اليسار الصهيوني يأكل أبناءه


أعلن عضو الكنيست الحالي ورئيسها السابق، أفراهام بورغ، هذه الأيام، عن تطليق العمل البرلماني، وكذلك السياسي- الحزبي، بالثلاث. وجاء قراره، بكيفية ما، تعبيرًا عن تململ حيال قدرة الكنيست على النهوض بالأعباء التي تتطلبها المرحلة الحالية على الصعد كافتها. ولم يكن إقدام "بورغ" على هذه الخطوة أمرًا جديدًا، الجدة كلها، في الساحة الحزبية الاسرائيلية، خصوصًا على خلفية الأزمة السياسية المتفاقمة منذ حوالي أربع سنوات. فالأمر نفسه شهدته الكنيست السابقة، خلال سنوات عملها التي لم تكتمل، وإن على نطاق أوسع مما شهدناه حتى الآن.

واستعراض الأسماء، بشكل عرضي، يشير إلى كون الغالبية العظمى من هؤلاء تنتمي إلى المعسكر الذي يقوده تيار "العمل"، وبضمن ذلك أحزاب تصطف على يساره، إنما داخل المشهد المسوّر بالصهيونية. مثلاً نحت هذا المنحى عضو الكنيست السابقة عنات مؤور، من "ميرتس" بعد أن سبقها إلى ذلك أمنون روبنشتاين من الحزب نفسه. وغادر الساحة من حزب "العمل" شلومو بن عامي ويوسي بيلين (الأخير إلى حزب آخر). والأمر نفسه ينطبق على أوري سافير وأمنون ليبكين- شاحك، وكلاهما من حزب "المركز" الذي اختفى كليًا، لكنهما أقرب إلى "العمل". (أفتح هنا قوسًا لأقول إن حركة مماثلة، لكن على نطاق أضيق، حصلت في أحزاب اليمين مثل إنسحاب بنيامين زئيف بيغن من "الاتحاد القومي" وناحوم لنغنطال من "المفدال"، لكنها تندرج في سياق الاقتناع بعدم جدوى فرض عقلانية محددة على اليمين الاسرائيلي الجامح).

ولئن كان التطليق يبدو "الحل الأسهل" على المستوى الشخصي لهؤلاء القادة في "العمل" وأضرابه، الذين عادة ما يصرحون بأن السبب الواقف خلف خطوتهم هو إما الشعور بأنه لم يعد في مقدورهم استنفاد أنفسهم، الذي يحيل بدوره إلى شعور مضاد، مستبطن، بأنهم استنفدوا أنفسهم في حيّز السياسة الحزبية والاسرائيلية عمومًا، وإما خيبة الأمل الكبرى من المناخ السائد الذي يوحي أكثر شيء بانسداد الآفاق كافة، فإن هذا الحل إنما يكشف عن مشكلة. وإذا خصصنا "العمل" وحلفاءه بهذا الحديث حول العزوف عن السياسة، والذي يكاد من فرط تكراره بوتيرة متلاحقة أن يتحول إلى ظاهرة في الحلبة الحزبية الاسرائيلية، قإن المشكلة تبدو، في قراءتنا، كامنة في فقدان الهوية السياسية لهذا التيار، ضمن المسعى العام لمجاراة التطورات. ولعل مسلك "العمل" في "الأزمة" الأخيرة التي واجهتها حكومة أريئيل شارون يعكس صيرورة هذا الفقدان بعد أن كان متمثلاً أساسًا، عقب "كامب ديفيد"، في توحيد الخطاب السياسي مع "الليكود"، حسبما نوهنا في أكثر من مناسبة.

