"مؤتمر هرتسليا الثالث" والحالة الإسرائيلية المأزومة

هل يمكن الاستدلال على شيء ما جديد في الوقائع التي شهدها مؤتمر هرتسليا الثالث حول”ميزان المناعة والأمن القومي الاسرائيلي” (2-4/12/2002)؟ وفي حالة الإيجاب هل يسعف هذا الشيء الجديد في قراءة ما ينتظر الحالة الاسرائيلية في المستقبل المنظور؟

أنطــوان شلـحت
هل يمكن الاستدلال على شيء ما جديد في الوقائع التي شهدها مؤتمر هرتسليا الثالث حول”ميزان المناعة والأمن القومي الاسرائيلي” (2-4/12/2002)؟ وفي حالة الإيجاب هل يسعف هذا الشيء الجديد في قراءة ما ينتظر الحالة الاسرائيلية في المستقبل المنظور؟

لقد ظهر أمام هذا المؤتمر، كما في كل سنة، أبرز القادة الاسرائيليين، السياسيين والعسكريين والأمنيين، فضلاً عن أبرز الوجوه في النخبة الأكاديمية. وعند متابعة ما تفوّه به هؤلاء لا مهرب من ملاحظة أن تصريحاتهم سارت في إتجاهين متصلين، مبنى ومعنى: الأول سياسي والثاني”أمني”. في الإتجاه الأول تمكننا المتابعة الدقيقة من القول إن الجديد القليل ربما يكمن في إعلان رئيس الحكومة الاسرائيلية، أريئيل شارون، أنه ”ملتزم” بعد الانتخابات في كانون الثاني يناير 2003 بخطة الرئيس الأمريكي جورج بوش المعروفة باسم ”خارطة الطرق” لتسوية النزاع الاسرائيلي - الفلسطيني، والتي تنصّ على إقامة دولة فلسطينية كمرحلة مؤقتة في طريق الحل الدائم. لكن شارون أرفق التزامه هذا بشروط معهودة من شأنها تجويف الخطة الأصلية، على علاتها.

فقد صرّح بأنه في المرحلة الأولى من الابتداء بتطبيق الخطة يتعيّن على السلطة الوطنية أن تجتاز إصلاحاً إدارياً وأمنياً يؤول إلى نظام حكم جديد ”مستقيم وراغب بالسلام”، عبر إبعاد الرئيس الحالي، ياسر عرفات، من مراكز القوة واقصائه إلى ”وظيفة رمزية”.

واعتبر شارون هذه المرحلة تمهيدية، تليها المرحلة الثانية التي “تجيز إسرائيل خلالها إقامة دولة فلسطينية ضمن حدود ليست نهائية”. وبموجب ما قاله فان هذه الحدود المؤقتة تتحاذى مع مناطق)أ) و) ب) - التي تشكل حالياً 42 بالمئة من مناطق الضفة الغربية - باستثناء ما أسماه ”مناطق أمنية حيوية”. وقال أيضاً إن هذه الدولة الفلسطينية ستكون منزوعة السلاح وستحتفظ إسرائيل بالسيطرة المطلقة على معابرها الحدودية ومجالها الجوي، ويحظر عليها أن “تعقد تحالفات واتفاقات مع جهات معادية لاسرائيل”. وفي المرحلة الثالثة تبدأ مفاوضات لإقرار المكانة النهائية للدولة الفلسطينية وحدودها الدائمة. وشدّد شارون كذلك على أن التقدم من مرحلة إلى أخرى منوط ”باستتباب حالة مثبتة من الهدوء في العلاقات وبتغيير أنظمة الحكم الفلسطيني وبالتعايش”. وفوق هذا كله لم يحدّد شارون أي جدول زمني.

