الهيمنة الاقتصادية وتعاون القضاء

تبنّت الأمم المتحدة في العام 1966 ميثاقين يتعلّقان بحقوق أساسية؛ يتضمّن الأول الحقوق المدنيّة والسياسيّة، بينما يتضمّن الثاني الحقوق الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة. وإن حقيقة وضع وثيقتين متميّزتين تعتبران حجر الأساس للحماية الدوليّة لحقوق الإنسان، في نفس السنة، تطرح السؤال: لماذا تمّ وضع ميثاقين وليس ميثاقاً واحدًا؟. السّبب الرئيس لوضع نظام مزدوج للحقوق هو استمرار النقاشات التي وجّهتها أيديولوجية الحرب الباردة، وتضّمن ذلك الأمور المتعلّقة بحقوق الإنسان الأساسية. وقد أيّد المعسكر الذي سُمّي "الغرب" ميثاق الحقوق المدنيّة والسياسيّة، بقيادة الإمبراطورية التي أخذت بالظهور في مرحلة ما بعد الحرب العالميّة الثانية، الولايات المتحدة. وأيّد المعسكر الثاني، "الشرق"، ميثاق الحقوق الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافية، وقاد هذا المعسكر الاتحاد السوفييتي، الذي حاول هو ذاته إقامة أمبراطورية بعد العام 1945.

لقد كان التضارب في كلّ واحد من هذين المعسكرين مذهلاً في ما يتعلّق بوضع نماذج للحقوق ذاتها التي قاما بدعمها. وقامت الولايات المتحدة، خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وبشكل مثابر، بدعم أنظمة قمعية صادرت جميع الحقوق المدنيّة والسياسيّة. والأمثلة البارزة على ذلك هي نظام بينوشيت في تشيلي، نظام صدّام حسين في العراق، نظام الأبرتهايد في جنوب أفريقيا، والاحتلال والعنصرية الإسرائيليين. وفشل الاتّحاد السوفييتي بدوره من خلال اختزال الدولة والمواطنة إلى مجرّد حزب سياسيّ، ومن خلال هدر ثروة البلد لصالح قلّة النخبة الحاكمة.

مع نهاية الحرب الباردة، أعلنت الإمبراطورية المنتصرة ولادة نظام عالمي جديد، ولم يكتفِ بعضٌ من مفكّريها بالإعلان عن انتصار طريقة حكم الديمقراطية الليبرالية فحسب، بل أعلنوا عن نهاية التاريخ ذاته، أيضًا. وجعلَ النظام العالمي الجديد الديمقراطية كيانًا وجزءًا طبيعيًّا من نظام السّوق الحرّة الذي ترغب فيه وتسعى إليه المصالح الأمريكية الرأسمالية.

وعلى الرغم من ذلك، فإن التاريخ، الذي يصنعه الرجال والنساء، لم ينتهِ. ووجد النظام العالمي الجديد منافسيه على هيئة حركة مناهضة للعولمة، دوليّة ومنظّمة، تقوم بالاحتجاج ضدّ مؤسّسات النظام المهيمن الذي يتجاهل التاريخ، في الوقت الذي يقوم هو فيه بخلق وترسيخ التفاوت الهائل بين الأقليّة الثريّة والأكثرية الفقيرة في جميع أنحاء العالم. وقد استلهمت هذه الحركة نضالها من ثورة المقموعين حقيقةً من الناحيتين الاجتماعية والاقتصادية، مثل أفراد الزاباتيستا في تشِيَاباس في المكسيك. بالإضافة إلى ذلك، فقد ساهم انتخاب قائد نقابيّ عماليّ رئيسًا للبرازيل في العام 2002 وفوز اليسار مؤخرا في إسبانيا والهند، وكان وقوع كلّ حدثٍ من هذه الأحداث أيضًا نتيجةً لأسباب داخلية لا-اقتصادية، ساهم في التصدّع القائم في الأجندة السياسيّة لدى إمبراطورية زماننا التي عادة ما تكون غير آبهة بالمشقّات.

