العلاقة بين الطبقية والقومية والحق في المسكن

في شهر آب 2004 اتخذ مجلس دائرة أراضي إسرائيل القرار رقم 1051 في موضوع "إجراءات التوصية بخصوص قبول المرشحين لامتلاك حقوق استئجار طويل الامد، في الأراضي في البلدات الزراعية والبلدات الجماهيرية". تُخوّل هذه الإجراءات لجان القبول في البلدات الجماهيرية الصغيرة والبلدات الزراعية اخذ بعض المعايير بالحسبان عندما تقدم توصياتها بخصوص قبول أو رفض المرشحين الذين يرغبون بالسكن في هذه البلدات

في شهر آب 2004 اتخذ مجلس دائرة أراضي إسرائيل القرار رقم 1051 في موضوع "إجراءات التوصية بخصوص قبول المرشحين لامتلاك حقوق استئجار طويل الامد، في الأراضي في البلدات الزراعية والبلدات الجماهيرية". تُخوّل هذه الإجراءات لجان القبول في البلدات الجماهيرية الصغيرة والبلدات الزراعية اخذ بعض المعايير بالحسبان عندما تقدم توصياتها بخصوص قبول أو رفض المرشحين الذين يرغبون بالسكن في هذه البلدات. صيغت شروط القبول، للوهلة الأولى، بشكل حيادي، وحددت إجراءات تكنوقراطية، يفترض فيها أن تستبعد الشبهات بخصوص التوجهات الاعتباطية. على الرغم من ذلك، أدّعي بدوري أن "المهنية" التي تعكسها هذه الشروط ما هي إلا أداة طيّعة لخدمة مضامين ذات إشكالية، تُعزّز من الناحية العملية إقصاء المواطنين على خلفية الانتماء القومي، أو الطبقة الاجتماعية- الاقتصادية.

يبرز من بين شروط القبول التي وضعت لهذه البلدات معياران اثنان بشكل واضح جدا. يتوجب على المرشح، حسب المقياس الأول، أن يملك " قدرة اقتصادية على إقامة بيت في البلدة، خلال الفترة التي حددتها اتفاقية التطوير مع الدائرة". وحسب المقياس الثاني، يتوجب على المرشح أن يكون ملائما للحياة الاجتماعية في مجتمع صغير داخل بلدة جماهيرية أو زراعية. ولإزالة الشبهات حول اعتباطية هذا القرار، تستلزم الإجراءات توجيه المرشحين الذين "يشتبه" بعدم ملاءمتهم، إلى معهد خاص، يحدد الأخصائيون فيه إذا ما كان المرشحون يلائمون الحياة الاجتماعية داخل مجتمع صغير أم لا. إضافة إلى ذلك، تضمن هذه الإجراءات مبدأ التمثيل، بهدف خلق التوازن بين مصالح المجموعات المختلفة، وضمان شراكة حقيقية في اتخاذ القرارات. وتحدد، بناء على ذلك، أن تتشكّل عضوية لجان القبول من: "في البلدة الجماهيرية [....]: صاحب منصب مرموق من قبل الموطّنة (الوكالة اليهودية أو الهستدروت الصهيونية)، صاحب منصب مرموق في وزارة البناء والإسكان، ممثل الجمعية التعاونية، ممثل المجلس الإقليمي وممثل الحركة الموَطّنة- في البلدات ذلت الصلة.[...] في البلدة الزراعية تكون تركيبة لجنة القبول حسب ما يتم تحديده من قبل مؤسسات الجمعية".

وطُرِحَ، في معرض تسويغ هذا القرار، ما يلي: "تقف في أساس إجراءات القبول، والتوصية بتخصيص الأرض وامتلاك حقوق فيها، أهمية التماسك الاجتماعي، العطاء للمجتمع، والملاءمة لأسلوب الحياة في البلدات الزراعية والبلدات الجماهيرية، التي تشمل أقل من 500 بيت مأهول، والتي [البلدات] تقام من قبل الوكالة اليهودية لأرض إسرائيل أو الهستدروت الصهيونية العالمية".

يسري هذا القرار على البلدات اليهودية المتّحدة في 44 مجلسا إقليميا، والتي تسيطر على ما يقارب 80% من مساحة الدولة . ويسكن هذه البلدات حوالي 10% من سكان الدولة، أما المؤشر الاجتماعي- الاقتصادي لغالبية هذه المجالس الإقليمية فهو بين المتوسط والمرتفع (عنقود 5-10).

ظاهريا، تطبّق لجان القبول إجراءات منظّمة وشفافة ومهنية في اختيار المرشّحين، لكن فعليا، يستدل من المعطيات أن عملية الغربلة تتم حسب القومية والمكانة الاجتماعية- الاقتصادية، وحسب الخلفية الاثنية (يهود من أصل شرقي، غربي، أثيوبي، روسي والخ ...). يسكن في البلدات القروية التي يسري عليها القرار حوالي 475500 من اليهود، 53600 منهم فقط من أصل آسيوي، وحوالي 70400 من أصل شمال إفريقي.

