العودة إلى حل الدولة الواحدة

هل ما زال بالإمكان عملياً الاستمرار في فكرة حل الصراع العربي الإسرائيلي على أساس قيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة إلى جانب إسرائيل؟ المعطيات على الأرض تشي بالنفي وعدم الإمكانية. فمكونات إقامة دولة فلسطينية ذات شكل وسيادة وتواصلية ترابية ظلت تقل شيئاً فشيئاً في ضوء السياسات الإسرائيلية الاستيطانية التوحشية.

فالمستوطنات أكلت من اللحم الحي للأراضي الفلسطينية، ومئات الألوف من المستوطنين المزروعين غصباً في طول وعرض الضفة الغربية على مدار أزيد من سبعة وثلاثين عاماً من الاحتلال، خلقوا واقعاً لا يمكن تغافله، كما لا يبدو متاحاً أو في متناول اليد المطالبة بتفكيك كبريات التجمعات الاستيطانية مثل "معاليه أدوميم" أو "أرييل" أو كريات أربع وغيرها. أي أن هذه المستوطنات ومستوطنيها لا تشكل فحسب كابوساً حقيقياً لأي مشروع دولة فلسطينية قادم، بل وأيضاً إعاقة بالغة الصعوبة في وجه قيامها. إلى جانب كل ذلك جاء مشروع الجدار العنصري ليقضم معظم أراضي الضفة الغربية التي قد تقوم عليها الضفة الغربية، ورسم على الأرض المشروع الشاروني بإبقاء 43% من أراضيها لإقامة دويلة فلسطينية عليها. على أرض الواقع، وجه لفكرة الدولة ضربة شبه قاضية.

في المقابل هناك ما يقارب مليون فلسطيني يحملون الجنسية الإسرائيلية ويعيشون داخل "الخط الأخضر"، أي في قلب إسرائيل ويشكلون كابوساً حقيقياً لها. فهم مزدوجو الهوية والانتماء: فلسطينيو الولاء الوجداني إسرائيليو الولاء القانوني. ورغم ذلك فهم يواجهون عنصرية مسلكية وقانونية من الدولة الإسرائيلية التي تنظر إليهم باعتبارهم طابوراً خامساً. لكن يبقى وجودهم هناك يمثل أهم "إنجاز" للفلسطينيين في مواجهة المشروع التطهيري الصهيوني منذ عام 1948، لأنه حافظ على الحد الأدنى من تواصلية فلسطين التاريخية على المستوى السكاني بعد أن تقطعت على المستوى الجغرافي.

وهكذا، وعملياً على الأرض، وبتعاضد غير متفق عليه بين المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية وقطاع غزة، والتواصل السكاني الفلسطيني في داخل الخط الأخضر يكاد ينقلب سحر الفكرة الاستيطانية على صانعيها، إذ تمكنت من نفي احتمالية بقاء إسرائيل "دولة يهودية نقية" بنفي إقامة دولة فلسطينية يُحشر فيها فلسطينيو الضفة والقطاع - وربما يطرد إليها فلسطينيو الخط الأخضر.

والخلاصة، باختصار، هي أن الوقائع على الأرض تشير باتجاه الصعوبة المتزايدة لتطبيق فكرة الفصل الكلي وقيام دولتين. وعوضاً عن ذلك، تبدو فكرة "الدولة الواحدة"، سواء أكان شكلها ثنائي القومية أم دولة يتساوى فيها المواطنون على أساس المواطنة فحسب، هي الأكثر عملية، وإنسانية أيضاً. من زاوية إسرائيلية هناك مأزق حقيقي وضاغط يفرضه تضاؤل احتمالات قيام دولة فلسطينية وانعكس مؤخراً في إصرار شارون على خطته بتطبيق انسحاب أحادي من قطاع غزة، في محاولة واضحة لخلق فصل تعسفي والهروب من كوابيس الضم والدولة الواحدة. يفاقم من ذلك المأزق أيضاً كابوس المثال الجنوب أفريقي، أي إقامة دولة كاملة العنصرية القانونية الإثنية عبر ضم الفلسطينيين إلى دولة إسرائيل وشطب فكرة الدولة الفلسطينية، لكن من دون اعتبار الفلسطينيين مواطنين كاملي المواطنة. أي لا يحق لهم الانتخاب ولا يتمتعون بنفس الحقوق التي يتمتع بها الإسرائيليون. ورغم عنصرية وبشاعة هذا الحل ولا إنسانيته ومخالفته للوجهة العالمية المنادية بحقوق الإنسان والمساواة، إلا أن هناك أصواتاً إسرائيلية تنادي به وتعارض تساوي المواطنة مع الإسرائيليين، وتقترح في المقابل منحهم ما تسميه "إقامة كريمة" عوضاً عن المواطنة.

