الصهيونية: كولونيالية أم دين

ردّت إحدى الكاتبات على مجموعة مقالات نشرتها مؤخرًا بعنوان "مسائل في الصهيونية" وادعت أن المشكلة الأساسية لأمراض إسرائيل هي الدين، أو كما عكست ذلك في العنوان الفرعي لمقالها "كيف ابتليت الصهيونية السياسية بالدين اليهودي". وكتبت هناك: "عندما ولدت الصهيونية كفكرة متنورة ومثيرة وغنية بالوعود، لم تعرف تماما كيف تفصل المستقبل الصهيوني عن الماضي اليهودي". وطرحت أسئلة مثل: "لماذا يتصرف الشعب الإسرائيلي بشكل لا يتلاءم تماما مع مجموعات كولونيالية أخرى"؟.

ردّت إحدى الكاتبات على مجموعة مقالات نشرتها مؤخرًا بعنوان "مسائل في الصهيونية" وادعت أن المشكلة الأساسية لأمراض إسرائيل هي الدين، أو كما عكست ذلك في العنوان الفرعي لمقالها "كيف ابتليت الصهيونية السياسية بالدين اليهودي". وكتبت هناك: "عندما ولدت الصهيونية كفكرة متنورة ومثيرة وغنية بالوعود، لم تعرف تماما كيف تفصل المستقبل الصهيوني عن الماضي اليهودي". وطرحت أسئلة مثل: "لماذا يتصرف الشعب الإسرائيلي بشكل لا يتلاءم تماما مع مجموعات كولونيالية أخرى"؟.

وفسّرت الغبن ضد العرب والتمييز بين اليهود والعرب في إسرائيل بالقول "انه نابع من الشذوذ الإسرائيلي الناجم عن النزعة الدينية الخاصة والتي تؤثر على دولة إسرائيل، وانضمام هذا اليسار إلى الموديل الرجعي الذي تطرحه الأرثوذكسية الدينية لإسرائيل".

ويبدو لي أن نقطة الانطلاق هذه مغلوطة تماما مع أن هناك إمكانية لاستيضاح العلاقة بين الصهيونية والدين في تبلور القومية الإسرائيلية.

لا توجد في اعتقادي إمكانية حتى للبدء في فهم المجتمع الإسرائيلي دون الاعتراف بأن الكيان الإسرائيلي ولد ضمن سيرورة كولونيالية، وبناء على ذلك فحتى الخروج من الورطة يجب أن يبدأ بسيرورة معادية للكولونيالية. أما جعل كل السلبيات الأرثوذكسية الدينية أساسا وتحميلها مسؤولية كل أحابيل الكولونيالية الصهيونية عبر تنظيفها، فهو أمر لا يستند إلى أية حقائق، وهو بكل بساطة افتراء على التاريخ.

يجب التذكير بحقائق أساسية في هذا السياق: الدين الممأسس- الأرثوذكسي- عارض كليا الصهيونية منذ بدء ظهورها. والسبب الظاهر كان أن المؤسسة الدينية تخاف فقدان السيطرة على المهاجرين- وهي عارضت كذلك الهجرة لأميركا وأوروبا الغربية، وبحق من ناحيتها فغالبية هؤلاء المهاجرين خسرهم الدين الأرثوذكسي.

هذا هو السبب الواضح، ولكن هناك أيضا سبب أعمق بكثير وهو أن الصهيونية كانت حركة قومية جرى "تبنيها" من "الأغيار" أي أنها حركة نمت من الحركات القومية الأوروبية في ذلك الوقت. وتلك الحركات قامت على خلفية ضعف الدين الذي تسلط على الأفكار في عهد ما قبل الرأسمالية. فالحركات القومية تطورت على خلفية ظهور الحضارة الأوروبية التي استبدلت الدين كفكر متسلط وحاكم، وبين اليهود تطورت على خلفية حركة "الهسكلاه". وإن اليهود الذين تحرروا من الدين انضموا إلى حركات قومية. وهذا ما كان في كل البلاد الأوروبية وهذا ما كان كذلك بالنسبة للعلاقة مع الصهيونية والتعامل معها.

غالبية الصهاينة الأوائل كانوا علمانيين من موشيه هس حتى هرتسل ونورداو وفاربورغ واوبنهايمر وبودنهايمر في ألمانيا (وكان قادة الصهيونية الألمانية ذوي تأثير كبير جدا في السنوات الأولى للحركة الصهيونية العالمية). وهكذا هو الأمر بين يهود روسيا في تلك الأيام: احاد هعام (اشر غينتسبرغ) واوسيشكين وبنسيكر وموتسكين، وكذلك قادة الهجرة الثانية، بن غوريون وبن تسفي وبيرل كتسنلسون ويتسحاق طبنكين وغيرهم. كلهم كانوا علمانيين وغير متدينين.