في اليوم ذاته، الذي ظهر فيه أمام”مؤتمر هرتسليا”، شارك شارون كذلك في جلسة”المجلس الوزاري المقلص للشؤون السياسية والأمنية”. وفي هذه الجلسة أكد أن ليس ثمة ما يدعو للقلق من جراء سيرورة بناء الدولة الفلسطينية، وفق خطة بوش السالفة. وأوضح أنه في الشهرين القريبين، أي حتى موعد الانتخابات البرلمانية في إسرائيل، ستغدو خطة”خارطة الطرق” عديمة الصلة.”فهناك، قال، أصناف عديدة من المسودات والأوراق. لكن ليس هناك سبب واحد للقلق”.

يمكن فهم ما يقصده شارون، في العمق، ايضاً لدى قراءة ما صرّح به وزير “الأمن” في حكومته، شاؤول موفاز، المؤتمن على “أسراره” أمام المؤتمر نفسه. ومما قاله إنه ”عاجلاً أم آجلاً سنكون مضطرين لسؤال أنفسنا فيما إذا كان من الصحيح أن نستمر، طوال الوقت، باتباع سياسة ردع حازمة أم ننتقل إلى مرحلة حسم سياسي- عسكري”. وأضاف: ”خطوات بناء الحسم لن تكون عسكرية فقط”، دون أن يوضح مقصده.غير أنه استثنى من هذا السيناريو الغائم موضوع قيادة ياسر عرفات، فأكد أن ”السياسة الفلسطينية لن تتغير طالما لم تتغير القيادة الفلسطينية(...) ينبغي على القيادة الفلسطينية الحالية أن تغادر منصة التاريخ. الفلسطينيون لا يبحثون عن تسوية. إنهم يسعون لاستعادة العدالة المسلوبة”.

وهكذا فإنه عدا عن إفتقار ما صرّح به شارون لأية قيمة سياسية نوعية، وفقاً لما زاده بنفسه بشأن ”خارطة الطرق” وطبقاً لما يهجس به موفاز، يجدر أن نقرأ هذه التصريحات كذلك في سياق الحملة الانتخابية الاسرائيلية. في هذا الصدد رأى أكثر من معلق أن شارون بخطابه في هرتسليا، وإن لم يأتِ بأي جديد ذي قيمة تذكر، ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد:


* العصفور الأول هو الرئيس الامريكي جورج بوش، وتحديداً في غمرة المساعي المبذولة لديه لتعديل خطة ”خارطة الطرق”.

· العصفور الثاني هو جمهور ناخبي اليمين المتطرف الاستيطاني. فقد ”استنكف” شارون عن التطرق إلى مسألة المستوطنات، حتى ضمن الحدود التي يرد الحديث عنها في تلك الخطة.

* العصفور الثالث، ويبدو حتى الآن أنه الأكثر أهمية، هو الرئيس الجديد لحزب”العمل”، عمرام متسناع. فقد دعاه شارون صراحةً إلى الدخول في حكومة ”وحدة وطنية” بعد الانتخابات. ومنذ الآن في مقدورنا التقدير أنه سيكون من الصعوبة بمكان على ”العمل” أن يرفض الإستجابة لدعوة كهذه، وذلك لأسباب عدة. مهما تكن تلك الأسباب فان سببين جوهريين منها واضحان حالياً بقدر كافٍ: ·

* الأول - من العسير على ”العمل” أن يرفض خطة بوش، التي جاء إعلان شارون أنه ملتزم بها بمثابة ”تعهد مبطّن” بأن تكون في صلب برنامج حكومته المقبلة.

* الثاني - ليس في مقدرة متسناع أن يتملص من الضغط الذي تمارسه عليه القيادة السابقة لحزب ”العمل” بخصوص تأييد حكومة “الوحدة الوطنية”. وهو ضغط مدجّج بفاعلية قوى في القاعدة العريضة لهذا الحزب. فقد أظهر آخر استطلاع للرأي في هذا الشأن، أجراه معهد ”ديالوغ” باشراف البروفيسور كميل فوكس لصالح صحيفة ”هآرتس”، أن حوالي 54 بالمئة من المنتسبين للعمل يعتقدون بأنه يتعين على متسناع أن يتبنى مواقف “أقل يسارية” من المواقف التي يصرّح بها، وأقرب إلى الوسط)الوسط نفسه الذي تشي تصريحات شارون الأخيرة بأن هناك محاولة من لدنه للإقتراب منه). كما أظهر أن حوالي 45 بالمئة من منتسبي “العمل” يؤيدون إقامة حكومة ”وحدة وطنية” برئاسة شارون في حالة فوز حزب ”الليكود” في الانتخابات القريبة، وهو ما يبدو شبه مؤكد.

