المخاوف الديمغرافية في إسرائيل

لا يمكن النظر الى مشروع شارون للانسحاب من قطاع غزة ومن طرف واحد دون العودة الى «فلسفة الفصل العنصري» ومشروع جدار الفصل الذي بات قريباً من الانتهاء على طول مساره المتعرج في الضفة الغربية ومناطق القدس الكبرى. فالانسحاب الاسرائيلي المتوقع في مارس 2005 من طرف واحد من قطاع غزة وفق أجندة شارون، يأتي متكاملاً مع الانتهاء الكلي من اقامة جدار الفصل، وهروباً من الكتلة السكانية الفلسطينية الكبرى المتجمعة على أرض قطاع غزة. حيث يتواجد أكثر من مليون ونصف مليون مواطن فلسطيني على مساحة لاتزيد عن 360 كيلومتراً مربعاً، وجلهم من اللاجئين «كان يحلم رابين أن يصحو ذات يوم وقد أبتلعهم البحر وأبتلع معهم كامل قطاع غزة». وعليه فقد شكلت مسألة بناء الجدار الفاصل موضوع نقاش مستديم منذ فترة ليست بالقصيرة داخل الدولة العبرية قبل انطلاقة انتفاضة الأقصى والاستقلال الفلسطينية بسنوات، واتخذ هذا النقاش حالة من الاحتدام بين مختلف الكتل السياسية الإسرائيلية.

فقوى اليمين رأت فيه تقييداً وتحديداً مسبقاً لحدود ومساحة الدولة العبرية. بينما نظرت قوى يمين الوسط ويسار حزب العمل إلى الموضوع من زاوية نفعية براغماتية لخدمة الأمن الإسرائيلي بالدرجة الأولى، معتبرة بأن المشروع لايعدو أن يكون افضل حل لأسوأ وضع. أما الأحزاب العربية في إسرائيل وبعض تلاوين يسار كتلة ميرتس فقد وجدت فيه تكريساً لسياسة عنصرية تهدف إلى خنق الفلسطينيين بين الجدار غرباً وحدود السيطرة العسكرية الإسرائيلية شرقاً على امتداد أغوار الأردن من الجنوب إلى الشمال.

ويعتبر وزير الشرطة السابق في عهد اسحق رابين، موشيه شاحل، الاب الروحي للمشروع إلى جانب المفتش العام السابق للشرطة، رافي بيلد، حيث ولدت الفكرة آنذاك أثر عملية بيت ليد الفدائية المزدوجة التي نفذها استشهاديان من حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين وقتل فيها 23 عسكرياً إسرائيلياً.

وكانت فكرة سياج الفصل تقوم على حجز نحو 20% من مساحة الضفة الغربية، لكن المشروع لم يرالنور لأسباب مختلفة منها أسباب مالية وأسباب تتعلق برؤية رابين الجدار الذي أراده سياجاً للأمن بينما أراده بيريس سياجاً فاصلاً للأمن ومحققاً التعاون الاقتصادي في آن، فان كان الفصل اقتصادياً جلب الضرر للمنتج الإسرائيلي الذي شكلت له الضفة الغربية سوقاً اقتصادية تستهلك سنوياً ما قيمته ثلاثة مليار دولار، علاوة على أن «سياج الأمن» إن طبق اقتصادياً ألحق الضرر بأحلامه الشرق أوسطية. لذلك قوبل المشروع بالرفض حينذاك من قبل رابين وبيريس.

وفي مارس 1996 قررت الحكومة الإسرائيلية الفصل بين المواطنين الفلسطينيين في الضفة الغربية وبين السكان المقيمين فوق الأرض المحتلة عام 1948 من أجل السيطرة على حركة السيارات والبضائع والمشاة، كما تضمنت الخطة إنشاء منطقة تماس. الخطة دعيت باسم خطة «متساديم» لإنشاء عائق على امتداد منطقة التماس وإنشاء عائق مادي .

ومنع المرور في المناطق المكتظة سكانياً وشق طرق للدوريات الحدودية واستخدام وسائل سيطرة وتحكم واعتراض متطورة لكن الخطة راوحت مكانها. ومع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية في 28/9/2000 فان «مجلس الأمن القومي» وما يسمى «هيئة مكافحة الإرهاب» قررا بأن منطقة التماس لا تلبي الهدف المخصص لها كمنطقة عازلة فعالة وناجعة، لذلك حول إيهود باراك مشروع الجدار الفاصل إلى حقيقة جدية على ساحة النقاش في نوفمبر 2000، وكرسه شارون في يونيو 2001 كحقيقة على الأرض عندما كلف معهد فان لير ومديره البروفيسور شمشون تسلينكر بوضعه بمشاركة عشرات خبراء الاقتصاد والتعليم والديمغرافيا والأمن.

وباسهام فاعل من أوري ساغي، الرئيس السابق لشعبة المخابرات العسكرية الإسرائيلية، وجلعاد شير، وصادق عليه المجلس الوزاري في يوليو 2001 تحت عنوان «خطة منطقة التماس» بما في ذلك التبني الكامل لمشروع «غلاف القدس».

ويستند منظرو ودعاة الانسحاب الأحادي من قطاع غزة وأنصار بناء جدار الفصل إلى مسألتين اثنتين: المسألة الديمغرافية، بضرورة فصل سكان مناطق 1948 عن السكان الفلسطينيين من أبناء الضفة الغربية وقطاع غزة حرصاً على استمرار التفوق الديمغرافي اليهودي، والمسألة الأمنية.

وفي المسألة الأولى فان التقديرات التي أعطاها معهد فان لير بأن أغلبية يهودية ستكون حتى نهاية العقد الجاري بين الأردن والبحر بنسبة 51%، وأن هذه النسبة ستصبح 47% في العام 2020، وفي العام 2050 ستكون 37% فقط. أما إذا تم تحديد خط الفصل من الآن ففي نهاية العقد الجاري ستكون هناك أغلبية يهودية داخل حدود الدولة العبرية ما وراء الخط بنسبة 78%، وفي العام 2050 سيشكل اليهود 74%.

وأكثر من هذا فان التخوفات تتزايد عند الطرف الإسرائيلي من التبدلات السكانية الحاصلة داخل الدولة العبرية ذاتها.

ووفق البيانات المتعلقة بهذا الشأن، فان «مجلس الأمن القومي الإسرائيلي» وفي إطار تقاريره السنوية طرح تبني العودة إلى ترسيم الحدود الفلسطينية ـ الإسرائيلية بناء على «الميزان الديمغرافي ـ الأمني» معرباً عن اعتقاده بأن هذا هو السبيل الوحيد لـ «ضمان قيام دولة يهودية وديمقراطية بعيدة الأمد».

وفي المسألة الأمنية فان النقاش المشار إليه بصدد الفصل تواصل متسارعاً مع اتساع العمليات الفدائية الفلسطينية داخل حدود 1948، وانتهاج العديد من القوى الفلسطينية أسلوب «العمليات الاستشهادية» بعد مؤتمر مدريد وبداية التسوية المأزومة. فقد وقعت أولى هذه العمليات يوم 16/4/1993 عندما قام الشهيد طاهر النابلسي، من حركة الجهاد الإسلامي ـ نابلس، بتفجير نفسه في سيارة مفخخة بين باصين إسرائيليين لقوات الإحتلال في غور الأردن. وهذه العملية دفعت الأطراف الإسرائيلية للتدقيق.. فهل هي عملية عابرة، أم نمط جديد بدأ يشقّ طريقه عند الفلسطينيين..؟