نظرة على نشأة "مركاز هراف" وفكرها ومكانتها

ما هي القيم والرسائل التي تمثلها وتروج لها مدرسة مركاز هراف الدينية اليهودية؟ وما هو الدور الذي لعبته، والمكانة التي احتلتها وتحتلها، ماضياً وحاضراً في المشروع الصهيوني (قيام دولة إسرائيل) بشكل عام، والمشروع الاحتلالي الاستيطاني – التهويدي، بعد العام 1967 بشكل خاص؟ ما الذي يميز فكر تيار هذه المدرسة/ الكلية عن بقية المدارس والتيارات الدينية اليهودية الأخرى المنتشرة بكم هائل في سائر أنحاء إسرائيل والعالم اليهودي عامة؟/ تقرير خاص من إعداد سعيد عياش

"مركاز هراف": سفينة الراية للصهيونية الدينية و"سرير ميلاد" المجموعات الاستيطانية و"القيامية" المتطرفة

إعداد: سعيد عياش

بصرف النظر عما إذا كانت الجهة أو الجهات التي تقف وراء العملية التي وقعت مساء الخميس قبل الماضي (6/3/2008) في القدس الغربية قد اختارت هدفها بعناية وقصد مسبقين، أم لا.. وبمعزل عن النتائج المباشرة والمضاعفات السياسية والأمنية الفورية والمحتملة لهذه العملية "غير المسبوقة" التي ما انفكت أصداؤها وتداعياتها تتفاعل وتتوالى دون توقف على أكثر من صعيد وساحة، فإن أكثر ما يستوقفنا ويعنينا في هذا المقام هو بالتحديد نفس الموضوع الذي أستأثر بحجم لافت وكبير من الأضواء والاهتمام اللذين تخللا التغطية الإعلامية، وخاصة في التقارير والتعليقات ومقالات الرأي المنشورة في الصحف الإسرائيلية، لعملية القدس، أي موضوع "المدرسة الدينية" ذاتها التي استهدفتها عملية الشاب المقدسي (المكبري) علاء أبو دهيم، مدرسة وكلية "مركاز هراف"، الأمر الذي رأى فيه العديد من المراقبين والمعلقين أهم و"أخطر" الأبعاد والدلالات في هذه العملية على الإطلاق.

فلماذا انصب كل هذا الاهتمام على مكان العملية، وكيف يفسر تحميل اختياره هدفاً لها كل هذه الدلالة والأبعاد؟ لماذا اعتبر أحد زعماء التيار الديني القومي عملية أبو دهيم "كارثة كبرى ضربت قلب الصهيونية- الدينية"؟! ولماذا وصفت تقارير وتعليقات الصحف والمحللين الإسرائيليين العملية بأنها نجحت في توجيه ضربة قاسية "لقلب معقل الصهيونية- الدينية" و"للمكان الذي ولد فيه الاحتلال والاستيطان".. الخ.؟!

ولعل السؤال أو الأسئلة المركزية الأهم المنبثقة عن كل هذا السياق هي: ما هي القيم والرسائل التي تمثلها وتروج لها مدرسة "مركاز هراف"؟ وما هو الدور الذي لعبته، والمكانة التي احتلتها وتحتلها، ماضياً وحاضراً في المشروع الصهيوني (قيام دولة إسرائيل) بشكل عام، والمشروع الاحتلالي الاستيطاني – التهويدي، بعد العام 1967 بشكل خاص؟

ما الذي يميز فكر تيار هذه المدرسة/ الكلية عن بقية المدارس والتيارات الدينية اليهودية الأخرى المنتشرة بكم هائل في سائر أنحاء إسرائيل والعالم اليهودي عامة؟

كل هذه الأسئلة وسواها ذات الصلة بالموضوع، سنسعى في هذا التقرير إلى محاولة الإجابة عنها وإجلاء ما يكتنفها بشيء من الإسهاب والتفصيل ما أمكن، وبقدر ما تستدعيه الحاجة، وذلك اعتماداً على معلومات ومنشورات ومراجع مختلفة بعضها نشر حديثاً.

