الجدار وخطة فكّ الارتباط

لا يستطيع المرء أن يتحدّث عن السّياسة الدولية، في عصر العدل المعولم وإقامة المحكمة الجنائيّة الدوليّة، من دون الإشارة إلى القانون، بشكل عام، وإلى القانون الإنسانيّ الدولي وقانون حقوق الإنسان، بشكل خاص

لا يستطيع المرء أن يتحدّث عن السّياسة الدولية، في عصر العدل المعولم وإقامة المحكمة الجنائيّة الدوليّة، من دون الإشارة إلى القانون، بشكل عام، وإلى القانون الإنسانيّ الدولي وقانون حقوق الإنسان، بشكل خاص.

يجب على القرارات السياسية أن تخضع، وهي تخضع فعلاً، لتدقيق قانوني في أرجاء العالم، بما في ذلك في الشرق الأوسط، ولا تعتبر سياسات إسرائيل في المناطق الفلسطينية المحتلّة استثناءً من هذه الناحية. وتقوم العديد من المؤسّسات برصد انتهاكات القانون الدولي الإنساني المرتكبة في المناطق الفلسطينية المحتلّة وانتقادها، بما في ذلك لجنة حقوق الإنسان التّابعة للأمم المتحدة، الجمعيّة العامة، السكرتير العام للأمم المتحدة، مجلس الأمن ومؤخرًا المحكمة الجنائيّة الدولية، إضافةً إلى منظّمات حقوق الإنسان العالميّة على المستوى الدولي؛ والمحكمة العليا الإسرائيلية ومنظّمات حقوق الإنسان الإسرائيلية والفلسطينية، على المستوى المحلّي.

لقد أدّى الاحتلال الطويل الأمد إلى ضرورة وجود معاينة قضائيّة متواصلة للسياسات المختلفة، بعضها يشبه الممارسات التي تبنّتها الأطراف الضالعة في نزاعات أخرى، وبعضها مألوف على نحو أقلّ (الاغتيالات، تدمير الأملاك الخاصة على نطاق واسع، بما في ذلك هدم المنازل، اقتلاع أشجار الزيتون وفرض نظام إغلاق شديد الإحكام)، لكن يتمّ تنفيذ جميع الممارسات باسم الأمن والضرورة العسكرية.

السّيرورات السياسية والقانون الإنساني الدولي

كما رأينا خلال فترة أوسلو قد تساهم حتّى المبادرات السياسية ذاتها، بغضّ النظر عن النية الحسنة الكامنة وراءها، بشكل غير مباشر، في زيادة انتهاكات القانون الإنساني الدولي، وبالتالي في تصعيد العنف. للأسف يتساءل اليوم الكثير من الناس، بصدق، ما إذا كان حلّ الدولتين ممكنَ التحقيق فعلاً أم لا. إنّ انتهاكات القانون الإنساني الدولي هي عامل رئيس في المستوى الأدنى من السيطرة التي يمارسها الفلسطينيون على أراضيهم ومواردهم الطبيعية، وإنّ هذه السيطرة هي شرط مسبق لإقامة دولة مستقلّة دائمة.

تبرز اتفاقيّات أوسلو الحاجة إلى ضرورة أخذ القانون الإنساني الدولي بالحسبان عند التحضير للاتفاقيات الدوليّة، وقبل تأييد مبادرات سلام مشابهة. وكما أثبتت التجربة فإنّ عدم العودة إلى المعايير الدوليّة ترك العديد من نواحي الحياة المدنيّة وأداء المهام الحكومية ضمن حرية تصرف القوة المحتلة.

إحدى نقاط الضعف البنيويّة الواضحة في اتفاقيات أوسلو، التي أدّت في النهاية إلى تقويض حماية المدنيين بموجب القانون الإنساني الدولي، هي تقسيم مناطق الضفّة الغربية إلى ثلاث فئات تمثّل مستويات المسؤولية المدنية والأمنية المختلفة: المنطقة أ، التي تقع ضمن مسؤوليّة السلطة الوطنية الفلسطينية المدنيّة والأمنيّة بشكل كامل؛ المنطقة ب، التي تتولّى فيها السلطة الفلسطينية مسؤولية الشؤون المدنية بينما تتولى إسرائيل مسؤولية القضايا الأمنية؛ والمنطقة "ج"، التي تشكّل 60 % من الضفّة الغربية، والتي أبقيت تحت سيطرة إسرائيل المدنيّة والأمنيّة.

