عملية "قوس قزح" في رفح: إستمرار لسياسة "العمليات الإنتقامية" في الخمسينيات

تمثل عملية "قوس قزح" الإسرائيلية في مخيم رفح عودة كاملة الى نقطة الصفر بالنسبة لرئيس الحكومة الإسرائيلية، أريئيل شارون. فالرجل الذي بدأ حياته العسكرية كقائد ميداني في معركة اللطرون وكاد يخسر نفسه بعد ان خسر رفاقه في المجموعة، أفلح في نيل المجد العسكري فقط بفضل "العمليات الانتقامية". وقد جرت بلورة سياسة العمليات الانتقامية في عامي خمسة وخمسين وستة وخمسين لمواجهة ظاهرة العمليات الفدائية من الضفة والقطاع. وقامت هذه السياسة على قاعدة تكبيد المدنيين الفلسطينيين خسائر كبيرة تقود الى الضغط على القيادتين المصرية والأردنية لإعادة النظر وإيقاف ظاهرة العمل الفدائي.

وفي إطار سياسة "العمليات الانتقامية" أنشأ شارون وحدة النخبة في لواء المظليين والتي عرفت آنذاك بالوحدة 101. وقد تخصصت هذه الوحدة في التسلل الى المناطق الخاضعة للسيطرة المصرية والأردنية وتنفيذ أعمال قتل وتدمير بالجملة فيها. وبين أبرز عمليات هذه الوحدة مجازر قبية في الضفة الغربية و"المحطة" و"البريج" في قطاع غزة. ورمت هذه العمليات الى تحقيق غرضين أساسيين: تكبيد العرب أكبر قدر ممكن من الخسائر، الأمر الذي يشبع "غريزة الانتقام" الإسرائيلية، وخلق صورة ردعية تدفع الأنظمة العربية لضبط المقاومين.

وتعتبر المؤسسة الأمنية الإسرائيلية ان فترة "العمليات الانتقامية" شكلت العصر الذهبي لتدريب الوحدات الخاصة ولبث الرعب في صفوف العرب ولاستعادة الجيش الإسرائيلي زمام المبادرة ولبلورة نظرية "الطرف الثالث" الذي يقوم بمهمة القضاء على المقاومين بدلا عن إسرائيل. ورغم ان الانجازات الإسرائيلية على هذا الصعيد كانت محدودة وتمثلت أساسا في دفع الأنظمة العربية الى تقييد ومنع العمل الفدائي، إلا ان قدرة الردع الإسرائيلية لم تتعزز. وهذا ما يمكن ملاحظته من قراءة الواقع الذي أعاد إفراز ظواهر المقاومة الفلسطينية واللبنانية، في خارج الأرض المحتلة حينا وفي داخلها حينا آخر. وبكلمات أخرى يمكن ملاحظة ان القوات الإسرائيلية كسبت من خلال استمرار المعارك مع المقاومين خبرة متزايدة ولكنها أبدا لم تكسب لا المزيد من المعنويات ولا القدرة على حسم الموقف.
وهذا ما يتكرر الآن، ربما بالصورة ذاتها، في رفح. فالغايات من وراء عملية "قوس قزح" لا تتعدى الأهداف التي وضعت لمجزرة قبية ولمجازر أخرى آنذاك كانت استعادة الثقة بالذات، وهي كذلك الآن، رغم البون الشاسع بين ما كانت تمتلكه إسرائيل آنذاك من عوامل القوة، وما تمتلكه الآن من هذه العوامل. وليس صدفة ان أريئيل شارون وقبل أيام قليلة أعلن في خطاب بمناسبة "يوم القدس" انه لم يكن يتوقع ان تكون معركة القدس مستمرة حتى بعد ست وخمسين سنة على إعلان الدولة اليهودية.
ومن الطبيعي ان إعلان شارون هذا والوقائع الميدانية على الأرض تثبت خطأ جميع المفاهيم التي تربى عليها أريئيل شارون. فالنظرة "الأمنية" الإسرائيلية، كانت ولا تزال ترى في الفلسطيني خصوصا، والعربي عموما، عددا لا يستحق اعتباره شريكا. ولذلك أكدت هذه النظرة على "الجدار الفولاذي" الذي يمثل ماديا ومعنويا القوة الرادعة ضد العرب وإجبارهم على القبول بالاملاءات الإسرائيلية. ومن الوجهة العملية كان هذا يعني، حسب باروخ كيمرلنغ، الابادة السياسية للشعب الفلسطيني.

وهكذا، وبعد كل ما مر على معطيات الصراع العربي الإسرائيلي، نجد هذه العودة الى المفاهيم الأولى. فالصهيونية بدأت بفكرة "أرض من دون شعب، لشعب من دون أرض". وكان هذا منطلق التجاهل المطلق للحقيقة العربية في فلسطين، سكانا وتراثا ووجودا متواصلا. وعند الاصطدام مع هذه الحقيقة كانت عمليات التطهير العرقي عام 1948 و"العمل العبري"، والتجهيل والتجاهل للأقلية العربية التي بقيت على أرضها. وبعد ذلك جرى تطوير فكر "الأقليات" وجميع الخيارات "غير الفلسطينية" للحل.
ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن حاولت إسرائيل، وبمفاهيم مفكريها، اختبار سبل "الإبادة السياسية" و"الإبادة الرمزية لشعب" من خلال تصفية القادة والمؤسسات الفلسطينية. ويبدو ان عدم نجاح إسرائيل في ذلك خلق كل هذا الغضب الذي وجد ذروته في عملية "قوس قزح" في رفح. فهناك لم تعد قصة الإسرائيلي مع المحارب الفلسطيني، وهي كذلك ليست أيضا مع المتظاهر الفلسطيني. وكانت مع كل فلسطيني من دون توصيف وعلى أمل ان تجعل حياته جحيما لا يطاق.
وعلى رغم كل ذلك فإن الفلسطيني لا يزال يقاوم.