لـعــــبـة الاقـنـــــعـة

لقد نجح شارون في اعادة الامور الى صفر البدايات. ولكن ماذا بعد الصفر؟ وهل يمكن لدولة ان ترهن وجودها المادي ووجود شعبها بالتفوق العسكري والتحالف مع كل القوى الاستعمارية؟

جاءت الانتخابات الداخلية في الحزبين الاسرائيليين الكبيرين، لتعلن فوزا ساحقا لليمين. الليكود الذي اختار شارون لزعامته فوّض نتنياهو قيادة برلمانييه، وحزب العمل انتقم من قائده الجديد عميرام ميتسناع بفوز مجموعة بن اليعازر (فؤاد) في قائمته البرلمانية. وكان يوسي بيلين اكبر الخاسرين، اذ أُخرج عمليا من لائحة مرشحي حزب العمل. وبيلين هو احد مهندسي اتفاق اوسلو، وصاحب الوثيقة التسووية الشهيرة التي عُرفت باسم وثيقة بيلين - ابو مازن.
يمين الوسط المراوغ الذي يمثله شارون هُزم امام اليمين المتطرف، واليسار الحمائمي الذي يقوده ميتسناع هُزم امام يمين الوسط الصقري الذي يتزعمه بن اليعازر.


كيف نحلل هاتين الظاهرتين؟

كيف نفهم الهزيمة المدوية لنتنياهو في الليكود وقد تحولت انتصارا، والانتصار الساحق لميتسناع وقد تحول هزيمة؟

هل يؤشر هذان الخياران الى ميل متعاظم نحو اليمين في السياسة الاسرائيلية ام انه يعبر عن مسألة اكثر تعقيدا تطاول الخيارات الاسرائيلية في زمن الانتفاضة الفلسطينية المديدة.

من الواضح ان الليكود قدّم خيارين متناقضين في الظاهر. فشيخ القبيلة في اسرائيل، وهي الصورة الجديدة التي لبسها سفاح صبرا وشاتيلا، يمثل اليوم القناع الضروري لليكود من اجل الاحتفاظ بالسلطة. فشارون ترك كل الخيارات مفتوحة، انه مع الدولة الفلسطينية وضدها، مع تفكيك المستوطنات وضد تفكيكها، مع خريطة الطريق الاميركية ولكن. اي انه كل شيء ولا شيء. لكن هذا لا يعني ان الجنرال العجوز قد تخلى عن اقتناعاته الاساسية بضرورة سحق الفلسطينيين والاستيلاء على ارضهم ورفض اعطائهم شيئا من حقوقهم السياسية والوطنية. لكنه يريد الوصول الى ذلك من دون التناقض مع السياسة الاميركية، ومن دون احداث شرخ داخلي في المجتمع الاسرائيلي. لذلك فهو يدعو من الآن الى حكومة وحدة مع العمل، بهدف تكرار تجربته المريحة مع بيريز وبن اليعازر.

شيخ القبيلة في الليكود انتصر على زعيمها اليميني المتطرف، لكن نتنياهو كبَّل الشيخ بكتلة برلمانية، تجعل من الخطاب الشاروني "المتردد" غير ذي جدوى، لأنه محكوم بمزاج ارعن في حزبه نفسه.

اما في حزب العمل فالمسألة اكثر تعقيدا، فاز ميتسناع من اجل الصورة اليسارية التقليدية التي يحملها الحزب، وسقط بيلين كي يعلن سقوط الخيار السلمي في اسرائيل. وتربع جنرال تل الزعتر بن اليعازر على قائمة الحزب الانتخابية، كي يصير كل الكلام السلمي الذي اطلقه زعيم الحزب الجديد بلا جدوى.

كأن الحزبين الكبيرين صارا حزبا واحدا. شارون يرى في بن اليعازر امتداده الطبيعي، ونتنياهو يرى في ميتسناع خصمه المنطقي. والحكومة الاسرائيلية الجديدة التي ستفرزها الانتخابات البرلمانية، ستكون غير قادرة على اتخاذ اي قرار جذري.

مشروع نتنياهو بطرد عرفات، وتقويض السلطة نهائيا، مؤجل. ومشروع شارون والادارة الاميركية بايجاد قيادة فلسطينية بديلة توافق على اي شيء صار مضحكا. فبعد سقوط بيلين لن يجد ابو مازن او اي زعيم فلسطيني مقترح، مفاوضا اسرائيليا يوافق على استسلام يحفظ شيئاً من ماء الوجه.

لقد اختارت اسرائيل في شكل واضح ان لا تختار بين السلام والحرب. اختارت حرب استنزاف طويلة، يغطيها قناع شاروني -اميركي. وهو خيار "ذكي" على المدى القريب، من وجهة نظر صهيونية ترفض الوصول الى سلام مع ضحاياها الفلسطينيين، لكنه خيار كارثي على المدى البعيد، لانه لا يعني فقط ان اسرائيل ليست سوى ذيل حديدي للسياسة الاميركية، بل يعني ايضا ان اسرائىل اختارت بناء نظام تمييز عنصري في الاراضي المحتلة، مما يعني ان اي سلام يُفرض، لن يكون سوى هدنة موقتة في صراع تاريخي لا يعلم احد متى سينتهي او كيف!

لقد اعلن الحزبان الاسرائيليان موت التسوية، وشيخ قبيلة الحزبين، السفاح العجوز ارييل شارون، سوف يقود بلاده وشعبه الى مواجهة مفتوحة مع الشعب الفلسطيني، وهو يستند في ذلك الى عاملين:

العامل الاول، هو غياب العالم العربي وموته السريري. شارون لا يخشى على المستوى الاستراتيجي من اي رد فعل عربي. فالجسد العربي جامد في الموت، والاذلال الاميركي له بلغ حدا جعل انتظار اي شيء من هذا النظام العربي المتداعي محالا.

العامل الثاني، هو الاسرلة الكاملة للسياسة الاميركية في المنطقة العربية. فبعد الحادي عشر من ايلول، لم تعد الادارة الاميركية اليمينية في وارد مراعاة اي حليف عربي. بل هي تسعى الى تهميش حليفها السعودي كي لا نقول تقويضه. صارت اسرائيل هي القاعدة الوحيدة الثابتة للسياسة الاميركية جاعلة بذلك من جريمتها ضد الشعب الفلسطيني، جزءا من المشروع الاميركي للهيمنة على المنطقة.

الحزبان الكبيران اختارا لعبة الاقنعة، شارون هو قناع يمين الوسط لحزب الليكود اليميني المتطرف، وميتسناع هو قناع يسار الوسط لحزب العمل الذي صار عمليا في يمين الوسط.

وبين الاقنعة والحقيقة، اختارت اسرائيل تاريخها وواقعها القائمين على الاستعمار والاستيطان والطرد والقمع. اختار المجتمع الاسرائيلي الاستمرار في النهج الصهيوني الذي صنعه مؤسسو المشروع الاستعماري في فلسطين، ورفضوا اي امل بسلام ينقذهم من ورطتهم في هذه البلاد المنكوبة بالغزوات والثروة السائبة.

لقد نجح شارون في اعادة الامور الى صفر البدايات. ولكن ماذا بعد الصفر؟ وهل يمكن لدولة ان ترهن وجودها المادي ووجود شعبها بالتفوق العسكري والتحالف مع كل القوى الاستعمارية؟ (ملحق "النهار" - بيروت - 16 ديسمبر)

Terms used:

الليكود, اوسلو