سيرة موجزة

"يشيفات مركاز هراف" هي وفق تسمية رسمية أخرى "المدرسة الدينية العالمية" وهي المدرسة الدينية- الصهيونية العليا الأولى التي أقيمت في فلسطين مع بدايات تبلور المشروع الاستيطاني الصهيوني، إذ يعود تاريخ تأسيسها إلى العام 1924 فيما ترجع تسميتها (مركاز هراف- أي "مركز الحاخام") إلى مؤسسها "الحاخام الأكبر الأول لأرض إسرائيل" أبراهام إسحق هكوهن كوك (الراب كوك) الذي أقامها أساساً في منزله وسط القدس - على مسافة قريبة من مركز المدينة- لتكون مركزاً لتدريب وتأهيل تلامذة الحاخامين المعول عليهم في أن يصبحوا القادة والزعماء والمربين المستقبليين للأجيال المقبلة في المجتمع الاستيطاني اليهودي والدولة الصهيونية العتيدة.

وبمرور السنوات أصبحت مدرسة "يشيفات مركاز هراف" نموذجاً تطورت وانبثقت وتفرعت عنه، وأحياناً تأثرت به، سلسلة طويلة من المدارس والمعاهد الدينية- الوطنية، (التابعة لتيار الصهيونية- الدينية) وبعضها مدارس دينية عليا (تكرس جل برامجها لتعليم التوراة وفقه الشريعة اليهودية كما هو مألوف في المجتمع الديني الحريدي المتزمت) وبعضها الآخر يدمج في برامجه الديني والدنيوي، مثل معاهد "بني عكيفا"، ونوع ثالث مدارس ومعاهد تجمع في مسارها بين تدريس تعاليم الدين اليهودي والخدمة العسكرية وتسمى "يشيفوت ههسدير"، وهذه الأخيرة منتشرة على نطاق واسع بشكل خاص في المستوطنات اليهودية في الأراضي المحتلة، وربما لهذه الأسباب صارت مدرسة "مركاز هراف" توصف بـ "أم اليشيفوت الصهيونية".

"الييشفاه"، التي أصبحت تضم في مقرها المركزي الحالي (في حي "كريات موشيه" في القدس الغربية) مدرسة وكلية عليا يتلقى التعليم داخل جدرانها حاليا نحو ألف طالب من سن 14 عاماً فما فوق، تعتبر تاريخياً بمثابة "سفينة الراية" للصهيونية- الدينية ورائدتها الروحية، وذلك بكونها القلب "النابض" للأيديولوجيا الدينية- القومية والدفيئة المركزية التي نمت وترعرعت داخلها الأفكار والنخب والمجموعات الأشد تطرفاً وعنفاً في المجتمع الإسرائيلي عموماً والتيار الصهيوني- الديني بوجه خاص، ابتداء من حركة "غوش إيمونيم" الاستيطانية التوسعية التي ظهرت في أوائل السبعينيات، مروراً بالتنظيم الإرهابي اليهودي أواسط الثمانينيات، وانتهاء بمجموعات "قيامية" إرهابية واستيطانية عنيفة - مثل المجموعة المسماة "شبيبة التلال"- ظهرت ونشطت في التسعينيات وأوائل الألفية الثانية.

ويدخل في عداد أبرز الحاخامات وزعماء المستوطنين المتطرفين الذين تتلمذوا وتخرجوا من يشيفات "مركاز هراف": موشيه لفينغر، حاييم دروكمان، شلومو أفنير، دوف ليئور، حنان بورات، إيفي إيتام، إيلي سدان، الياكيم ليفنون، شموئيل الياهو، تسفانيا دروري وغيرهم الكثير من غلاة التطرف والعنصرية والكراهية للعرب.

ما زالت مدرسة "مركاز هراف" تمثل حتى الآن المعقل المركزي للمجموعات اليمينية الأشد تطرفاً في المجتمع الإسرائيلي، والتي ما انفكت تعمل وفقاً للأفكار والأيديولوجيا الصهيونية- الدينية المتشبثة بعقيدة "أرض إسرائيل الكاملة".

وتأكيداً على مكانتها المهمة في الحياة والدولة الإسرائيلية فقد اعتاد رؤساء الدولة ووزراؤها الكبار على مدار السنوات وإلى الآن، المشاركة في الاحتفالات التي تقام في كل عام داخل مدرسة "مركاز هراف" بمناسبة ذكرى قيام إسرائيل.