لقد قامت محكمة جنوب أفريقيا الدستورية بتفنيد الادّعاء القائل بأنّ الحرية وحدها، أو تجلّيها السياسيّ الحالي على هيئة "سوق حرّة"، هو مصدر الحكم الديمقراطي، لا بل الطريق الآمن نحو الحكم الديمقراطي الذي يؤمّن حقوق الأساس للمواطنين. إذا أخذنا بعين الاعتبار الحقّ في المسكن في قرار غروتبوم شديد الأهمية في العام 2000، فقد قامت محكمة جنوب أفريقيا بتحويل ما هو أمر منطقيّ بالنسبة للملايين من الناس إلى أمر يمكن تداوله في المحكمة. بدون الحقوق الاقتصادية لا يمكن أن تكون هناك كرامة إنسانية، ولا يمكن تحقيق أيّ من الحقوق السياسية المعلن عنها:

"يحصّن دستورنا الحقوق المدنيّة والسياسيّة والحقوق الاجتماعية والاقتصادية. جميع الحقوق التي تتضمّنها وثيقة الحقوق الخاصة بنا هي متداخلة ويدعم الواحد منها الآخر بشكل تبادليّ. ولا يمكن أن يكون هنالك أيّ شك في أنّ مَن ليس لديهم الطعام والملبس والمأوى محرومون من الكرامة الإنسانيّة والحريّة والمساواة، وهي القيم الأساسيّة لمجتمعنا. ولذلك، فإن توفير الحقوق الاجتماعية- الاقتصاديّة لجميع الناس يتيح لهم إمكانيّة التمتّع بالحقوق...كذلك، فإنّ تحقيق هذه الحقوق هو أمر أساسيّ للمضيّ قدمًا بالمساواة العرقيّة ومساواة الجندر وتطوّر المجتمع الذي يستطيع فيه الرجال والنساء تحقيق جلّ ما يمكنهم تحقيقه على نحو كامل ومتساوٍ".

يخلق نظام حكم الاحتلال الإسرائيلي في المناطق المحتلّة لعام 1967، والنظام العنصريّ في إسرائيل، بشكل مستمرّ، تفاوتات اجتماعية واقتصادية. وهي تظهر، في الأساس، بين جمهور المواطنين الإسرائيلي اليهودي وبين الفلسطينيين في إسرائيل وبين هؤلاء القابعين تحت الاحتلال العسكري الإسرائيلي المباشر منذ 37 سنة في القدس الشّرقية، الضفة الغربيّة وقطاع غزة. وتتواصل الانتهاكات الفظّة، في المناطق المحتلّة منذ العام 1967، للحقوق الاجتماعية والاقتصادية من خلال بناء جدار فصل ضخم. وعندما أصدرت محكمة العدل الدوليّة الرأي الاستشاري في التاسع من تمّوز العام 2004 بأنّ الجدار غير شرعيّ وفقًا للقانون الدوليّ، فقد قامت، أيضًا، بإبراز انتهاكات الحقوق الاجتماعية والاقتصادية الأساسية. واستشهدت المحكمة بتقرير لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان حول وضع حقوق الإنسان في المناطق الفلسطينية التي تحتلّها إسرائيل منذ العام 1967، والذي يفيد بأنّه "سيتمّ، عمليًا، عزل الفلسطينيين الذين يعيشون بين الجدار وبين الخطّ الأخضر عن أراضيهم وأماكن عملهم، ومدارسهم، والعيادات الصحية، والخدمات الاجتماعية الأخرى". وشدّدت المحكمة على أنّ الجدار "... أدى، إضافةً إلى ذلك، لزيادة مصاعب السكّان المتعلّقة بإمكانية الوصول إلى الخدمات الصحية، المؤسّسات التعليمية ومصادر المياه الأوليّة".