إن تقسيم السلطة لم يتح لنظام الإغلاق التأثير سلبيًا على المنطقتين "ب" و"ج" فحسب، وإنّما على المنطقة "أ" أيضًا، وهي المنطقة التي يقيم فيها أغلبيّة السكان الفلسطينيين. وتمّ بناء الحواجز المعزّزة بالجنود، العوائق الإسمنتيّة، التلال الترابيّة والخنادق في مواقع كانت تفصل سابقًا بين المناطق "أ"، "ب"، "ج"، الأمر الذي أدّى عمليًّا إلى تطويق المنطقة "أ". مسار الجدار، الذي يشكّل في جوهره جزءًا من سياسة الإغلاق، يتبع مسار الحدّ الغربي للمنطقة "ج"، ضامًّا المستوطنات المقامة في تلك المنطقة.

لا يقتصر تأثير تجزئة أراضي الضفّة الغربية على إعاقة الحركة فحسب: في الوقت الذي تتمتّع فيه السلطة الفلسطينية بسلطة مدنية في المنطقتين "أ" و "ب"، فإنّ معظم الأراضي في الضفّة الغربية يبقى تحت سيطرة الإدارة المدنيّة الإسرائيلية في المنطقة "ج". وبذلك، وعلى الرّغم من أنّه تم نقل مسؤوليات التّعليم في المنطقة "ج"، إضافة إلى المنطقتين "أ" و "ب"، إلى السلطة الفلسطينية، إلا أنّ هذه السلطة لم تتمكّن، حتّى الآن، من بناء مدارس جديدة في هذه المناطق، لأنّ ذلك يتطلّب موافقة إسرائيل، وفقًا للاتفاقيّات. ويتمّ منح مثل هذه الموافقة، في حال تمت الموافقة على منحها أصلا، في حالات استثنائيّة فقط. إنّ سيطرة إسرائيل على المنطقة "ج" تتيح لها متابعة سياسة هدم المنازل الإدارية وغير القانونيّة، بذريعة انعدام تصاريح البناء، ومواصلة توسيع مشروعها الاستيطاني غير القانوني.

في السنوات الأولى من اتفاقيّات أوسلو تمحورت معظم الانتقادات الدولية الموجّهة إلى إسرائيل حول انتهاكاتها لاتفاقيّات أوسلو ذاتها، بدلاً من التمحور حول انتهاكاتها للقانون الإنسانيّ الدوليّ. لم تشمل اتفاقيّات أوسلو معايير القانون الإنساني الدولي وحقوق الإنسان الضرورية لضمان التقيّد بالمبادئ القانونية الأساسية، حتى في أوقات الصراع. وهكذا، فإنّ الخيار الوحيد الذي بقي أمام ضحايا الحرب هو العودة بشكل متواصل إلى المصادر القانونيّة خارج الاتفاقيات الرسميّة. وعلى الرّغم من أن المادة 47 من معاهدة جنيف الرابعة تحمي بوضوح حقوق الأشخاص المحميين من أي تنازل ممكن عن حقوقهم ناجم عن اتفاقيّات دولية، مثل اتفاقيات أوسلو، إلا أن تلك الاتفاقيات صرفت الانتباه بشكل فعّال عن القانون الإنساني الدولي في تلك المرحلة. ولم تحظَ الانتهاكات المنهجيّة للقانون الإنساني الدوليّ، مثل هدم المنازل، برعاية دوليّة ملائمة إلا في أواخر تسعينيات القرن الماضي، أي ليس قبل انطلاق الانتفاضة الثانية التي اتّضح من خلالها التأثير الكامل لنظام التجزئة الأرضي- الحيزي. في مقابل هذه السياسات غير القانونية، تمّ تخصيص كميّات كبيرة من الأموال لمشاريع تطويرية في منطقتي السّلطة الفلسطينية "أ" و "ب"، والتي تمّ تدمير العديد منها أثناء العمليّات العسكرية. وتبيّن أنّ المشاريع التطويرية في المنطقة "ج" هي إشكاليّة خلال فترة أوسلو، كما هي الحال اليوم أيضًا، نظرًا لسيطرة إسرائيل على الأراضي فيها.