المؤسس والفكرة

ولد الحاخام أبراهام إسحق هكوهن كوك (1865 - 1935) في لاتفيا، إحدى جمهوريات البلطيق، وتلقى هناك تعليمه في مدارس ومعاهد دينية يهودية حريدية، ليصبح واحداً من أبرز الحاخامات والمفكرين اليهود. في العام 1904 كلف بالقدوم إلى البلاد ليشغل منصب الحاخام الرئيسي لليهود في مدينة يافا، ثم غادر إلى أوروبا قبل فترة وجيزة من الحرب العالمية الأولى واضطر للبقاء هناك (بداية في سويسرا ثم في لندن) ومع انتهاء الحرب عاد في العام 1919 ليتولى منصب حاخام اليهود في القدس. ومع تأسيس الحاخامية الرئيسية لمجتمع الاستيطان (الييشوف) اليهودي في البلاد أصبح "الحاخام (الإشكنازي) الأكبر الأول لأرض إسرائيل". في العام 1924 أقام مدرسة "مركاز هراف" لتكون حسب ما خطط له "اليشيفاه المركزية العالمية". وكان كوك، الذي تأثر بأفكار الحاخامين والمفكرين اليهوديين يهودا القلعي وتسفي كالشير اللذين حضا خلال القرن التاسع عشر على ضرورة الهجرة إلى فلسطين وإقامة المستوطنات الزراعية، من أوائل حاخامات عصره الذين آمنوا بأن مشروع الحركة الصهيونية المتمثل بإقامة الدولة اليهودية يمكن أن يشكل خطوة مساعدة تقرب تحقيق فكرة "الخلاص" وقيامة المسيح المنتظر التي تشدد عليها العقيدة الدينية اليهودية. وقد شكل هذا الطرح، الذي تحول إلى تيار في اليهودية- الحريدية يفصل بين إقامة الدولة (حتى لو كانت يهودية- صهيونية) وبين عملية الخلاص، أساساً لفكر الحاخام أبراهام كوك، ومن ثم ابنه الحاخام تسفي يهودا كوك الذي ترأس بعده (من أواخر الأربعينيات حتى وفاته في العام 1982) مدرسة "مركاز هراف"، غير أن ما ميز فكر وتوجه كوك الأب كونه "طور" هذه الأفكار حين قال بأن فكرة إقامة الدولة اليهودية في فلسطين هي فكرة إلهية وإن الحركة الصهيونية ما هي إلا أداة في يد الله، وأكثر من ذلك اعتمد كوك الأب تفسيراً متطرفا للتوراة حول سمو الشعب اليهودي على غيره من الشعوب حين اعتبر أن الروح غير اليهودية خلقت من الطرف الأنثوي للشيطان.

تطور الفكر والنموذج "المركزاني"

بمرور السنوات شهدت أفكار وتوجهات مدرسة "مركاز هراف" تطورات و"تجديدات" عبرت عن نفسها بطروحات مالت إلى مزيد من التطرف اليميني، ولا سيما في فترة تولي كوك الابن لرئاسة "الييشيفاه" والذي، وإن كان قد سار إجمالاً على خطى والده، أضاف بدوره تفسيراً أكثر تطرفاً حين أجاز استخدام العنف بهدف تعزيز الوجود والاستيطان اليهودي في فلسطين كخطوة ضرورية للتعجيل في "الخلاص المنتظر". هذا التيار الفكري- والتربوي المسيحاني الذي مثله "مركاز هراف" الذي لم تكن الصهيونية بالنسبة له سوى "المرحلة الأولى، العلمانية، في عملية خلاص خاتمتها خلاص ديني"، تحول إلى نموذج مركزي في الصهيونية- الدينية، نبعت مركزيته من حقيقة أنه عكس ما يحدث في صفوف النخبة التربوية الحاخامية المتتلمذة على يد الحاخام كوك الأب، وبلغ ذروة تأثيره في فترة النصف الثاني من عقد السبعينيات وعقد الثمانينات بطولة.