ولا تظهر في الأفق المنظور أية مؤشرات تدل، دلالة وافية ومقنعة، على أن تلك الأزمة ستكون فرصة يهتبلها هذا المعسكر لتلمس الطريق صوب إستعادة زمام المبادرة. ويمكن، في هذا الصدد، الاستعانة بعديد التعليقات الصحافية الاسرائيلية التي تؤكد، في شبه إجماع، أن ما يمارسه قادة هذا التيار لا يعدو أكثر من كونه تلهيًا بنتائج الوضعية الراهنة، على جميع المستويات، عن جذورها الحقيقية. وفي صلب هذه الجذور الاحتلال الحزيراني في 1967، حتى وإن كانت الغاية القصوى للإلتفات إلى هذا الجذر هي، في العمق، صرف النظر والاهتمام عما ينطوي عليه هذا الاحتلال كذلك من ثابت ومتغير في السياسة الاسرائيلية الرسمية المؤدلجة بالصهيونية.

مهما تكن هذه التعليقات فإن أحدها أشار، بشكل رئيسي، إلى إخفاق "اليسار الاسرائيلي" (وهو تعريف يضم المصطلحون عليه تحت كنفه جميع ألوان الطيف التي يقودها "العمل") منذ 1967- إرتباطًا بالاحتلال السالف طبعًا- في "إبداع أجندته المخصوصة" واكتفائه بالتعبير عن "المعارضة لأجندة اليمين" فحسب.

مثلاً الشعار "الأموال للأحياء الفقيرة وليس للمستوطنات"، الذي يتبناه هذا "اليسار" تقليديًا ويتباهى به ولد، تاريخيًا، كجواب مضاد على مشروع "ترميم الأحياء" الذي اعتمده مناحيم بيغن، في أواخر السبعينيات. وعلى هذا يمكن قياس مواقف عديدة أخرى. والخلاصة من ذلك هي: طالما أن هذا "اليسار" لا يطرح برنامجًا وضعيًا يحدّد ما الذي ينبغي فعله بالمبادرة إليه والمبادأة به، وليس فقط ما الذي يتوجب معارضته، فإنه سيبقى مغتربًا عن الواقع الاسرائيلي، غير فاعل فيه بشكل مغاير.

وحتى قبيل إستقالة "بورغ" أو إعتزاله استقطر المعلقون من المستجدات الأخيرة حصيلة مؤداها غياب وجود معارضة في إسرائيل، فيما شدّد البعض على أن السبب وراء ذلك هو واحد ووحيد، "أنها منشغلة فقط بشق طريقها إلى الحكومة".

ما هي أهمية هذه التداعيات، الآن بالذات؟.

أولاً أنها تفضح، في جانبها الأشد إثارة، للمرة الكذا، ماهية هذا "اليسار الاسرائيلي"، الذي بات يأكل أبناءه "البررة" أيضًا.

ثانيًا أنها تكشف زيف "نداءات الاستغاثة"، التي لا ينفك يطلقها، بحجة أنه محتاج إلى تعضيد "في مواجهة اليمين". فليس من شأن التجاء "العمل" وسائر قوى وأحزاب "اليسار الصهيوني" إلى التهويل من خطر اليمين، الخطير فعلاً، أن يصرف النظر عن أن سببية هذا التهويل هي مجرّد مصالح حزبية ضيقة.

ثالثًا أنها تضعنا في صورة النسيج المحكم لهذا "اليسار"، الذي يتحمل وزره "المأكولون" أيضًا. فإن "بورغ" ذاته يتوجه الى منزله خائب الآمال ومُخيبا للآمال، وهو يمثل جيلين من السياسيين الاسرائيليين - اليوم في سن الخمسين والستين ونيف ـ الذين جاءوا بعد جيل المؤسسين، وبدلا من ان يجلبوا معهم روحا جديدة انقلابية ثورية وأيديولوجية واضحة المعالم أصبحوا نشطاء متفرغين راوحوا في مكانهم في السياسة الاسرائيلية العاجزة ولم يتركوا خلفهم إلا عدة تغيرات هيكلية تنظيمية، على حدّ ما يقول جدعون ليفي.

وكل ذلك حتى من قبل أن نفكر بخوض الحديث عن موقع أجندتنا المخصوصة في تفكيره ومسلكه، والتي نعتقد بأنه لا حاجة إلى كبير عناء لتوكيد أنها غير واردة بقوة في حساباته.