في الإتجاه ”الأمني” تمحورت المقاربات، بصورة رئيسية، حول الحرب على العراق وحول خطر تعرض إسرائيل لعملية إستراتيجية.

· في هذا المحور الأخير ذكر قائد هيئة أركان الجيش الاسرائيلي، الجنرال موشيه يعلون، أن البيئة الاستراتيجية التي تحيط باسرائيل غير مستقرة ومشبعة بالأخطار. وأضاف أنه إذا كانت هذه الأخطار منحصرة حتى وقت قريب مضى في ثلاث دوائر (الدائرة الفلسطينية والدائرة اللبنانية - السورية والدائرة البعيدة، العراقية والإيرانية) فان العمليات في مومباسا (كينيا) أخيراً أضافت إليها دائرة رابعة وصفها بقوله “إنها دائرة الإرهاب العابر للحدود، الذي ليس له عنوان والمعدوم الهوية والحماية السياسية”.

ولدى تركزه في الحديث عن هذه الدائرة، في”مؤتمر هرتسليا”، قال رئيس “مجلس الأمن القومي” والمستشار الخاص لرئيس الحكومة الاسرائيلي، إفرايم هليفي، إن تعّرض إسرائيل لعملية إستراتيجية متعددة الضحايا سيغيّر بصورة حادة ”أصول التعامل والسلوك” من طرف إسرائيل. وأشار إلى أن محاولة إسقاط طائرة ركاب إسرائيلية في مومباسا، وإن منيت بالفشل، تشكل ”صعود درجة أخرى” في الأخطار المحدقة باسرائيل و ”يحظر التغاضي عنها”.

وذكر ايضاً”ان من ينخرط ضمن المحاولات الرامية لأن تتفحص من جديد ميزان الأمن القومي الاسرائيلي، يتعين عليه أن يفترض بأنه في حالة وقوع عملية إرهابية واسعة النطاق ناجحة ستتغير مرة واحدة سلسلة طويلة من أصول التعامل والسلوك. جوهر الخطر المحدق هو جوهر إبادة شعب وإبادة دولة وتدمير أركانها. ومقابل خطر كهذا تمتلك إسرائيل شبكة واسعة ومتنوعة من القدرات يفضل عدم كشف النقاب عنها قبل أن يحين الأوان.. وينبغي الإفتراض بأن الرأي العام العالمي سيتفهم ويقبل ويستبطن تغيير أصول اللعب ومستويات النشاط العملي”.

لعل أشدّ ما يمكن ملاحظته في صدد هذا الإتجاه “الأمني”، على خلفية الصعوبة القصوى بوضع اليد على مزيد من التفاصيل التي تغري بالاستنتاج، هو ان هناك إرتفاعاً في منسوب التصريحات التي تجهد لأن تعيد الثقة في مقدرة الردع الاسرائيلية بعد تكشّف “بطنها الرخوة”خلال الإنتفاضة.

