عودة الصراع إلى المربع الأول

من النادر ان تعرض القوة العسكرية الأعظم في المنطقة، وهي إسرائيل، آمالا صغيرة. فقد دأبت عبر السنين لتبرير حملاتها العسكرية بلا شيء أقل من "القضاء على الإرهاب" او تقريب تحقيق السلام. لكن مع مرور الوقت تلاشت هذه التبريرات وصارت تتمحور غالبا حول "مكافحة الإرهاب" بوصفه آفة لا سبيل الى القضاء عليها او "الدفاع عن النفس" تعبيرا عن الاحساس بالظلم. ويبدو ان انشغال العرب من جهة والعالم بأسره من جهة أخرى بقضايا أخرى، ترك إسرائيل والفلسطينيين وجها لوجه في مواجهة دامية لا سبيل للفكاك منها.


ورغم ان الحرب الدائرة منذ أربع سنوات تحت اسم "الانتفاضة" هي مجرد مرحلة من حرب متواصلة منذ عشرات السنين، إلا انها، مع كل التغييرات والتطورات، مجرد معركة في المربع الأول. فالقضية، بصورتها الجارية اليوم بين "سديروت" ومخيم جباليا هي أكبر دليل على عدم انتقال أحد في المعركة من مربعها الأول، وإن كان أحد قد انتقل، فإنه قد عاد. فالحملة العسكرية الإسرائيلية الأشد في قطاع غزة تأتي في الأساس من أجل إقناع المستوطنين في سديروت بعدم الهجرة عنها. ومن الواضح انها تريد، في الوقت ذاته، إقناعهم بأن سقوط الصواريخ، بل ومقتل أبنائهم، لا ينبغي ان يشكل دافعا للهجرة. والأدهى ان حكومة شارون تقول للجميع، من خلال استهدافها مخيم جباليا، ان ثمن بقاء المستوطنين في سديروت سيكون مقبولا حتى لو كان تهجير اللاجئين في مخيم جباليا مرة تلو مرة.
وليس صدفة ان المتشددين في الجانب الإسرائيلي يعلنونها صراحة انه إذا كان لا بد من هجرة أحد فإن الفلسطينيين هم من يجب ان يفعل ذلك. بل إن بعضهم أعاد الى الذهن شعارات "الإلقاء في البحر" من خلال الحديث عن سكان شمالي قطاع غزة.


ورغم ذلك لا تختلف عملية الجيش الإسرائيلي الحالية في غزة، وتلك التي سبقتها، عن العمليات التي كانت تقوم بها إسرائيل في الخمسينيات باسم "العمليات الانتقامية" إلا بالحجم. فالقوة الإسرائيلية آنذاك كانت محدودة مقارنة بما تمتلكه إسرائيل اليوم. ولكن الدافع للانتقام بقي على حاله وربما ازداد شراسة. ويزيد الطين بلة في نظر الإسرائيليين ذلك الاعتقاد الحازم بأن الفلسطينيين في منطق الحسابات هم الطرف الخاسر بشدة. ولذلك أكثر ما يحيّر الإسرائيليين هو الوعاء الذي تتغذى منه المقاومة الفلسطينية. وهم يقولون لأنفسهم انهم سدوا على الفلسطينيين أبواب الدعم العربي، وشوّشوا التأييد الدولي ووجهوا أقوى الضربات وتجاوزوا كل الحدود في البطش. ولكن ذلك لم ينعكس حتى الآن في أية خطوات سياسية.


وهناك من يرى ان الفلسطينيين، بـ"تحجرهم" واستمرار مقاومتهم، باتوا يمنعون إسرائيل من تحقيق حلمها بالتطبيع مع المنطقة التي "باتت ناضجة" لذلك. وربما لهذا السبب يضطر أريئيل شارون للعودة بين الحين والآخر أكثر من خمسين سنة للوراء لعرض أساليبه لقمع الانتفاضة الفلسطينية. وقد أكثر في الأسابيع الأخيرة من تحذيره بأن القوات الإسرائيلية لن تنفذ خطة الفصل وتنسحب تحت النيران. وأعلن انه أوصى الجيش الإسرائيلي بالرد بشدة على أية نيران تنطلق عليه. ولم يكن كثيرون يعرفون ان شارون أمر الجيش الإسرائيلي بقصف المناطق الفلسطينية المأهولة بالمدفعية. بل إنه في أحاديثه العلنية اقترب من ذلك عندما قال إن سديروت لن تكون المكان الوحيد الذي يتعرض للقصف الصاروخي.

ومهما تكن الحال فإن المعلقين الإسرائيليين، خاصة العسكريين منهم، يعترفون بأن الجيش الإسرائيلي يسعى لتحقيق أهداف تختلف بعض الشيء عن أهداف السياسيين. فهو يسعى الى تحقيق درجة من الردع تتيح له كسب الوقت لفترة ما على أمل ان تتوافر ظروف لإيجاد مخرج سياسي. فالجيش، قبل سواه، يدرك صعوبة تحقيق نصر عسكري على الفلسطينيين رغم إقدام عدد من قادته مرارا على اعلان مثل هذا النصر. والجيش الإسرائيلي يريد أيضا ان يبقي لنفسه مكانا في الذهن الشعبي الإسرائيلي الذي بات يمقت السياسيين.


ولكن بين هذا وذاك يضطر القادة السياسيون والعسكريون في إسرائيل لتكرار الاقوال ذاتها والأساليب نفسها التي قيلت واستخدمت في الماضي. فقد قالوا مرارا في فلسطين ولبنان ان الجيش الإسرائيلي سيواصل هجماته الى ان يصرخ الأعداء ويقولوا: كفى، نريد هدنة او سلاما. وقد سبق لإسرائيل ان جربت "الحزام الأمني" او "المنطقة العازلة"، وهي تعلن اليوم عزمها على إقامة مثل هذه المنطقة في قطاع غزة. وهذا ما ينظر إليه كل من يعرف قطاع غزة، وهو شريط طولي شديد الاكتظاظ بالسكان، على انه مهمة مستحيلة.


غير ان الجيش الإسرائيلي الذي يعتقد ان امتلاك الفلسطينيين لصواريخ أبعد مدى يمكن ان تضرب مدينة عسقلان بات مسألة وقت يجعل من المنطقة العازلة أمرا لا معنى له. والأهم ان امتلاك الصواريخ والاستعداد لإطلاقها يجعل أيضا من الجدار العازل أمرا عديم الجدوى. وإذا كان من معنى لكل ذلك فإن كثيرين في إسرائيل يقولون بوجوب السعي من أجل التوصل الى تسوية. غير ان شارون وحكومته أعلنوا انه ليس لهم أي "شريك" في الجانب الفلسطيني لذلك فإن التسوية معدومة، والحرب مستمرة. وإذا تحقق شيء على هذا الصعيد، فلن يكون أكثر من اجراء مؤقت او استراحة محاربين. وهكذا لا معنى لخطة الفصل إن نفذت أو لم تنفذ.