يمكن تعلّم الكثير من العبر من اتفاقيّات أوسلو، ويعود ذلك إلى وجهة نظر المراقب السياسيّة. ولا يمكن للتوجّه الإنساني أن يؤدّي إلا إلى استنتاج واحد: لا يؤدّي الاستخفاف بالقانون الإنساني الدولي إلى إضعاف المعايير الدوليّة المتعارف عليها فحسب، بل يبعث بإشارة إلى أطراف الصراع مفادها أنّ ثمة أفضليّة لميزان القوّة القائم على الضمانات الإنسانية القانونية التي يتبنّاها المجتمع الدولي. إنّ هذا الوضع إشكاليّ جدًا في حالات الاحتلال، لا سيّما عندما لا يتمتّع السكّان الواقعون تحت الاحتلال بمكانة متساوية في المجتمع الدوليّ، كما هي الحال بالنسبة إلى السلطة الفلسطينية، التي لا تتمتّع بمكانة دولة ذات سيادة. ويعتبر السكّان الواقعون تحت الاحتلال المساعدة الإنسانيّة مجرّد "ضريبة كلاميّة" ما لم يرافقها التزام بمعايير القانون الإنسانيّ الدولي.

أهميّة الإلزام بتنفيذ القانون الإنساني الدوليّ – قضيّة الجدار

لا تكمن الأهميّة الكبرى لمبدأ الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية حول عدم قانونية الجدار، إذاً، في تأكيد موقف "الجانب الفلسطيني" فحسب، بل في تدعيمه لطبيعة دور المجتمع الدولي الهام في وضع شبكة ضمانات في أوقات صراع عنيف، وهو ما من شأنه، لاحقًا، أن يزيّت عجلات العمليّات السياسيّة، إلى جانب توفير المساعدة الإنسانية.

إتّبعت محكمة العدل الدولية، في تعليلها القانوني، عمليًا، تفسيرًا قانونيًا مشتركا، تتشارك فيه مجموعات حقوق إنسان إسرائيلية، فلسطينية ودوليّة. إنّ تعزيز الرأي القائل بأنّ مسار الجدار هو إشكاليّ، من ناحية قانونيّة، هو أمر ورد ذكره في قرار المحكمة العليا الإسرائيلية في قضيّة بيت سوريك، على الرّغم من استناد القرار إلى تعليل قانوني مختلف. وأمرت المحكمة بإلغاء معظم مقاطع الجدار التي تمّ الطعن بها في الالتماس.

لكن لا يستطيع المرء أن يكون راضيًا عن قرار المحكمة العليا من منظور قانونيّ، ويجب عليه أن يحذر من إخضاع الرأي الاستشاري التّابع لمحكمة العدل الدولية للمحاكم الإسرائيلية المحلية. فلقد ألغت المحكمة العليا الإسرائيلية العديد من أوامر المنع الأولية لتتيح بذلك مواصلة بناء الجدار، في حين أبقت الالتماسات المقدّمة ضد الجدار قيد البحث. على أيّة حال، من غير المرجّح أن يصدر أي قرار عن المحكمة العليا، حتى أبعد القرارات احتمالاً، يلغي شرعية مسار الجدار في القدس الشرقية، كما يظهر من تعليق رئيس المحكمة العليا القاضي أهرون باراك في 21 حزيران العام 2005، الذي نقلته "هآرتس". وقد أعلن باراك أنّ السّبب الكامن وراء بناء الجدار لا يمتّ بصلةٍ للموضوع، إذ أنّه يتمّ بناء الجدار على أراضٍ إسرائيليّة، بغضّ النظر عن إعلان الدولة أنّ الجدار في القدس الشّرقيّة هو أمر سياسيّ.

يترك مسار الجدار الحاليّ العديد من المستوطنات على الجانب "الإسرائيلي" من الجدار، الأمر الذي يتيح، عمليًا، ضمّ الأراضي، وهي مسألة أثارتها محكمة العدل الدولية بنفسها. إنّ قرار المحكمة العليا الإسرائيلية بشأن قانونيّة أو عدم قانونية مقاطع الجدار التي تضمّ مستوطنات إلى إسرائيل، قد لا يتماشى مع التفسيرات العامة للقانون الإنساني الدولي أو لقرار محكمة العدل الدولية، ويعلن أنّ بناء الجدار في هذه المناطق هو أمر غير قانونيّ. يجدر أن نذكر أنّ المحكمة العليا الإسرائيلية ما انفكّت تصادق، عمليًا، على إقامة المستوطنات منذ العام 1967 وحتى يومنا هذا.