فقد طرحت هذه النخبة الحاخامية المنتمية إلى "مركاز هراف" سلم قيم جديدا يرتكز إلى ثلاث نقاط رئيسة يمكن إيجازها على النحو الآتي:
•تمسك وحرص عام على تأدية الفروض الدينية والالتزام الصارم بسائر التعاليم والنواهي الدينية في جميع النواحي الحياتية اليومية.
•مركزية "أرض إسرائيل" وتميز (سمو) الشعب اليهودي في الوعي الديني، وقد جرى التشديد على تلازم هذين العنصرين في النظرية التربوية لدى "مركاز هراف"، بمعنى مركزية فكرة "أرض- دولة- إسرائيل" والولاء لها في الهوية الدينية، والتحدث بموازاة ذلك عن تميز وخصوصية الشعب اليهودي ( الشعب المختار) كمن لا تنطبق عليه "بحكم الاصطفاء الإلهي" قوانين التاريخ والسياسة المتعارف عليها. واستناداً لهذا الفهم أجاز رجالات "مركاز هراف" لأنفسهم التغاضي عن مسائل السياسة الدولية، وشددوا في المقابل على مسامع تلاميذهم على "فريضة استيطان البلاد" وعدم جواز تقديم أي "تنازلات إقليمية" في مقابل السلام.
•النقطة الثالثة انتقاد ومهاجمة "الثقافة العصرية" العلمانية، لا سيما الإباحية في العلاقات بين الجنسين والثقافة الغربية برمتها.

مجمل هذه القيم والأفكار وجدت تعبيراً لها في النموذج التربوي والتعليمي الذي سعى رجالات "مركاز هراف" إلى تعميمه- ونجحوا في ذلك- على نطاق واسع داخل تيار الصهيونية- الدينية، إذ تحول خريجو المعهد- الييشيفاه- في مرحلة معينة إلى عامل مركزي في جهاز التعليم التابع للصهيونية الدينية، حيث عملوا مركزين للتعليم في مدارس "بني عكيفا" ومرشدين في حلقات الدراسة ودور المعلمين على اختلاف أنواعها، وغدا عدد متزايد من أبناء وبنات هذا المجتمع عرضة لتأثير أفكار مدرسة "مركاز هراف" بل وصار الكثيرون منهم رسلاً ومروجين لهذه الأفكار.

ففي العام 1940 بادر الحاخام موشيه تسفي ناريا، أحد التلامذة الشبان للحاخام كوك الأب، إلى إقامة "ييشيفاه زراعية" في "كفار هروئيه" التي تحولت لاحقا إلى مدرسة "بني عكيفا" الأولى في سلسلة طويلة من المدارس التي أقيمت على هذا النمط الذي يقدم تأهيلا زراعياً- طلائعياً للفتية والشبان إلى جانب تأهيل ديني- توراتي. وفي العام 1952 انبثقت نواة من تلاميذ "يشيفات كفار هروئيه" سعت إلى التميز عبر التشدد الأيديولوجي والحرص الديني، أطلقت على نفسها اسم "غحلات" (اختصار لـ "نواة طلائع دارسي التوراة") وصار عدد من أعضاء هذه النواة لاحقاً شخصيات بارزة جداً في صفوف الزعامة الدينية الروحية وزعامة حركة "غوش إيمونيم" ("كتلة الإيمان") الاستيطانية مثل الحاخام تسفانيا دروري (حاخام كريات شمونه)، وزلمان ميلاميد (حاخام مستوطنة "بيت إيل" ومؤسس "القناة 7"- محطة إذاعة المستوطنين في الأراضي الفلسطينية المحتلة) ويعقوب فيلبر (رئيس معهد "مركاز هراف" للشباب). بعد ذلك، وفي العام 1955، أسس عدد من خريجي مدرسة "كفار هروئيه" معهدهم الديني العالمي "يشيفات كيرم بيفنا" ليكون إطاراً للتأهيل التوراتي لأعضاء حركة "بني عكيفا" قبل أن يواصلوا شق طريقهم إلى مسار الخدمة العسكرية في إطار مسار لواء "الناحال" العسكري المظلي، ومن ناحية عملية فقد تحول المعهد إلى أول "ييشيفاه"- في نطاق سلسلة "يشيفوت ههسدير"- التي تدمج الخدمة العسكرية في إطار مسار منهجها الدراسي. وقد شكل هذا النموذج الجديد أيضاً بمرور السنوات، حلاً لمعضلة شرائح واسعة في المجتمع الديني- الوطني من حيث أنه أوجد إطاراً أشبه بـ "دفيئة دينية" محصنة أثناء فترة الخدمة العسكرية أيضاً، وفي الوقت ذاته إطاراً يجسدون فيه فريضة "استيطان البلاد".