مرة أخرى يتضح أن الصهيونية لم تنبت من داخل اليهودية أو الدين اليهودي إنما بالذات من العلاقة مع البيئة غير اليهودية، وبتأثير الشعوب التي عاش بينها اليهود. وخلافا للادعاء الذي يطرح أحيانا، فليس اليهود الذين صلوا خمس مرات في اليوم لمجيء "المسيح" والرجوع إلى القدس، إنما بالذات أولئك الذين لم يصلوا هم من صاروا صهاينة.

وليس من باب الصدفة أن الحركة الصهيونية لم تتطور في أوساط يهود الشرق البعيدين عن الحداثة الأوروبية وعمليات العلمنة.

هناك نسبة قليلة من اليهود المتدينين انضمت إلى الصهيونية وأطلق على هذا التيار بحق اسم "الصهيونية الدينية" (وليس "الدين الصهيوني"). والراب راينس، مؤسس حركة "همزراحي" الصهيونية الدينية، وضع الصهيونية الدينية في الجانب المعتدل من الصهيونية، وقد فرق بين الصهيونية والمسيانية ودعم برنامج أوغندا.

الصهاينة لم يكونوا متدينين لكنهم كانوا متحمسين بشدة للأساطير اليهودية ومنها استمدوا الأساس للصهيونية، على الرغم من عدم إيمانهم بالدين. هذه الظاهرة لم تكن مميزة أو مختلفة عما هو دارج في الحركات القومجية حينئذ. وتلك الحركات أيضا أوجدت ومجّدت أبطالا ميثولوجيين قدر ما استطاعت. فقد أوجد الفرنسيون أسطورة رونالد، والألمان ارمينيوس والانجليز الملك ارثور. وبشكل مشابه تبنى الصهاينة غير المتدينين قصص التوراة لخلق أيديولوجيا وهستوريوغرافية صهيونية.
الجانب الكولونيالي للصهيونية تكوّن عندما تحولت الهجرة إلى فلسطين إلى واقع ملموس. وتحولت الصهيونية إلى كولونيالية، أي أنها تستوطن على حساب السكان الأصليين، مع استمرار تحققها في فلسطين. والصهيونية لم تكن متميزة بذلك، كونها تبنت الرأي الذي ساد في أوروبا الامبريالية في ذلك الوقت والذاهب إلى انه يمكن الاستيطان في كل مكان عبر البحر غير آخذين بعين الاعتبار الشعوب في تلك الأماكن.

وهنا أيضا وجدت الصهيونية اللغة المشتركة جدا للمستوطنين الكولونياليين في كل العالم بالنسبة لاعتبار أهل البلاد الأصليين من الرجعيين والمتخلفين من ناحية ثقافية وعديمي الإبداع وخونة، وليسوا من بني البشر وما شابه ذلك.

كل تلك المصطلحات جاءت لتبرر سلب الأرض والطرد والإبادة ومصادرة الأرض من الشعوب الأصلية. فلا مكان إذن للاستغراب من تصريحات مؤسس الصهيونية، هرتسل، الذي كتب في كتابه "دولة اليهود" ما يلي: "نحن سنكون هناك جزءا من الحصن الأوروبي ضد آسيا، وموقع تحصن مقابل البربرية". وأضاف: "سيقال إن الفقراء فقط سيجيئون معنا لكن هؤلاء بالذات هم الذين نريدهم في البداية. اليائسون فقط سيكونون محتلين جيدين". ونورداو، صديق هرتسل، ذكر في خطابه في المؤتمر الصهيوني الأول الآسيويين والأفارقة المتآكلين! والاشتراكي بوروخوف وجه إليهم وصف "الجيران شبه البرابرة".

تلك التصريحات كانت تصريحات عنصرية عميقة نطق بها كولونياليون من كل الأنواع ضد الشعوب التي استعبدوها ونبعت من واقع الاحتلال والتسلط على الشعوب الأصلية وليس بدوافع دينية. وهكذا كان أيضا في الكولونيالية الصهيونية وقبل أن يتسلط الدين الأرثوذكسي ظاهريًا على "الصهيونية المشرقة" بكثير.

ولقد انضم الدين اليهودي للصهيونية في مرحلة متأخرة جدا. وهرتسل أراد توسيع قاعدة دعم الصهيونية و"امتلاك" يهود متدينين، ولكن بدون كثير نجاح. وعلى شرف المؤتمر الصهيوني في بازل بذل المنظمون جهدا لكي يجلس الربانيم على المنصة وفتشوا عن راب أرثوذكسي يرتدي القفطان الطويل والأسود كزينة تجميلية.

