيا.

وفي هذه المرحلة تطور الموقف الأوروبي كثيرا لصالح الفلسطينيين، إذ عبر الأوروبيون عن مواقفهم المناهضة لسياسات إسرائيل بحملات المقاطعة للبضائع الإسرائيلية، لا سيما التي تنتجها المستوطنات، وفي مقاطعة الجامعات والمثقفين الأوروبيين للأنشطة مع الجانب الإسرائيلي، وفي البيانات والمظاهرات والحملات الإعلامية المتعاطفة مع الفلسطينيين، وفي أفواج المشاركين في «الحملة الدولية للتضامن مع الشعب الفلسطيني».

من كل ذلك يمكن الاستنتاج بأن محاولات الابتزاز الإسرائيلي لأوروبا باتت مستهلكة ومكشوفة وغير ذي جدوى، لا بالنسبة للمجتمعات ولا بالنسبة للحكومات. فقد دأب الاتحاد الأوروبي خلال السنوات الماضية على التنديد بالممارسات العنصرية والإرهابية التي ترتكبها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني. ومارس ضغوطا على إسرائيل من أجل دفعها لتنفيذ الاستحقاقات المطلوبة منها في عملية التسوية، وأخذ مواقف مؤيدة للعرب وضد الممارسات الإسرائيلية في المنظمات الدولية، وكان آخرها في محكمة العدل الدولية وفي الجمعية العامة للأمم المتحدة، وذلك بشأن إلغاء جدار الفصل العنصري واعتباره عملا لا مشروعا ومطالبة إسرائيل بالتعويض عن المتضررين منه.

والواقع فإن ممارسات إسرائيل، ضد الفلسطينيين، كسرت لدى الرأي العام العالمي احتكارها مكانة الضحية واحتكارها المنفى وتصويرها لنفسها كواحة ديمقراطية؛ وهو الاحتكار الذي كانت عبره تتلاعب بعواطف الناس وتغذي صورتها لديهم. وبدلا من ذلك فقد باتت صور الفلسطينيين الذين يعانون قمع الاحتلال وأفانين الحصار والحرمان من الهوية والوطن، تحتل الوجدان العالمي.

ويمكن القول بأن إسرائيل خسرت أوروبا، التي باتت أكثر تفهما لحقوق الشعب الفلسطيني ولأهمية لجم عدوانية وعنصرية إسرائيل، حفاظا على الأمن والسلام في هذه المنطقة الاستراتيجية بالنسبة لأوروبا والعالم.