في ضوء ذلك أخذ خيار النموذج "المركزاني" (وهي التسمية الداخلية الشائعة لـ "مركاز هراف") يستهوي ويجتذب قطاعاً متزايداً من أبناء وخريجي المدارس الثانوية التابعة لجهاز التعليم الديني الرسمي (الحكومي) الذين سعوا إلى تعميق دراستهم الدينية- التوراتية العليا من دون التخلي عن الخدمة العسكرية وعن الأيديولوجيا الدينية- الصهيونية القومية.

ومن المعروف كما أسلفنا، أن مؤسس "مركاز هراف"، الحاخام كوك، وابنه من بعده، الحاخام تسفي يهودا كوك، برزا في "عالم اليشيفوت" كمن يرون في الصهيونية العلمانية "صنيعاً للعناية الإلهية، وجزءا من خطة ربانية لتحقيق وجلب الخلاص"، وكانت "الييشيفاه" ذاتها الخيار "اليشيفوتي" الوحيد الذي ساند لاحقا بصورة علنية فكرة "الانبعاث القومي اليهودي". فبعد أن كانت مدرسة "مركاز هراف" حتى أواخر الخمسينيات تقريباً مدرسة صغيرة ومتواضعة (في حجرة واحدة كانت في الماضي جزءاً من منزل مؤسسها كوك الأب) تحولت "الييشيفاه" خلال سنوات معدودة إلى مركز يعج بالنشاط وبمئات الشبان التلاميذ الذين قدموا من سائر أنحاء البلاد وإلى نموذج جذب فكري وتربوي يستهوي كثيرين آخرين ممن لم يعتبوا أبواب المدرسة.

فقد نمَّت "الييشيفاه" شخصية "التوراتي الصهيوني" الذي لا يقل في عالمه الديني- التوراتي وفي تمسكه بالفروض الدينية عن ابن "الييشيفاه" الحريدي، ولا يقل في الوقت ذاته من حيث المستوى الأيديولوجي والممارسة الصهيونية عن نظيره العلماني.

وهكذا فإن نموذج التعليم التوراتي الصهيوني الذي شق طريقه كمجموعة نخبوية صغيرة انطلقت من "مركاز هراف" و"كفار هروئيه" و"كيرم بيفنا" تحول بعد مرور عشرين عاماً، في أواخر السبعينيات، إلى نموذج للتعليم السائد في الصهيونية الدينية وذلك لسبب بسيط وهو أن أغلب المدرسين في مدارس تيار الصهيونية الدينية، ناهيكم عن حاخاماته البارزين، تبنوا فكر ومفاهيم النموذج "المركزاني"، لأن "مركاز هراف" كان المعهد الديني العالي الوحيد الذي أعد وأهل حاخامات إبان تلك السنوات في تيار الصهيونية- الدينية.

هيمنة في الأيديولوجيا والسياسة الدينية

في ضوء ما ذكر أخذ عدد متزايد من الأهالي من القطاعات العريضة في الصهيونية- الدينية، يرسلون أبناءهم وبناتهم إلى المدارس والمعاهد الدينية والتوراتية العسكرية ("يشيفوت ههسدير") التي أقيمت بوحي وإلهام نموذج "مركاز هراف" الواحدة تلو الأخرى في سائر أنحاء البلاد، مفضلين هذه المؤسسات الجديدة على المدارس الثانوية البلدية الاعتيادية التي تراجعت مكانتها وشهرتها بصورة لافتة، وقد فعل الكثيرون منهم ذلك على الرغم من أنهم لم يكونوا بالضرورة ذوي أيديولوجيا دينية، وإنما من منطلق الرغبة في منح أبنائهم "تعليما جيداً نخبوياً أثبت نفسه".