يعاني المجتمع الإسرائيلي من شرخ على أساس قومي وإثني (خلفية اثنية- ثقافية). في مجتمع كهذا، لا يمكن لمصطلحات مثل " التماسك الاجتماعي" و"الملاءمة للحياة الاجتماعية في البلدة" أن تتحلى بالحيادية. تشكّل اللغة والهوية القومية والثقافة مركبات بارزة في التباين بين اليهود والعرب. وبسبب وجود هذا الشرخ القومي، لن يستوفي المرشحون العرب مقاييس التماسك أو التلاؤم الاجتماعي، ويتوقع أن ترفضهم لجان القبول مستقبلا دون أن تتطرق لهويتهم القومية بشكل صريح. ولا يملك المرشحون العرب أي فرصة قبول لهذه البلدات، لأسباب إضافية كوجود ممثلين عن "الحركات الموَطِّنة" في هذه اللجان، وغياب الممثلين العرب عنها، وعدم النشر حول هذه البلدات في صفوف المواطنين العرب، والتخطيط لهذه البلدات لأن تكون بلدات يهودية. تبتغي كل هذه الممارسات قبول المرشحين اليهود فقط، ولا تتوفّر أي نية صادقة وحقيقية لمنح فرصة متساوية لجميع المواطنين.

هل يشكّل التباينان القومي والثقافي، اللذان قد يحبطا "الملاءمة الاجتماعية"، مبررًا كافيًا لإقامة بلدات منفردة على خلفية قومية؟

أعتقد أن الإجابة على هذا السؤال هي بالسلب، فنقطة الانطلاق الجديرة الوحيدة في هذه المسألة لا ترتكز إلى اعتبارات قومية، إنما على مبدأ العدل المصحِّح، أو باللغة السائدة، على التفضيل المصحّح. وحسب نقطة الانطلاق هذه، يتوجب على السلطات أن تمارس سياسة تفضيل مصحّح في مواجهة التمييز والغبن التاريخيين، وسياسة تعمل على تحقيق المساواة الجوهرية، أو المضي فيها قدما على الأقل.

أولا، لا يوفر الفصل على خلفية قومية، استجابة للتمييز الطبقي، الذي يرتبط بشرخ الخلفية الاثنية. وتشير المعطيات إلى أن الأصل الإثني للمرشح اليهودي يشكل اعتبارا حاسما في قرارات لجان القبول للبلدات الجماهيرية؛ ويتم تمويه وإخفاء هذا الاعتبار من خلال التسويغ الغامض بعدم الملاءمة الاجتماعية، أو من خلال منح الوزن الحاسم للمكانة الاجتماعية- الاقتصادية للمرشّح، بخلاف مبدأ العدل التصحيحي. ويتعارض مبدأ "التماسك والملاءمة الاجتماعية- الاقتصادية" مع مبدأ المساواة لأنه يوسع الفجوات بدل تقليصها.

ثانيا، مبدأ العدل التصحيحي هو الذي يسوغ إقامة البلدات على أساس قومي عندما يدور الحديث عن أقلية قومية. ويجدر التوسع في هذا الموضوع.

توضح روت غابيزون، في مقالها بعنوان " صهيونية في إسرائيل؟ في أعقاب قرار المحكمة العليا في قضية قعدان" انه يحق للأغلبية اليهودية أن تشعر بالانتماء في بيئة ثقافية- لغوية وهَويّاتية داعمة، وتؤيد حق الأفراد الذين ينتمون للأغلبية باختيار أماكن السكن التي تحمل طابعا ثقافيا ملائما، وبيئة مريحة تحدد بدورها جزءا مهما من الهوية. من هنا، وحسب ادعائها، يمكن لـ"المميزات الخاصة" للبلدة أن ترتكز إلى عوامل مجتمعية وهوياتية. وحسب غابيزون، تشكّل سياسة الفصل على أساس الهوية الثقافية، أداة مشروعة بيد الأغلبية اليهودية من أجل المحافظة على هويتها اليهودية في دولتها، حتى لو اعتمدت سياسة الفصل هذه على مركبات قومية، كما يحصل في إسرائيل.

