إخفاقات التفكير الإستراتيجي في حرب لبنان الثانية

مدير "مركز بيغن- السادات للدراسات الإستراتيجية" في جامعة بار إيلان، البروفيسور إفرايم عنبار، يؤكد في هذه الدراسة أنه ليس واثقاً بأن الإخفاقات التي تطرّق إليها يمكن إصلاحها بسهولة، نظراً لأنها مرتبطة بتفكير سطحي مرفوض تسرب إلى أروقة وزارة الخارجية وإلى هيئات التفكير في الجيش الإسرائيلي، فضلاً عن السياسيين. الأخطاء والقصورات العسكرية، التكتيكية والتنفيذية ربما يمكن تصحيحها بسرعة، أما خطوط واتجاهات التفكير القاصرة فمن الصعب جداً تصحيحها. لذلك، ومن وجهة نظره، فإن ما حدث لإسرائيل في حرب لبنان الثانية يشكل سبباً للقلق

اندلعت حرب لبنان الثانية بعد اختطاف جنديين إسرائيليين في 12 تموز 2006.

في هذه الحرب كانت هناك إخفاقات وكانت هناك أيضاً إنجازات رائعة. وسوف أركز في حديثي بشكل أساس على التفكير الإستراتيجي الإسرائيلي كما تجلى أثناء الحرب. ومثل هذا التفكير هو من اختصاص السياسيين وكبار الضباط في الجيش الإسرائيلي. لست واثقاً أن باستطاعتي دوماً أن أشخص على من تقع المسؤولية في هذا الجانب أو ذاك، ولكن يمكن القول إن التفكير الإستراتيجي هو نتاج لقاء أدمغة كبار المسؤولين في الحكومة مع ذوي المناصب الرفيعة في الجيش.

سأستعرض عدة أشكال أو طرائق تفكير يمكن نسبها بسهولة للمستوى العسكري والسياسي الأعلى في إسرائيل أثناء الحرب الأخيرة، والتي كانت من وجهة نظري إشكالية للغاية، بل ويمكن حتى وصفها على أنها إخفاقات في التفكير.

الإخفاق الأول على هذا الصعيد يتمثل في غياب الجاهزية للحرب على الجبهة اللبنانية. في صيف العام 2006، على الرغم من أن "حزب الله" تحرّش بإسرائيل من حين إلى آخر، وعلى الرغم من أن خطط الحزب لإختطاف جنود إسرائيليين كانت معروفة، لم يكن الجيش الإسرائيلي مستعداً على الإطلاق لمواجهة واسعة النطاق وهناك شواهد واضحة على ذلك. ففي عهد وزير الدفاع السابق، شاؤول موفاز، قررت الحكومة تقليص فترة الخدمة العسكرية للجنود النظاميين بمدة تتراوح بين أربعة وثمانية أشهر اعتباراً من آذار 2007. ليس سراً أنه أجريت تقليصات في ميزانية الجيش الإسرائيلي، عبرت عن نفسها، من ضمن جملة أشياء، في تقليص ملموس في تدريبات الوحدات القتالية، كما أجريت تقليصات كثيرة أيضاً في حجم الوحدات المدرعة. وكان هناك ضغط متزايد، لم يتوقف إلاّ مؤخراً، لإلغاء خط الإنتاج لدبابة "مركفاه". فضلاً عن ذلك لم تتدرب سوى وحدات قليلة فقط من الجيش، على نموذج ملائم لمعالجة "المحميات الطبيعية" لحزب الله. أي أنه يمكن الإشارة إلى سيرورات حدثت طوال عدة سنوات، لم تشخص فيها القيادة العسكرية والسياسية إمكانية اندلاع حرب من النوع الذي خبرناه في صيف 2006.

الإخفاق الفكري الثاني وقع في مضمار تحديد الهدف السياسي. في بداية الحرب (ومن ناحية عملية ما زالوا يكررون ذلك حتى اليوم) قالت للمواطنين الإسرائيليين جهات مختلفة، ومن ضمنها رؤساء سابقون لشعبة الاستخبارات العسكرية والمستوى السياسي، إن الهدف من اللجوء للقوة هو إحداث عملية سياسية في لبنان تضعف مركز "حزب الله" وتعزز الدولة اللبنانية. اعتقد أن ذلك كان خطأ فادحاً. فإسرائيل لا تمتلك فرصة للتأثير بواسطة استخدام القوة أو بوسائل أخرى، على النظام السياسي اللبناني، وقد سبق أن أخذنا العبرة في 1982. فقد مكثنا في ذلك الوقت في لبنان بقوة جبارة وحاولنا فرض "نظام جديد"، لكننا أدركنا بأصعب الطرق أن ذلك أكبر من قوتنا وطاقتنا.