وبحلول نهاية السبعينيات أضحت الهيمنة الأيديولوجية في مجتمع الصهيونية- الدينية تتركز بصورة جلية في يشيفات "مركاز هراف" وفروعها. وقد أتسم التوجه الذي مثلته "الييشيفاه" بثنائية المكونات: تكامل ووحدة أيديولوجية بين "التوراة وأرض إسرائيل" إلى جانب وجهة نظر صهيونية متطرفة في صورة "أرض إسرائيل الكاملة" وتوراتية متشددة إزاء كل ما يتعلق بمواضيع العصرية والعفة والاحتشام، وبسبب هذه النقطة الأخيرة شرع عدد من رجالات "مركاز هراف" في أوائل السبعينيات بتأسيس جهاز تعليم رسمي بديل للتعليم الحكومي- الديني الذي اعتبروه "متهاوناً" من ناحية دينية، خاصة لكون مدارسه مختلفة للبنين والبنات، حيث أقيمت في العام 1972 شبكة تعليم للبنين باسم "نوعم" فيما سميت شبكة التعليم المخصصة للإناث، التي أقيمت بعد وفاة الحاخام كوك الابن (سنة 1982) على اسم هذا الأخير "تسيفيا".

حرب حزيران 1967 كنقطة تحول وانطلاقة

شكلت حرب حزيران 1967، وما تمخض عنها من احتلال لمناطق الضفة الغربية وقطاع غزة وسيناء والجولان، والتي خلقت كما هو معروف أجواء من "النشوة العارمة" لدى عامة الأوساط الإسرائيلية، نقطة تحول مهمة وانطلاقة حثيثة بالنسبة لمجمل الأيديولوجيات والمشاريع الصهيونية، القومية والدينية، التي كان جل مدادها وقوت حياتها اليومي هو المطامع والأحلام بالتوسع وبـ "أرض إسرائيل الكبرى". هذه النتائج و"الإنجازات العظيمة" التي تمخضت عنها الحرب، ألهبت "مشاعر الإيمان والحماس الديني" لدى أتباع تيار الصهيونية- الدينية، وفي شكل خاص حاخامات وتلاميذ "مركاز هراف" الذين رأوا في ذلك "تأكيداً واضحاً على مفهوم الخلاص" الذي أرساه بداية مؤسس الييشيفاه الحاخام كوك الأب، ثم "طوره" حاخامهم ومعلمهم كوك الابن، الذي نسب إليه أبناء هذه المدرسة مغزى النبوءة. ويعود ذلك كما يروى، إلى كون رئيس "الييشيفاه" الحاخام تسفي يهودا كوك كرس الخطاب الذي ألقاه قبل ثلاثة أسابيع من اندلاع حرب 1967 (بمناسبة الاحتفال بذكرى إقامة إسرائيل) للتعبير عن "الحنين إلى أجزاء البلاد القديمة في يهودا و السامرة" حيث صاح الحاخام كوك قائلاً "إيفو شخيم شلانو.. إيفو حفرون شلانو؟!" (أين نابلسنا! أين خليلنا!). وجاءت النتيجة التي تمخضت عنها الحرب بعد أسابيع معدودة فقط لتجعل أبناء "الييشيفاه- وفي إثرهم كثيرون من أتباع الصهيونية الدينية- يعلقون على هذا الخطاب مغزى النبوءة، حتى أن أتباع المدرسة قاموا على مدى سنوات عديدة لاحقة بتوزيع الخطاب تحت عنوان "مزمور 19 لدولة إسرائيل" وقد اختير هذا العنوان لأن تاريخ إلقاء الخطاب صادف الاحتفال بـ "يوم عيد الاستقلال التاسع عشر للدولة".

وهكذا أخذ "مركاز هراف" يتحول بعد حرب 67 إلى معقل ودفيئة مركزية لنمو وتفريخ الأفكار والمجموعات الدينية- القومية المتطرفة وفي طليعتها "كتلة الإيمان" (حركة "غوش إيمونيم" الاستيطانية المسيحانية) التي انبثقت عنه في منتصف السبعينيات. من هنا اعتبر الكثيرون أن معهد "مركاز هراف" شكل "سرير ميلاد المشروع الاستيطاني- في الضفة والقطاع- والقوة الدافعة له"، و"سفينة الراية للصهيونية الدينية".