في كل سنوات تكوّن الصهيونية وما بعد ذلك، فإن الصهيونية الدينية لم تقم بدور هام وبالتأكيد لم تقم بأي دور قيادي في الحركة الصهيونية حتى قيام الدولة وبالأحرى حتى حرب حزيران 1967. لقد كانت الصهيونية الدينية تابعة بالذات للجزء الأكثر اعتدالا في المستوطنات وفي الدولة. وفي العهد الصهيوني الطلائعي قلّد المتدينون جيدا الحركات الصهيونية العلمانية. وهذا اتضح كذلك من خلال أسماء حركاتهم، ففي اليسار الصهيوني كانت لهم أسماء "هبوعيل هتسعير" (العامل الشاب) و"حزب عمال أرض إسرائيل"، وفي القطاع الصهيوني المتدين نجد أسماء مثل "هبوعيل همزراحي" (العامل الشرقي) وحتى "عمال أغودات يسرائيل". والى جانب الكيبوتسات والقرى التعاونية التابعة لحركة العمل قامت أيضا قرى وكيبوتسات تابعة "للعامل الشرقي" و"عمال أغودات يسرائيل".

لقد كانت الصهيونية الدينية شريكة في أهداف وممارسات الصهيونية، وفي الجدل حول أوغندا دعم الراب راينس مواقف هرتسل من اجل البرنامج. وفي وقت لاحق جدا دعم همزراحي برنامج التقسيم الذي اقترحته لجنة بيل في عام 1937 وقرار التقسيم للأمم المتحدة في عام 1947، وظهرت القومجية التي تقدس الأراضي كمغتربة عن القيم اليهودية. وفي منظمات مثل "بريت شالوم" (حلف السلام) فإن عدد الصهيونيين المتدينين كان كبيرا نسبيا. حتى أن شخصية مثل بروفيسور ليبوفيتش تندرج في هذا الإطار. ومع قيام الدولة كانت الصهيونية الدينية برئاسة ي. شبيرا بشكل عام على يسار "مباي" وبن غوريون، حتى أن الراب ابراهام يتسحاق هكوهين كوك، الأب الروحي للمستوطنين حاليا، انسجم عمليا في التيار الصهيوني العام عندما رأى في أعمال العلمانيين مدنّسي القيم (اليهودية) وأساسا الطلائعيين منهم "قدسية عليا". وحسب رؤيته الثيولوجية فإن العلمانيين سيبنون الدولة المادية. وفقط بعد ذلك يأتي دور المتدينين (كطالب في "هشومير هتسعير" يذكرني هذا بنظرية المراحل لمئير يعاري: في البداية نبني الدولة وفي المرحلة الثانية يأتي دور الثورة الاشتراكية).

حسب كل هذا هناك مكان للسؤال: متى نجح المتدينون في نقل أمراضهم إلى الصهيونية السياسية؟ هل يمكن أن الانعزالية الصهيونية عن المواطنين العرب وخلق مجتمع منافس لهم في فلسطين مصدرها في تطبيق أسس الدين اليهودي؟

لهذا الافتراض أيضا لا يوجد أساس تاريخي فالحركات الاستيطانية الصهيونية بقراها وكيبوتساتها العلمانية لم يخطر ببالها إطلاقا استيعاب فلسطينيين. وقد تصرفت بالضبط كما عمل بجهد كولونياليون في العالم كله دائما لإقامة جدران بينهم وبين السكان الأصليين. لنأخذ مثلا آخر للعزلة الصهيونية: "الكيرن كييمت"، فهي كما هو معروف منعت منذ البداية بيع أراض لغير اليهود. ولم توافق على إقامة بلدة غير يهودية على أراضيها، فهل سلكت كذلك من منطلقات دينية؟ لا يوجد أساس لذلك. فقد تأسست "الكيرن كييمت" من قبل يهود علمانيين حسب نموذج صناديق أرض مشابهة كانت في الموضة في نهاية القرن التاسع عشر في ألمانيا القيصرية وكان هدفها التسلط على أراضي الفلاحين البولونيين أو منع جعل تلك الأراضي في أيدي البولونيين، أي أنه هدف محلل ومفهوم لكل توسع كولونيالي..

ومن النماذج المعروفة للفصل بين عمال يهود وعرب كان الشعار "احتلال العمل"، وهذه كانت حركة تأسست من قبل حزب "هبوعيل هتسعير" وهدفها تزويد العمل للعمال اليهود الذين لا عمل لهم ومن خلال طرد العمال العرب الذين اشتغلوا عند اليهود، ولهذه السياسة أيضا لم تكن أية علاقة بالدوافع الدينية فأصحاب البساتين اليهود فضلوا العمال العرب لأنهم كانوا ارخص ومتعودين على العمل الزراعي أكثر من اليهود أما القادمون الجدد و"هبوعيل هتسعير" فقد فضّلوا بالذات التأكيد على النظرة الصهيونية: "الشرط الأساسي لتحقيق الصهيونية هو احتلال مجالات العمل في البلاد من قبل اليهود".