علينا أن ندرك أنه توجد في الشرق الأوسط قوى اجتماعية وسياسية محلية تمتلك قوة أكبر من أي تدخل خارجي. نحن لا نستطيع تنظيم الشرق الأوسط حسب مشيئتنا أو رغبتنا. وهذا صحيح بطبيعة الحال ليس فقط بالنسبة لإسرائيل الصغيرة، وإنما أيضاً للأسف، فيما يتعلق بمحاولة القوة العظمى الأميركية إعادة بناء العراق، فالولايات المتحدة ورغم ما تمتلكه من قوة جبارة لم تحقق نجاحاً هناك.

من هنا فإن هدف استخدام القوة يجب أن لا يكون خلق بيئة سياسية مريحة أكثر لإسرائيل، فهذا هدف غير واقعي. ما نستطيع عمله حقاً هو المس بقدرات أعدائنا. يتعيّن على إسرائيل التركيز على إحباط قدرات أعدائها في استخدام القوة ضد أهداف إسرائيلية، مدنية أو عسكرية. يجب إحباط قدرة الأعداء على إيلام إسرائيل.

كذلك فإن هدف استخدام القوة يمكن أن يكون أيضاً تشويش الأهداف السياسية التي يضعها خصومنا لأنفسهم، ولكن ليس بناء شرق أوسط جديد، فهذا الهدف أشبه بأضغاث أحلام، أو "يوتوبيا" ليس في مقدورنا إدراكها.

الإخفاق الثالث يندرج أيضاً في نطاق الأهداف السياسية، وعلى الأدق في نطاق البحث عن سبيل لإنهاء الحرب. في الأيام الأولى للحرب اقترحت وزارة الخارجية (الإسرائيلية) نشر قوة دولية في جنوب لبنان تحول المنطقة إلى منطقة لا يمكن إطلاق الصواريخ منها، وأن يغدو من الصعب أكثر على "حزب الله" العمل فيها أو انطلاقاً منها. وعلى ما أعلم فقد كان ثمة داخل المؤسسة العسكرية من أيد هذه الفكرة.

أعتقد أن فرصة قدرة القوة الدولية على تحقيق تلك التوقعات تعتبر ضئيلة للغاية، وبالتالي فإن هذا الهدف لن يتحقق. فمما لا شك فيه أن الغلبة ستكون لحزب الله إذا ما أراد العمل في جنوب لبنان وإذا ما قرر مواجهة القوة الدولية. فقد خبرنا في الماضي سيناريوهات مشابهة، وشاهدنا عجز القوات الأجنبية (الدولية) عن الصمود أمام الضغوط.

نحن نعلم أن قوات الأمم المتحدة في لبنان عاجزة عن منع تهريب الأسلحة من سورية إلى "حزب الله". ونحن نعلم أيضاً أن هذه القوات الأممية عاجزة عن منع إعادة إنتشار قوات "حزب الله" في جنوب لبنان. المسألة ببساطة مسألة وقت، أو قرار يتخذه "حزب الله" بالعمل في جنوب لبنان، وعندئذٍ فإن القوة الدولية لن تفعل أكثر من إعاقة عمل الجيش الإسرائيلي ضد "حزب الله". فنحن نصطدم الآن بمختلف أنواع المشاكل مع قوات اليونيفيل: إذ هدد الفرنسيون بإطلاق النار بطريق الخطأ على ما يبدو على قوة ألمانية في البحر، الأمر الذي تسبب بتوتر لا مبرر له في العلاقات الثنائية.

لقد شكلت القوات الأجنبية المرابطة على حدودنا مصدراً دائماً للتعقيدات. وللأسف هناك في وزارة الخارجية، والجيش الإسرائيلي أيضاً، مسؤولون كباراً ذاكرتهم قصيرة، تجدهم يلهثون خلف أفكار خادعة.

تضييع فرصة مهاجمة شبكة الصواريخ السورية

إخفاق التفكير الرابع يتعلق بجارتنا الشمالية، سورية. فقد خرجت الحكومة الإسرائيلية، خلال الحرب، عن طورها بغية تهدئة مخاوف السوريين، وقلنا لهم أثناء الحرب عدة مرات "أنتم لا علاقة لكم بموضوع حزب الله وليست لدينا أية نوايا عدوانية تجاه سورية". أعتقد أن محاولة التهدئة هذه لم تكن في مكانها. فعلى السوريين أن يعلموا بأنهم قد يكونون هدفاً لهجوم إسرائيلي نظراً لأنهم يقومون بتسليح منظمة "حزب الله" التي تقاتل ضد إسرائيل وتستنزف دمها. عند محاربة "حزب الله"، الذي يشكل الذراع الطويلة لسورية وإيران، ليس هناك من سبب يدعو لمخاطبة السوريين: "لا تقلقوا، نحن نعالج فقط موضوع "حزب الله" ولن يصيبكم أي أذى جراء ذلك". عبارات من هذا النوع توحي لدمشق أن باستطاعتها مواصلة استنزاف إسرائيل بواسطة "حزب الله" دون أن تخشى من أنها ستضطر لدفع أي ثمن.