غير أن الانطلاقة الحقيقية الكبرى لهذه الأفكار والمجموعات التي نشأت وترعرعت في كنف المعهد، لم تحدث سوى في منتصف السبعينيات، وذلك في أعقاب حرب تشرين الأول 1973 (حرب "يوم الغفران") وما ولدته من صدمة وشعور بالانتكاس والهزيمة في المجتمع الإسرائيلي بكل شرائحه وقطاعاته التي أخذ إحساسها بالمرارة والإحباط يتعاظم ويتحول إلى نقمة انصبت أساساً على السلطة الحاكمة في إسرائيل (سلطة الحركة العمالية- المعراخ) وما تمثله من قيم ونهج معتلين فاسدين. وقد رأى رجالات "مركاز هراف" والمجموعات الأيديولوجية المتطرفة المنبثقة عنه، وخاصة "غوش إيمونيم"، في هذه الأجواء الانتكاسية المخيمة على الدولة والمجتمع الإسرائيليين الفرصة المواتية لانطلاق أفكارها وخططها القيامية (الخلاصية). ففي العام 1974 وعقب قيام حكومة رابين الأولى مباشرة انطلقت حركة "غوش إيمونيم" على الأرض بأولى حملاتها الاستيطانية في مناطق عدة من الضفة الغربية مستمدة قوتها وغطائها الديني، وجزءا كبيرا من الغطاء والتأييد الشعبي، من مدرسة "مركاز هراف" وهو ما تجلى بوضوح في البيان التأسيسي الأول للحركة الذي صاغه زعماؤها بوحي من أفكار وتعاليم معلمهم رئيس الييشيفاه تسفي يهودا كوك، حيث جاء في البيان إن هدف "غوش إيمونيم" هو: "إحداث حركة نهوض واسعة في صفوف شعب إسرائيل من أجل تجسيد الحلم الصهيوني بأكمله، مع الإدراك أن مصدر الحلم يكمن في التراث اليهودي وجذور اليهودية، وان غايته هي الخلاص التام للشعب اليهودي وللعالم بأسره".

استطاعت "غوش إيمونيم" في فترة قصيرة إلهاب الحماس والعواطف في الصفوف العريضة للصهيونية- الدينية، ليس فقط في أوسط أبناء "اليشيفوت" وإنما أيضاً في صفوف أصحاب المهن الحرة وأبناء الطبقة الوسطى في المدن الكبيرة، الذين أُعجبوا بمبادرات الاستيطان التي تقودها مجموعة "غوش إيمونيم". وسط هذا الحماس والاندفاع سطع مرة أخرى وبقوة أشد نجم "مركاز هراف" الذي اعتبر بمنزلة "مرجل الثورة الجديدة" في الصهيونية- الدينية، وتحولت "الييشيفاه" وتفرعاتها الأخرى بمرور الوقت، إلى "حجر الرحى بالنسبة إلى جيل كامل من الشبان المتدينين- الوطنيين". ووصف غدعون أورن، أستاذ علم الاجتماع في الجامعة العبرية- القدس، الذي كرس رسالته للدكتوراه لدراسة الجذور الدينية لحركة "غوش إيمونيم"، العملية التي مرت بها الصهيونية الدينية في تلك السنوات بأنها عملية تحول من صهيونية- دينية إلى دينية- صهيونية، أي من مجتمع كانت قاعدته الأيديولوجية تقوم على الشراكة مع مجمل المعسكر الصهيوني، في وقت اعتبر فيه الدين مسألة شخصية تقريباً وعلى الأكثر فئوية، إلى مجتمع يقوم من ناحية أيديولوجية على الأساس الديني، ينظر فيه إلى البعد القومي من منظار ديني.

إن التأكيد على الدور الذي لعبته "يشيفات مركاز هراف" في هذه العملية نجده في ما أعرب عنه مثلا الكاتب الإسرائيلي المعروف حاييم بار، حين قال إنه لو وجدت في البلاد- إسرائيل- إبان تلك الأيام "ييشيفاه" صهيونية عصرية أخرى أقل تطرفاً - من مركاز هراف- من ناحية دينية وسياسية وأقرب إلى نموذج الـ "ييشيفاه الجامعية- اليهودية- الأميركية"، لكان تاريخ الصهيونية- الدينية مختلفاً.