إضافة إلى ذلك، وفي أوساط كثير من مثقفي العالم، ليبرالية ويسارية ومستقلة، تبدو فكرة المحافظة على إسرائيل دولة يهودية حصراً ومعرفة بالدين اليهودي فكرة مقيتة، وهو نفس المقت التي يمحضونه لفكرة الدولة الدينية أياً كان دينها. بل إن كثيراً من السياسيين أيضاً يتبنون هذا المقت ولو بشكل غير معلن. ويرى هؤلاء وأولئك أن "فكرة وجود إسرائيل" بمسوغات دينية لا تستحق كل الجهد والدماء والأموال والأثمان الباهظة التي تدفعها شعوب وجماعات هنا وهناك. فالمحصلة النهائية هي إسناد دولة قائمة على مبادئ عنصرية وعلى حساب شعب آخر.

من زاوية فلسطينية وعربية، وفيما خص حل الدولة أو الدولتين، هناك عدة نقاط جديرة بالتأمل والتفكير. أولها هو أن خيار الدولة الواحدة هو أنسب الخيارات المطروحة من نواحٍ سياسية وسكانية وإنسانية. ويمكن أن يكون مشروعاً فلسطينيا وعربيا وإنسانيا يقدم لحل الصراع على قاعدة حضارية وليست عنصرية. الحلول الأخرى جربت وكانت إلى الفشل أقرب. فمشروع الدولتين تهشم على صخر السياسات الإسرائيلية، كما أن "أوسلو" قادت إلى تسخيف الفكرة والقضاء عليها، كما أضيف إليها تفتت الشرعية الفلسطينية وافتقارها إلى المنعة والتوافق الداخلي. أما حل "من النهر إلى البحر" فهو مثالية لا أفق لها في المستقبل المنظور، وتواجهها أسئلة في غاية الصعوبة ليس أقلها الوجود اليهودي الملاييني على أرض فلسطين والنظرة إليه والسياسة تجاهه. لا يمكن التغافل عن هذا السؤال وغيره كثير وإحالته إلى مستقبل غامض مقابل الانشغال في يوميات المقاومة والعمليات العسكرية.

صحيح أن الحديث عن حل "الدولة الواحدة" لن يجد كثيراً من المستمعين أو المؤيدين في الشارع العربي المدجج بشعارات الحد الأقصى والمفتقر لآليات الحد الأدنى من التطبيق. كما أنه من الصحيح أن هذه الفكرة تعتبر كابوساً وجودياً بالنسبة للشارع الإسرائيلي، ذاك أنها تحمل في طياتها نهاية للفكرة الصهيونية الاستعلائية ولإسرائيل كما عرفها العالم. لكن في البحث عن أفق لحل إنساني يقدم إنسانية الإنسان على نزاعات الأرض والسيادة ويعطي الأولوية للحياة الكريمة على الموت الرخيص فإن المغامرة بارتياد أفق جديد تبدو شبه ضرورة. وما يشجع على المغامرة هو أن أنصار هذه الفكرة سواء من الطرفين أو من قبل المتابعين والمهمومين بالصراع العربي الإسرائيلي هم الأكثر إنشغالاً بالوصول إلى حلول تنصف الفلسطينيين لأنهم الضحية، حلول خالية من العنصرية المباشرة والعنصرية المضادة. يمكننا أن نصم الآذان عن الاستماع لأي فكرة جديدة ونتلحَّف بشعاراتنا الدافئة التي تعودنا عليها طيلة العقود الماضية. لكن ذلك الصمم الاختياري لن يغير الوقائع على الأرض بل يترك للزمن كي يواصل فعله الذي ليس في صالحنا، ونظره واحدة إلى فلسطين وجغرافيتها وديموغرافيتها الراهنة تؤكد كيف أن الزمن لا يعمل في صالحنا كما ردد ويردد كثيرون.( "الاتحاد" الظبيانية)