· ونجد مصداقاً لتقديرنا هذا ليس في ما قاله هليفي فحسب وإنما أيضاً في الوقائع التالية: نشرت في ”مؤتمر هرتسليا” ذاته نتائج بحث حول”جدول القوة العسكرية في الشرق الأوسط ” أجراه طاقم خبراء برئاسة د.شموئيل غوردون. ويدمج هذا الجدول بين مركبات القوة العسكرية كافة، مثل منظومات السلاح ونوعية القوى البشرية والبنى التحتية والاستراتيجيا. وأشار هذا البحث إلى أن الأفضلية العسكرية التي تحظى بها إسرائيل، بالنسبة لجاراتها، ازدادت في العقد الأخير. من ذلك، مثلاً، أن قوة إسرائيل العسكرية مقابل تحالف يضم سوريا والأردن ومصر ويشارك فيه العراق بنسبة 20بالمئة من قوته العسكرية وبكامل منظومة صواريخ أرض - أرض التي بحوزته، هي 159: 121 في 2002، بينما كانت 125:100 في .1992 وفيما كانت النسبة في مجال منظومات السلاح المتطورة 110:100 لصالح الجيش الاسرائيلي في 1992 أصبحت هذه النسبة 141:100 في

.2002 * تزايد الحديث في الآونة الأخيرة، وهو ما انعكس أيضاً في”مؤتمر هرتسليا”، حول الحاجة لتحضير ما يسمى بـ ”الضربة الثانية”، والمقصود التي تعقب تلقي الضربة الأولى. ويكاد يكون ثمة إجماع على أن سلاح البحرية هو العنوان الأكثر تعويلاً عليه للقيام بتسديد مثل هذه الضربة بـ ”النجاح المطلوب”. غير أن الشيء الجديد، في هذا الخصوص، يبقى متمثلاً في أمرين يحيلان هما أيضاً إلى مسألة تأجيج الثقة، من جهة والرعب،من أخرى، جراء قوة الردع الاسرائيلية:

* الأمر الأول: النقاش العلني حول ضرورة تطوير مقدرة سلاح البحرية الاسرائيلي،بما يرفع كفاءته لاداء المهمات المرتبطة ب”الضربة الثانية”،على أتمّ وجه.

* الأمر الثاني: عودة التلويح بماهية هذه الضربة، الثانية، بشكل يراد له في الآن نفسه أن يستبق الضربة، التي قد تتعرض لها إسرائيل

· عند هذا الحدّ تجدر الإشارة إلى المقال الذي نشره، هذا الأسبوع، ضابط إسرائيلي كبير يعمل مرشداً في كليات الجيش في مجلة ”معرخوت”، التي تصدرها قيادة أركان الجيش الاسرائيلي. وقد دعا، في سياقه، إلى أن تعلن إسرائيل بصورة إختيارية مسبقة أن أي هجوم نووي عليها من جانب دولة ما أو من جانب منظمات إسلامية سيؤدي على الفور إلى هجوم مضاد ينطوي على تدمير للمدن الاسلامية المقدسة، مكة والمدينة في السعودية وربما مدينة قم أيضاً (في إيران).

وبموجب ما يقوله هذا الضابط الكبير، وهو لا ينفك يعلن أنه يستند إلى ”مصادر أجنبية”، فان في حوزة إسرائيل من مئة إلى أربعمئة قطعة سلاح نووي، والرؤوس النووية التي تمتلكها يمكن إطلاقها بواسطة صواريخ من منصات ثابتة أو متنقلة ومن طائرات حربية وحتى من غواصات.

وعلى أي طرف يخطط هجوماً نوويا ضد إسرائيل أن ”يأخذ هذه المعطيات في الحسبان”، على حد قوله.

ويعرب هذا الضابط الكبير عن رأيه أن بمقدور إسرائيل أن تؤمن لنفسها بهذا قوة ردع في الميدان النووي. ومن شأن ذلك أن يكبح جماح التهديد من طرف دول عربية معينة أو من طرف ”منظمات إرهابية”. كما من شأنه أن يخلق حالة من “توازن الرعب” الشبيهة بالحالة التي كانت سائدة إبان الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والإتحاد السوفييتي.

ربما يكون هذا الكلام رأياً فردياً لضابط إسرائيلي كبير، لكن نشره في مجلة الجيش الاسرائيلي يجعل دلالته تتجاوز بكثير حرية التعبير عن الرأي، التي لا تعيش أبهى حالاتها مؤخراً.