خلاف مالكا- جلعاد ومكانة الضباط في الحياة الاسرائيلية العامة

عندما نشرت صحيفة "معاريف"، في اواخر الشهر الماضي، نبأ الدعوى التي رفعها الجنرال عاموس جلعاد ضد الدولة اليهودية مطالبا بتعويض عن الاستنزاف الذي أصابه من عمله الاستخباري، رد عليه عضو الكنيست يوسي سريد بأنه يطالب بتعويض أكبر جراء الاستنزاف الذي أصابه وهو يفند آراء جلعاد. والواقع انه لم يكن سريد وحده من رد على جلعاد، بل كان هناك العشرات من الكتاب والصحافيين ورجال الجيش السابقين. وكان واضحا ان الردود لا تخلو من تشف برجل عانى الكثيرون من "سلاطة لسانه". والأوضح ان اليسار الاسرائيلي رأى طوال الوقت في طروحات جلعاد "الاسناد المهني" لسياسة اليمين الاسرائيلية، ليس فقط ضد الفلسطينيين، وإنما كذلك ضد العراق وسوريا وايران.

وليس صدفة ان الدعوى التي رفعها جلعاد ضد وزارة الدفاع، لأسباب صحية حسب مبرراته، ترتكز على الفكرة النقيض للصورة المأخوذة عنه. فهو يبين ان مرض السكري انتشر في جسده من غير أوان بسبب الصدمة التي أصابته جراء تعامله مع جوانب مختلفة لمجزرة صبرا وشاتيلا، قبل وأثناء وبعد المجزرة. بل يذهب كذلك الى الاشارة الى انه كان بين من وفروا على اسرائيل حربا أو استعدادات لحرب مع سوريا جراء تقديرات خاطئة لعدد من المسؤولين في أجهزة الاستخبارات.

غير انه قبل ان يهدأ غبار عاصفة دعوى التعويض، أثار عكيفا الدار في "هآرتس" عاصفة أقوى من خلال كشفه النقاب عن اتهام رئيس شعبة الاستخبارات الاسبق عاموس مالكا، لعاموس جلعاد بتزوير التقديرات الاستخبارية. ورغم تحفظ مالكا لاحقا على "العنوان الصارخ" الذي حملته "هآرتس"، إلا انه أكد تشبثه بالاتهام. وسرعان ما انضم الى الحملة جنرالات سابقون وساسة طالبوا بتشكيل لجنة تحقيق لمعرفة حقيقة "مهنية" التقديرات الاستخبارية.

ومما لا ريب فيه ان حملة الجنرال مالكا على الجنرال جلعاد لا تنطوي على جديد سوى الموضوع. ففي الوقت الذي حمل فيه، في الماضي، الكثير من الجنرالات على بعضهم البعض، كان الحديث يدور عن أشخاص، لا عن مؤسسة. غير ان حملة مالكا دفعت الجميع الى التركيز على العنصر المؤسساتي والتساؤل عن مدى صحة اعتماد القيادة السياسية على تقديرات جهة استخبارية واحدة. ولذلك ليس صدفة ان مثيري الحملة ضد جلعاد ركزوا على دوره في تكريس "المفهوم" الذي يرى ان الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات لم يكن أصلا يرغب في التوصل الى اية تسوية، وانه يسعى الى تدمير اسرائيل بوسائل اخرى.

والواقع ان الاشارة ل"المفهوم" ليس بالامر العابر. فهذه الكلمة محملة بإرث حرب تشرين عام 1973 حيث جرى التركيز على ان "الاخفاق" و"التقصير" و"الهزيمة" التي أصابت اسرائيل نبعت في الاساس من سيادة "مفهوم" محدد. واستند المفهوم آنذاك الى قاعدة انه من دون توافر أسلحة هجومية معينة ومن دون تحقيق ظروف عربية محددة لا يمكن لمصر وسوريا ان تفكرا في شن هجوم على اسرائيل. وأسهم هذا "المفهوم" في دفع قائد شعبة الاستخبارات آنذاك الى رفض الانذارات والتحذيرات التي أشارت الى قرب الهجوم المصري السوري المشترك.
ومعنى ذلك ان "المفهوم" الذي غرسه عاموس جلعاد في المؤسسة العسكرية والسياسية الاسرائيلية دفع حكومتي العمل والليكود، في عهد ايهود باراك وأريئيل شارون، الى التصرف على أساس عدم وجود شريك فلسطيني للتسوية. وثمة في اسرائيل من يعتقدون أن هذا "المفهوم" كان وراء استمرار الانتفاضة ووراء تدهور مكانة اسرائيل الاقتصادية والسياسية ووصولها الى طريق مسدود على صعيد التسوية. ويرى هؤلاء ان الجنرال جلعاد يتحمل أكثر من غيره مسؤولية تكريس نظرية "انعدام الشريك" التي شكلت القاعدة الاساسية لخطة الفصل ولأفكار الحلول من طرف واحد.

وهنا لا بد من الاشارة ايضا الى انه رغم توصية "لجنة اغرانات" التي حققت في ظروف حرب تشرين بتشكيل مجلس أمن قومي فاعل والسعي لتنويع مصادر التقدير، فإن شعبة الاستخبارات بقيت الجهة التي تحتكر أمر تقدير الموقف القومي. ومن الجائز ان خلاف مالكا جلعاد سوف يدفع قوى سياسية وأمنية للمطالبة بتغيير صورة التعامل مع هذا الموضوع الحساس.

ويوم الأحد نشرت صحيفة "هآرتس" مقابلة مع المسؤول السابق في الاستخبارات عن الموضوع الفلسطيني، العميد افرايم لافي، أكد فيها كلام مالكا. ولكن جلعاد الذي رد على الاتهامات بشدة ووصفها بأنها "هراء"، حظي بالتأييد العلني من جانب وزير الدفاع شاؤول موفاز الذي وصف تقديراته بأنها "دقيقة ومخلصة".

وأيا يكن الحال، فإن القضية التي أظهرتها الخلافات بين مالكا وجلعاد سوف تترك أثرا بالغا ليس فقط في احتمال تغيير البنية المؤسساتية لجهات التقدير، وانما في نظرة الشارع الاسرائيلي الى كبار الضباط. والواضح ان صورة الضابط قد تراجعت بشكل كبير في الذهنية العامة الاسرائيلية، خاصة ان لم يبرر هذا الضابط موقفه في كل لحظة. وهذا ما أظهره موقف المفدال مثلا من زعيمه الجنرال إيفي إيتام.