في سياق متصل أكد أيضا الباحث والكاتب المتخصص في شؤون المجتمع الديني والحركات والأحزاب الدينية اليهودية في إسرائيل، يائير شيلغ، أن هذه العملية ذاتها (التحول من صهيونية- دينية إلى دينية- صهيونية) أصبحت بمرور الوقت (في الثمانينيات والتسعينيات) حادة أكثر، حينما سعت الزعامة الدينية لحركة "غوش إيمونيم"، مثل الحاخام حاييم دروكمان وشلومو أفنير وقسم كبير من زعامتها السياسية، إلى الحسم في مسائل سياسية وأمنية بحتة بوسائل الإفتاء الديني، مثلما حصل في الاتفاقيات السياسية التي تضمنت الانسحاب من مناطق احتلت في العام 1967، بداية في اتفاقية الانسحاب من سيناء ولاحقاً في مسألة شرعية حكومة رابين واتفاقيات أوسلو التي وقعتها مع منظمة التحرير الفلسطينية، وهو ما أدى إلى ظهور خلافات وبوادر تصدع حادة في صفوف التيار القومي- الديني عموماً.

غير أن شيلغ يعيد ظهور هذا الانقسام وما يصفه بـ "بداية أفول المدرسة المركزانية" إلى الفترة التي أعقبت مباشرة رحيل رئيس معهد "مركاز هراف" وزعيم تيار "الثورة التوراتية في الصهيونية الدينية" الحاخام تسفي يهودا كوك الذي توفي في عيد "بوريم" (المساخر) اليهودي في مثل هذا الشهر (آذار) من العام 1982 عن 91 عاماً، إذ نشب في "الييشيفاه" صراع خلافة، تطور لاحقاً إلى صراع فكري امتد حتى أواسط التسعينيات، بين مدرستين (تيارين) مثل الأولى، التي كانت لها الغلبة في النهاية، الحاخام أبراهام شابيرا، الذي أصبح لاحقاً الحاخام (الإشكنازي) الأكبر لإسرائيل والمرجع الديني الأعلى للحزب القومي- الديني (المفدال)، والذي اشتهر لاحقاً بمعارضته الشديدة وفتاويه الدينية المناوئة لاتفاقيات أوسلو وما تبعها من انسحابات وإخلاء لمستوطنات يهودية، فيما مثل التيار الثاني الحاخام تسفي طاو الذي تبنى توجها أقل تطرفاً على هذا الصعيد. ويقول شيلغ إن هيمنة نظرية "مركاز هراف" في أوساط الصهيونية- الدينية أخذت تشهد منذ ذلك الوقت عملية انحسار وأفول متواصلة لم يكن العامل الرئيس أو الوحيد فيها الصراعات الداخلية وإنما لظهور عوامل مهمة أخرى أبرزها الضربة التي وجهتها اتفاقيات كامب ديفيد أولا، ثم اتفاقيات أوسلو، لمفهوم الخلاص على طريقة الحاخام كوك، والذي رأى أن "عملية الخلاص" ليست ضرورية وحسب وإنما يمكن لها أن تسير قدماً فقط، لا أن تشهد تراجعاً وانسحابات (من مناطق في "أرض إسرائيل") وإخلاء لمستوطنات بأكملها، إضافة إلى عامل رئيس آخر يتمثل في التغيير الحاد الذي طرأ على الأجندة الداخلية للصهيونية الدينية نتيجة للتغيرات التي طرأت على المجتمع الإسرائيلي برمته وبدايتها في "عملية البرجزة الحثيثة التي مر بها المجتمع الإسرائيلي خلال السبعينيات والثمانينيات".

لكن على الرغم من ذلك يقر شيلغ، وهذا ما يؤكده باحثون كثيرون، أن تأثير القيم والأفكار والقواعد التي أسست لها وأرستها مدرسة "مركاز هراف" وفروعها، ما زال جلياً في صفوف النخبة الحاخامية والتربوية لتيار الصهيونية- الدينية، وأن هذا التأثير ما انفك يترك بصماته وظلاله على الخطاب العام السائد في هذا المعسكر.