وفي خاتمة المطاف فان "احتلال العمل"، فشل بشكل ذريع فقد تواصل تشغيل العرب في المستوطنات حتى ولو بأجر زهيد، وفي أماكن عمل غير مهنية، وهذا بشكل مناف تماما للادعاء وكأن اليهود لم يشغلوا العرب من منطلقات دينية وخلافا لمصلحتهم العامة.

كذلك فإن الادعاء بان اليهود سلكوا خلافا لمستوطنين أوروبيين في دول أخرى لا أساس له إطلاقا، إلا إذا كانوا يريدون خلق "شذوذ" ملفّق. ففي كل مكان درجوا على الفصل بينهم وبين السكان المحليين والبيض. وبالطبع كانت هناك فوارق بين الكولونيالية الصهيونية وبين الكولونيالية في دول أخرى كما تتطلب ذلك الشروط المختلفة في دول أخرى ولكن عدا عن انه لم تكن قوة امبريالية متجانسة وقفت من خلف المستوطنين الصهاينة (مع أنه توجد سوابق في الكولونيالية الأوروبية الأخرى) فقد كان هناك شبه كبير بين الكولونيالية في فلسطين وتلك المسيطرة في باقي الأماكن.

إن جدعون شفير الذي ألف كتابًا شاملا وأساسيًا عن الكولونيالية الصهيونية يلخص ذلك كما يلي: "في الأساس كان هناك شبه رئيسي بين أهداف الهجرة الثانية وبين أهداف مستوطنين بيض في أماكن أخرى، أي مستعمرات هدفوا فيها إلى تأليف مجموعة سكانية متجانسة من المستوطنين المهاجرين". ويمكن بوجه خاص الاتفاق مع شفير عندما كتب أن الفصل بين اليهود والعرب كان "النتيجة" وليس "السبب" للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني.

هذا هو واقع الكولونيالية الصهيونية وهو ليس نابعا إطلاقا من اعتبارات دينية إنما من المنطق الداخلي للكولونيالية التي جاءت للتسلط على الشعب الذي وجد في المكان.

إن المشاعر المعادية للمتدينين في أوساط الجمهور اليوم متأثرة بالطبع، عدا عن الإكراه الديني بحد ذاته، من الاستيطان الديني البلطجي في المناطق المحتلة على مدى 40 سنة بالتقريب. وقد استعمل المستوطنون الدين كتبرير وحتى كأمر ووصية من أجل سلب الأرض والقمع والتسيّد. لكن حتى هنا من المهم ذكر أن الدافع الأول لتأسيس حركة "أرض إسرائيل الكاملة"، جاء من الجانب اليساري العلماني للمجتمع الإسرائيلي. فإن نتان الترمان وعائلة طبنكين من الكيبوتس الموحد انضما إلى يغآل الون وشمعون بيريس، وهم الذي منحوا الشرعية "لغوش ايمونيم"، وهم الذين أدخلوهم إلى البهو الإسرائيلي. وهنا أيضا يجب الإشارة إلى أن "مشروع" الاستيطان هو من بدايته احتلالي واستعلائي والعنصر الديني فيه هامشي. وقد أجاد وصف ذلك الصحافي يائير شيلغ في "هآرتس" بتاريخ 3/3/2005، عندما كتب تحت عنوان"تزمت صهيوني ليس بالذات دينيا" يقول إنه في قطاعات من الصهيونية الدينية تحولت القيم الصهيونية نفسها، كالاستيطان، لمواقف ذات صبغة أرثوذكسية أقوى من كل مبدأ شرائعي.

إن رغبة الكاتبة التي ردّت عليّ بالفصل بين الدين والدولة ورغبتها في مجتمع لكل مواطني الدولة مفهومة، ولكن هذا النضال ونجاحه مرتبطان بالمعركة ضد الاحتلال وضد أن تكون إسرائيل كولونيالية، ولكن إذا كانت تلك الرغبات مقرونة بالموافقة على الاحتلال فإنها تفقد طابعها التقدمي والليبرالي.

معاداة الدين غير المقرونة بالسعي لإنهاء الاحتلال تصير متشابهة مع سياسة يوسيف (طومي) لبيد. فهو كذلك يسعى لفصل الدين عن الدولة، إلا أن الاحتلال بالذات لا يزعجه.

(*) كاتب وناشط يساري