علاوة على ذلك، ربما أضعنا خلال حرب لبنان فرصة لمهاجمة شبكة الصواريخ السورية بعيدة المدى والتي تشكل تهديداً لإسرائيل. فشبكة الصواريخ هذه تغطي معظم مساحة إسرائيل وقد سنحت خلال الحرب فرصة لمعالجة هذا التهديد.

يجب أن نتذكر دائماً السابقة التركية في تشرين الأول 1998. فالسوريون يفهمون لغة القوة. وكانت أنقرة قد وجهت في تشرين الأول 1998 رسالة واضحة لدمشق دعتها فيها للكف عن دعم وتأييد مننظمة حزب العمال الكردي (PKK) التي عملت في تركيا، وقد استجاب السوريون للمطلب التركي لإدراكهم أن ثمة قوة عسكرية كبيرة تقف خلفه. نحن أيضاً كان يتعين علينا أن نقول للسوريين في صيف العام الماضي بأن عليهم التوقف عن دعم "حزب الله"، وأن نسند الأقوال بالأفعال.

الإخفاق الخامس هو إخفاق على مستوى الفهم. إذ يبدو أن القيادة الإسرائيلية، السياسية والعسكرية، لم تفهم أو تدرك القدرة المتراكمة لصواريخ الكاتيوشا على إلحاق ضرر جسيم بإسرائيل. قبل الحرب صدرت تصريحات مُستخفة بصورايخ الكاتيوشا من قبيل "سوف يعلوها الصدأ في مخازن حزب الله". لم يكن هناك تعاط جدي مع هذا الموضوع. فضلاً عن ذلك فقد خلت وثيقة للجيش الإسرائيلي حول أهداف الحرب، سُرِّب مضمونها مؤخراً، من الإشارة للخشية أو الحاجة لحماية الجبهة الداخلية الإسرائيلية من صواريخ الكاتيوشا. ويتضح أن هناك تعاطيًا مشابه تجاه صواريخ "القسام" التي يطلقها الفلسطينيون (من قطاع غزة) على جنوب إسرائيل، وذلك بدعوى أن هذه الصواريخ "سلاح ثابت يتسبب بخسائر محدودة".

في المحصلة النهائية تحولت صورايخ الكاتيوشا إلى رمز لإنتصار "حزب الله". فقد قصفت إسرائيل بنحو 200 صاروخ في اليوم (خلال الحرب الأخيرة) وكان واضحاً للجميع أن الجيش الإسرائيلي لم يكن هو المنتصر في الحرب وإنما "حزب الله". لم تستطع القيادة الإسرائيلية فهم وإدراك الأهمية المتراكمة لهذا النوع من السلاح.

إخفاق سادس ظهر في شكل استخدام القوة. فالميل للإعتماد في شكل أساس على سلاح الجو والإحجام عن القيام بعمليات برية كان خاطئاً. بالإمكان تفهم هذا الميل، نظراًِ لأن سلاح الجو كان يمتلك تفوقاً تاماً على جميع الأعداء في الشمال، ولكن التفكير بأنه يمكن حسم الأمر بواسطة سلاح الجو كان خطأ فادحاً. كان بمقدورنا إدراك ذلك سلفاً. الولايات المتحدة قصفت العراق في حرب الخليج الأولى سنة 1991 طوال 100 يوم وفي النهاية كان لا بد من مناورة برية من أجل احتلال الكويت. في المحصلة فإن الجندي الذي يغرس الراية في المنطقة المحتلة هو رمز وإشارة النصر وليس التفوق الجوي.

إخفاق سابع يتعلق بموضوع الخسائر. فقد ظهر خلال الحرب، وهذا ليس بالأمر الجديد، إحجام كبير جداً عن زج قوات برية خشية تكبّد خسائر بشرية. عملياً فإن هذا التخوف من الخسائر لا يعبر عن الرأي العام الإسرائيلي. فقد كان الرأي العام في فترة الانتفاضة وكذلك أثناء الحرب الأخيرة مهيئاً لتحمل خسائر كبيرة. وقد لمسنا ذلك في أقوال العائلات الثكلى والناس الذين مكثوا في الملاجىء.