لقد قامت الحكومة الإسرائيلية، بشكل متواصل، منذ أواسط التسعينيات، بتطبيق سياسات معادية للفقراء والمستضعفين، ومن بينهم بعض المجموعات السكّانية اليهودية الإسرائيلية. وعلى الرغم من ذلك، تستمرّ المستوطنات الإسرائيلية في الاراضي المحتلة بالازدهار اقتصاديًا، في حين تشنّ الحكومة الإسرائيلية حربًا على العاطلين عن العمل والمستضعفين، بمن في ذلك العمّال المهاجرون. إنّ التمييز البنيويّ الاجتماعي والاقتصادي الذي تعاني منه الأقليّة الفلسطينية داخل إسرائيل ليس مجرّد محصّلة لسياسة سوق حرة غير منضبطة تنتهجها الحكومة. ويمكن للواحد منّا أن يلاحظ بسهولة اتّساع الفجوة الاجتماعية والاقتصادية الآخذ بالازدياد ليس بين العرب واليهود في إسرائيل فحسب، بل بين الفقراء من كلا الطرفين، أيضًا. إنّ 86.4% من المدن والقرى المتضررة اجتماعيًا واقتصاديًا هي بلدات وقرى عربية. وأول 51 قرية ومدينة ذات نسب البطالة الأكثر ارتفاعًا في إسرائيل هي بلدات وقرى عربية ايضا. وتتراوح نسب البطالة في هذه المدن والقرى بين 13.5% و 34.3%، بينما يصل معدّل البطالة في إسرائيل إلى 10.8%.

إن استثناء الحكومة الإسرائيلية للأغلبية السّاحقة من البلدات والقرى العربية خارج نطاق الخطط الاجتماعية والاقتصادية المعلن أنها مخصصة للفقراء والمتستضعفين هو المصدر الأساسي للتفاوت الاقتصادي والاجتماعي بين مجموعتي السكّان. إنّها سياسة حكم أكثرية واضحة ليس الهدف منها حرمان أقليّة قومية أصلانية من التطوّر الاجتماعي والاقتصادي فحسب، بل إنها محاولة غير محكمة للسيطرة على الفلسطينيين في إسرائيل واحتوائهم سياسيًا، أيضًا. ومن هنا، لا تُمنح المعونات الماليّة للمستثمرين الصناعيين في مناطق المدن والقرى العربية. وعلى نحو مشابه، تستثني أهمّ خطّة حكومية لتوزيع المعونات الاقتصادية الأغلبية العظمى من المدن والقرى العربية. وتخصّص هذه الخطّة، التي تُدعى "مناطق الأفضلية القومية"، مساعدات لجهات مختلفة، من بينها التعليم والتجارة والصناعة، من خلال منح تسهيلات ضريبية في الأساس. وأصبحت هذه الخطة مصدر المعايير للتقدّم لخطط اجتماعية واقتصادية أخرى، الأمر الذي يجعل طبيعة خطة التمييز هذه جاهزة للتطبيق في تلك الخطط أيضًا. لقد قام مركز"عدالة" بالطعن في طرق عمل هذه الخطة وفي مضمونها في المحكمة العليا الإسرائيلية في العام 1998، حين كان بنيامين نتنياهو رئيسًا للوزراء. ولم تصدر المحكمة قرارها بعد، رغم مضي وقت طويل جدًّا على رفع هذه الدعوى. وكان نتنياهو في هذه الفترة الزمنية قد فقد منصبه كرئيس للوزراء، واعلن عن اعتزاله السياسة، وعاد إليها، ليتولى بعدها منصب وزير الماليّة.

