نجاح شارون في أميركا لا يلغي المستقبل المجهول ل"خطة الفصل"

شكّل الإعلان الرئاسي الأميركي ورسالة الضمانات الورقة الأقوى التي لعب بها رئيس الحكومة الإسرائيلية، أريئيل شارون، لعبته السياسية المسمّاة "خطة الفصل". وخلال أربعة شهور أفلح في تركيز الأنظار المحلية والإقليمية والدولية حول هذه الخطة وبهدف تحقيق عدة أهداف واصطياد عصفورين بحجر واحد. وعلى الصعيد الداخلي غرس في ذهن الكثير من أنصاره بأنه عبر خطة الفصل يوجه الضربة الأقسى للفلسطينيين. وعلى الصعيد الإقليمي أظهر لجميع الدول العربية أن بوسع إسرائيل امتلاك زمام المبادرة والتأثير في الأحداث كما تشاء ومن دون خشية. وعلى الصعيد الدولي أثبت للجميع أنه قادر على امتلاك التأييد الأميركي وقتما يشاء وبالصورة التي يريد.


ولكن الى جانب ذلك كانت الصورة المغايرة. إذ أقنع شارون إدارة بوش أنه يوفر لها فرصة ذهبية لإظهار إنجاز سياسي يمكن أن يقود الى إحياء العملية السياسية. وأنه بدلاً من مواصلة ضرب الفلسطينيين والاحتكاك بهم يمكن الضغط عليهم ب"وسائل أخرى" ستقودهم الى إحداث الإصلاحات البنيوية المطلوبة من هياكل السلطة من جهة والى الشروع بمحاربة الإرهاب من جهة أخرى. وفقط كل المطلوب هو دعم هذه الخطة. وفي الوقت الذي كان فيه شارون يوحي للإسرائيليين بأن خطة الفصل هي البديل الوحيد عن عدم الاتفاق على خريطة الطريق مع الفلسطينيين وعدم توفر الفرصة لبدء تنفيذها، كان يقول للأميركيين إن خطته هي مرحلة ضرورية لتفعيل "خريطة الطريق".


وهكذا بدا واضحاً أنه من خلال القفز من تبرير الى آخر كان أريئيل شارون يتطلع الى تحقيق الهدف المركزي وهو خلق الانطباع بأنه مقبل على خطوة استراتيجية، في الوقت الذي ضيّع فيه أكثر من عامين وهو يعرقل كل تحرّك سياسي الى الأمام. فما الذي استجدّ على هذا الصعيد؟
من المنطقي الافتراض أن تراكم الوقائع يفعل فعله، ولذلك ليس من المستبعد أن تكون لشارون دوافعه الجوهرية. ورغم صعوبة التعرف على حقيقة هذه الدوافع بسبب تضارب الآراء التي يطلقها باتجاه جهات مختلفة، فإن العامل الشخصي بالغ الأهمية. وفي الشهور الأربعة الأخيرة كانت تحقيقات الشرطة تتجه نحو بلورة لائحة اتهام، وهذا ما دفع النائبة العامة عيدنا أربيل الى تقديم مسودة لائحة اتهام والتوصية بتقديم شارون للمحاكمة. وينكر شارون أن لذلك أي أثر في قراره ولكن أغلبية المعلقين في إسرائيل تربط بين الجدول الزمني للتحقيقات والمحاكمة والجدول الزمني السياسي الذي وضعه شارون. ويمكن الإحساس في الأيام الأخيرة بمقدار هذا الربط في الاستعجال الذي أقدم عليه شارون بشأن الاستفتاء وإصراره على أن يُبدي وزراءه موقفهم وأن يتخلّوا عن حالة الجلوس على الجدار.


وكان من المعروف أن المستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية، ميني مازوز، مضطّر لتحديد موقفه النهائي من لائحة الاتهام لشارون خلال شهر من الآن على الأغلب. وصار من واجب شارون استغلال كل دقيقة من أجل خلق وقائع على الأرض. وإذا كان شارون قد أفلح في دفع الرئيس الأميركي إلى الإقرار ب"الواقع الديموغرافي" الناجم عن فرض المستوطنات كأمر واقع في الأراضي المحتلة فإنه يفرض الآن على الحلبة السياسية والقضائية الإقرار ب"الواقع السياسي" الذي خلقه عبر خطة الفصل.


ويتحدث بعض المعلقين الإسرائيليين علناً عن "الإرهاب السياسي" الذي فرضه شارون على الجهازين السياسي والقضائي وتجنيد كل قدراته لتحييدهما. وأراد من خطة الفصل، التي كان هو من أول أعدائها، الاقتراب على وجه التحديد من الرأي العام الإسرائيلي ومن حزب "العمل". ويمكن القول إنه نجح في ذلك الى حد كبير دفع حتى بعض خصومه، وفي مقدّمتهم بنيامين نتنياهو، الى تأييد خطة الفصل.

ولكن شارون الذي استخدم الدعم الأميركي بقوة كوسيلة لإقناع وزرائه بتأييد خطة الفصل عن طريق إظهار مقدار ما يدفعه الفلسطينيون سياسياً، يحاول كذلك إقناع جمهور "الليكود" بهذه الخطة عن طريق إظهار الدماء الفلسطينية التي ستسيل جراءها. وفي الحالين يدفع الفلسطينيون أثمانا سياسية ومن أرواحهم من أجل أن يتمكن شارون من البقاء في الحكم. وما الاغتيالات الجارية لقادة المقاومة، وآخرهم الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، إلا خطوات على هذا الطريق.


وترمي كل هذه الخطوات لوضع الجهاز القضائي الإسرائيلي أمام معضلة خطيرة وهي: هل ينبغي لها أن تقفز عن التأييد الشعبي لشارون وتتدخل أصلاً في الإجراء الديموقراطي بأن تقدم رئيس الحكومة للمحاكمة؟ ثم إذا كان كل ذلك غير مقنع، هل ينبغي للمستشار القضائي أن يمنع لأسباب إجرائية رئيس حكومة من تنفيذ خطوة استراتيجية تحظى بدعم "الصديق الأقوى" في العالم؟


ومع ذلك لا بدّ من الإشارة هنا الى العنصر الأساسي في لعبة شارون والتي يمكن أن تجعل من خطة الفصل بأسرها مجرد "عمل افتراضي". فخطة الفصل تحتاج الى وقت لا يقلّ عن عام الى عام ونصف العام لتنفيذها، وهي في أحسن الأحوال لن توضع موضع التنفيذ قبل مطلع العام القادم. ومن المعلوم أن هذه الخطة يمكن، في حال الشروع بتنفيذها أن تقود الى هزة حقيقية في الحلبة السياسية الإسرائيلية. ومن الصعب منذ الآن تقدير النتائج النهائية لها.


ولكن من المؤكد أن خطة شارون تتقدم بسرعة كبيرة حتى الآن: أفلح شارون في الحصول من الإدارة الأميركية على أقوى دعم، وكسب حتى الآن العديد من الوزراء المعارضين. ولكن المجهول لا زال العنصر الأقوى: لا أحد يضمن نجاح شارون في استفتاء "الليكود". وليس هناك من يضمن إقامة حكومة بديلة لحكومة اليمين في حال إقرار الخطة في الحكومة. وليس هناك أيضاً من يضمن بقاء الحلبة السياسية على حالها إلى حين تنفيذ خطة الفصل.