كان الشعور بأنه يجدر الإستمرار في الحرب رغم احتمالية وقوع خسائر وذلك من أجل إنهاء الحرب بإحراز إنتصار. فضلاً عن ذلك، يبدو لي أن ثمة هنا خرقاً سافراً للميثاق الإجتماعي الأساس الذي تقوم عليه الدولة. ووفقاً لهذا الميثاق فإن واجب الدولة، الوحيد ربما، هو توفير الأمن. هنا نجد المواطن مستعداً لأن تدس الدولة يدها في جيبه لتأخذ ضرائب، مستعداً لبذل جهوده وللخدمة في الجيش. ذلك هو الميثاق الإجتماعي الأبسط، وقد أخلت الدولة الإسرائيلية بهذا الميثاق، بل وما زالت تخل به، حسب اعتقادي، في ضوء ما يحدث في جنوب إسرائيل.

إخفاق في تشخيص الواقع

الإخفاق الثامن يكمن في تشخيص الواقع. وفي اعتقادي فإن المستويين العسكري والسياسي لم يدركا، على الأقل في البداية، أن الحديث يدور عن حرب. كانت النظرة الأولية لاستخدام القوة الإسرائيلية ورد "حزب الله" ترى كما لو أن الأمر مجرد عملية عسكرية محدودة مدتها غير واضحة بدرجة كبيرة. قرار شن الحرب كان بدون تفكير مسبق، وقد كان هذا القرار حدسياً، أو غريزياً، أكثر مما هو قرار عقلي.

أنا لا انتقد هنا قرار شن الحرب. ففي الظروف الناشئة يبدو لي أنه كان ثمة ما يبرر ويدعو للقيام برد عسكري واسع. مع ذلك ربما كان يجب التريث قليلاً والتفكير بما نريد تحقيقه. وبحسب الإنطباع الذي تولد لدي من خلال مشاركتي في محافل مختلفة في المؤسسة الأمنية أثناء الحرب، فإن الهيئات العليا لم تُعطِ رأيها حول ماهية النصر في المواجهة مع "حزب الله". لم يكن هناك فهم واضح بأن الحرب يجب ان تنتهي بانتصار إسرائيلي، وأن الحرب تُشن من أجل تحقيق النصر.

الإخفاق التاسع والأخير الذي أود الإشارة إليه يتعلق بالموضوع الأميركي. فالقادة الإسرائيليون لم يدركوا أن هذه الحرب تشكل إختباراً للحلف الإستراتيجي بين إسرائيل والولايات المتحدة.

وقد أبدى الأميركيون، وخاصة المحافظين منهم، قلقهم الشديد مما حدث للجيش الإسرائيلي في الحرب الأخيرة، وهم يطرحون أسئلة ليست بسيطة: لماذا نستثمر في إسرائيل؟! إذا كان الجيش الإسرائيلي غير قادر على معالجة أمر 3000 مقاتل من "حزب الله" فلماذا نستمر في تقديم مساعداتنا الضخمة لإسرائيل؟! إذا كان التحالف مع إسرائيل لا يؤدي إلى هزيمة أعداء الولايات المتحدة فما الجدوى منه؟!

لم يدرك الساسة الإسرائيليون أن الحرب في لبنان كانت إختباراً للعلاقة الوثيقة بين إسرائيل والولايات المتحدة. الأميركيون، الذين لاحظوا وفهموا الظروف والملابسات الإقليمية للحرب ضد "حزب الله"، اعتقدوا وأملوا في أن تلحق إسرائيل هزيمة بأتباع سورية وإيران في لبنان والذين يشكلون أيضاً أعداء لواشنطن. لقد كان النصر في هذه الحرب مهما ليس لإسرائيل وحسب، بل وللولايات المتحدة أيضاً. ومن هنا فإن الفشل الإسرائيلي في صيف العام 2006 يسيء للعلاقات المصيرية والأكثر أهمية التي تحتفظ بها إسرائيل مع القوة العظمى العالمية.

وللأسف الشديد فإنني لست واثقاً بأن الإخفاقات التي عددتها يمكن إصلاحها بسهولة، نظراً لأنها مرتبطة بتفكير سطحي مرفوض تسرب إلى أروقة وزارة الخارجية وإلى هيئات التفكير في الجيش الإسرائيلي، فضلاً عن السياسيين.

الأخطاء والقصورات العسكرية، التكتيكية والتنفيذية ربما يمكن تصحيحها بسرعة، أما خطوط واتجاهات التفكير القاصرة فمن الصعب جداً تصحيحها.

لذلك، ومن وجهة نظري، فإن ما حدث لإسرائيل في حرب لبنان الثانية يشكل سبباً للقلق.

__________________________

* البروفيسور إفرايم عنبار- مدير "مركز بيغن- السادات للدراسات الإستراتيجية" في جامعة بار إيلان. المقالة أعلاه عبارة عن محاضرة ألقيت خلال يوم دراسي في المركز وصدرت وقائعه في نشرة خاصة أخيرًا بعنوان "حرب لبنان الثانية وما بعدها". الترجمة خاصة بـ"المشهد الإسرائيلي".

Terms used:

الكاتيوشا