ويواجه العرب البدو الذين يعيشون في النقب جنوبي إسرائيل، والذين يعيشون في ما أصبح معروفًا بالقرى غير المعترف بها، التمييز الاجتماعي والاقتصادي والحرمان الأشدّ قسوةً. ويعتبر القانون والسلطات الإسرائيلية نحو 70,000 بدوي في النقب كمتعدّين على أراضي آبائهم واجدادهم، ونتيجة لذلك، فهم لا يحصلون على أيّ من الخدمات الأساسية مثل عيادات العناية الصحية، المياه والكهرباء. ويجري القمع الاقتصادي لهذه المجموعات السكّانية الأصلانية بدافع من رغبة الحكومة في السيطرة على أكثر ما يمكن من الأراضي مع أقلّ عدد ممكن من السكّان البدو الفلسطينيين عليها. ومن أجل تحقيق ذلك، تقوم الحكومة بتخصيص موارد مالية خاصة لتفنيد أي إدعاء ملكية للأرض يقوم به أي بدوي في النقب. لم يعتبر المستشار القضائي الحكومي الإسرائيلي السابق إلياكيم روبنشطاين (اليوم يشغل منصب قاضٍ في المحكمة العليا) مثل هذا التخصيص غير السليم للأموال العامة المستخدمة لغايات تمييزية بمثابة تخصيص غير قانوني، على الرغم من وضوح دوافع الحكومة التي تمّ الإعلان عنها بشكل محدّد في قرارها من شهر نيسان 2003.

إن توجّه الحكومة الإسرائيلية المستمر في إعاقة تقدّم الأقلية الفلسطينية والحدّ من تمكينها هو أمر يتوجب تحديه باستمرار. فالحكومة الإسرائيلية والقضاء الإسرائيلي بعيدان كل البعد عن التوجه السخي، الذي تتحلى به المحكمة الدستورية في جنوب أفريقيا. إن سياسات الحكومة واضحة إلى حد كبير، ومجال قرارات المحاكم محدود بحيث ينحصر داخل السؤال "ما هو المعيار الأدنى للمعيشة؟". وتناقض سياساتهم بشكل حادّ، أيضًا، نص البنود 21 – 23 من مسوّدة إعلان الأمم المتحدة عن حقوق الشعوب الأصلانية الذي يحدّد الحقوق الاجتماعية والاقتصادية الأساسية لمثل هذه المجتمعات. ويحاول البند 23 من مسوّدة الإعلان تحرير المجتمعات الأصلانية المتضرّرة من سيطرة الدولة الاقتصادية عن طريق خلق حيز لتقرير المصير الاقتصادي:

"لدى الشعوب الأصلانية الحقّ في تحديد الأفضليات والاستراتيجيات وتطويرها من أجل ممارسة حقهم في التطوّر، ولدى الشعوب الأصلانية الحقّ، بشكل خاص، في تحديد وتطوير جميع برامج الصحة والإسكان والبرامج الاجتماعية والاقتصادية الأخرى التي تؤثّر عليهم، وأن يديروا هذه البرامج، قدر الإمكان، من خلال مؤسساتهم الخاصة بهم."

نادرًا ما أثبت القانون، وخاصة في المجتمعات الصناعية، أنه ملاذ آمن للحقوق الاجتماعية والاقتصادية للمتضرّرين. وقد لعب القانون دورًا فعالاً في مشاهدة "اليد الخفيّة" للسوق الحرة مع حد أدنى من التدخّل. وقد اعتمد على ادعاء ضرورة فصل السلطات، أو على ادعاء الحاجة الى الخبرة في المجال الاقتصادي للمحافظة على موقف محايد. لكن عدم الانخراط الفعّال هذا في السياسات الاقتصادية حوّل المحكمة إلى مؤسسة تكسب الدولة شرعية فقط، دامجة ذاتها مع السلطة التنفيذية. وفي مثل هذه الحالة، من الواضح أنه لا يمكن اعتبار القانون مؤسسة مخلصة للمحرومين، الذين ليس لديهم أيّ خيار آخر سوى تنظيم ذاتهم ومقاومة الحكومة بأنفسهم.

(*) مروان دلال- محام في "عدالة"، المركز القانوني لحقوق الأقلية العربية في إسرائيل