أدعي من ناحيتي، ردا على أقوال غابيزون، أن الأغلبية اليهودية تملك السيطرة الكاملة على جميع مؤسسات الدولة، بما في ذلك المؤسسات الثقافية والتربوية؛ وأنها تملك ناصية الثقافة المهيمنة، وتسيطر على رموز الدولة، وعلى كل ما يمكنه ضمان يهودية الدولة بالمفهوم الديمغرافي والجغرافي والثقافي. ليس واضحا، إذًا، من أين تستقي غابيزون المصادر لحق الأغلبية الخاص بالمحافظة على هويتها الثقافية. ترتبط التسويغات التي تطرحها غابيزون، في جوهرها، بمبدأ العدل التصحيحي، لكن هذا المبدأ أعدّ لتعزيز وتطوير مجموعات الأقلية والدفاع عن حقوقها، وليس لخدمة الأغلبية المسيطرة. وبديهي أن سياسة التفضيل المصحح تنتهج عادة من قبل المجموعة المهيمنة تجاه المجموعات التي عانت من الغبن والتمييز لفترة طويلة. لكن منهج غابيزون في المقابل، يوفِّر الشرعية للمجموعة المهيمنة في منحها لنفسها امتيازات متعددة من اجل المحافظة على جودتها أو أفضليتها، مما يفرغ مبدأ حظر التمييز من جميع مضامينه.

يعتبر مبدأ العدل التصحيحي كالخارج عن القاعدة لمبدأ حظر التمييز، وبكلمات أخرى، هنالك حظر على التمييز على خلفية الانتماء القومي والعرقي والجندري وما شابه، إلا بغرض تدعيم وتعزيز المساواة بعينها (مثل تقليص الفجوات أو التمثيل اللائق). وليس من قبيل الصدفة أن لا يشتمل القانون الدولي على الاعتراف بحق الأغلبية المهيمنة بالمحافظة على ثقافتها عن طريق الفصل. يتوافر هذا الحق لمجموعات الأقلية القومية واللغوية والثقافية أو الإثنية، كجزء من حقها في الحفاظ على هويتها وأسلوب معيشتها و"منع ذوبانها القسري". الفرضية هي أن الأقلية تعاني من خطر فقدان هويتها وثقافتها، والخضوع لثقافة الأغلبية، وعليه، وبالرجوع إلى مبدأ العدل التصحيحي، ومن أجل تدعيم وتعزيز مبدأ المساواة بين الثقافات والهويات المختلفة، تُمنَحُ الأقلية بالذات حق المحافظة على ثقافتها من خلال الفصل، كما فُصِّل في المادة 27 للمعاهدة الدولية حول الحقوق المدنية والسياسية.

من هنا يُسوّغُ مبدأ العدل التصحيحي إقامة بلدات للعرب، لكنه لا يسوغ إقامة بلدات لليهود فقط.

وعلى الرغم من ذلك، حتى في هذه الحالة، يضع مبدأ العدل التصحيحي أمام الأقلية القومية عددًا من المطالب ويحظر التمييز على أساس اجتماعي- اقتصادي أو على خلفية طائفية داخل بلدات الأقلية القومية. وحتى عندما تقام بلدات عربية لا يوجد مبرر لإنشاء بلدات عربية للأغنياء فقط. تبرر هذه المسوّغات إلغاء امتحانات "الملاءمة" التي تقود إلى التمييز على خلفية طبقية.

يتضح مما ذكر أعلاه، ان القرار 1015 لمجلس دائرة أراضي إسرائيل ما هو إلا محاولة أخرى للالتفاف على مبادئ المساواة والعدل التوزيعي، التي حُدِّدُت في قرارات المحكمة العليا في قضية قعدان. وفي قضية "هكيشت هديموكراطيت همزراحيت" (القوس الديمقراطي الشرقي).

يزداد تطرف قرار الدائرة حدة، إزاء الحقيقة بأن الحديث يدور عن توزيع كمية كبيرة جدا من الأراضي (كما ذكرنا- ما يقارب 80% من مساحة الدولة)، بما يتجاوز مبدأ العطاء العلني المفتوح. يصبح الاستثناء- إذا- هو القاعدة، وتتحول منظومات الغربلة التي أُعدّت ظاهريا لضمان التماسك الاجتماعي، إلى جهاز لتوزيع معظم موارد الأرض في الدولة بمنأى عن مبادئ المساواة المتعارف عليها، والتوزيع العادل للأراضي.

حددت المحكمة العليا في قرار حكمها في قضية "هكيشت همزراحيت" العدل التوزيعي كمبدأ أساسي. على الرغم من ذلك، يتوجب تطوير هذا المبدأ كي يصبح بالإمكان إسقاط الإجراءات التي تمكن مجموعة صغيرة نسبيا من المواطنين اليهود، ممن ينتمون للطبقة الاجتماعية - الاقتصادية المتوسّطة حتى العليا، من السيطرة على موارد الأرض، وتقوم لهذا الغرض بعملية الغربلة على خلفية اجتماعية، واقتصادية وقومية أو اثنية. ويجسد قرار رقم 1015 الذي اتخذه مجلس دائرة أراضي إسرائيل، بشكل فعلي، الأهمية الفائقة في ربط مبدأ المساواة التصحيحية بمبدأ العدل التوزيعي.

(*) الكاتبة حقوقية تعمل في "عدالة"- المركز القانوني لحقوق الأقلية العربية في إسرائيل