الأهم من ذلك هو أنه يتواصل بناء الجدار، على الرّغم من الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية. إنّ ما يبعث على القلق، بشكل كبير، هو البناء في منطقة القدس، الأمر الذي يعكس عدم احترام إسرائيل للرأي الاستشاري.

إنّ نظام التصاريح الذي يحصر الفلسطينيين بين الخطّ الأخضر وبين الجدار يزيد من تقييدهم، بشكل متزايد، حيث يتمّ رفض منح تصاريح للفلاحين الشباب الذين ورثوا الأرض عن آبائهم للوصول إلى أراضيهم وزراعتها. وتقوم بعض المشاريع التي تموّلها الأمم المتحدة، والتي كان القصد من ورائها أساسًا تخفيف وطأة الأزمة الإنسانية التي خلقها الجدار، بتسهيل فصل منطقة التماس عن بقيّة الضفة الغربية، بشكل غير مباشر. إن مشاريع إنشاء بنية تحتية جديدة، مثل المدارس، والتي هي ضرورية داخل منطقة التماس نظرًا لعدم تشغيل بوابّات الجدار بشكل لائق، لا تشجّع، في الحقيقة، على الحركة العادية المتواصلة من منطقة التماس إلى بقيّة الضفّة الغربية وبالعكس. لذلك، فإنّ القلق الأساسيّ المتعلّق بالقانون الإنسانيّ الدولي في حالة الجدار هو ليس مسألة عدم قانونيّته، بل الإلزام بتنفيذ الرأي الاستشاري لأعلى هيئة قانونية في العالم.

ثمّة عدد من الطرق لتطبيق الرّأي الاستشاري:

ناشدت محكمة العدل الدوليّة الأمم المتحدة ضمان احترام القانون الإنساني الدولي. لكن لم يطالب السكرتير العام للأمم المتحدة بتطبيق الرأي الاستشاري أو بتفكيك الجدار. هل يسهّل تراخي السكرتير العام في هذه القضيّة، بشكل غير مباشر، مسألة الوجود غير القانوني للجدار؟ لقد أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارًا في 20 حزيران العام 2004 تطالب فيه السكرتير العام بإنشاء سجل للأضرار الناجمة عن الجدار. لكن، لا يمكن اعتبار سجلّ الأضرار، الذي يتطلب إعداده الكثير من الوقت، ويحتاج إلى تعاون من إسرائيل – التي كانت قد أعلنت أنّها لن تتعاون في هذا الشأن – بمثابة بديل للعمل على إنهاء الوجود غير القانوني للجدار. لم يقدّم السكرتير العام إلى أيّ من وكالات الأمم المتحدة المختلفة العاملة في المناطق الفلسطينية المحتلّة أيَّة توصيات بشأن كيفيّة متابعة الرأي الاستشاري. وكما هو معلوم، لم يتمّ التخطيط لتقرير يتابع مواصلة بناء الجدار، ليكون بمثابة تتمّة للتقريرين اللذين كُتبا قبل إصدار الرأي الاستشاري.

هناك آليّات ممكنة أخرى لا يتم استخدامها للإلزام بالتنفيذ، بما في ذلك صلاحيّة الجمعيّة العامة في اتّخاذ إجراءات فعّالة ضمن الدورة الطارئة العاشرة حول فلسطين استنادًا إلى القرار 377 (V) "الاتحاد من أجل السلام" للعام 1950، في حال فشل مجلس الأمن في العمل على حفظ السلام والأمن الدوليين. بالإضافة إلى ذلك، من الصعب تحديد ما إذا كانت الدول ستطالب بعقد جلسة أخرى للدول الأطراف في معاهدات جنيف أم لا.

ناشدت محكمة العدل الدولية، في استنتاجاتها، جميع الدول العمل وفقا لالتزاماتها القانونية بموجب المادة 1 من معاهدات جنيف ومبدأ "جميع الناس" (erga omnes). وعلى الرغم من أن الرأي الاستشاري لا يمكنه فرض التزامات ملزمة على الدول، إلا أنّ المحكمة شدّدت على أن القانون الذي يستند إليه رأيها هو ملزم. وبموجب المادة 1، فإنّ الدول ملزمة باحترام وبضمان احترام معاهدات جنيف. هذه المادة التي تعتبر، عامة، على أنها لا تضع معايير محددة من أجل ضمان احترام المعاهدات، أصبحت جازمة مع إصدار الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية.

تنصّ الفقرة 155 من الرأي الاستشاري على ما يلي:

تلاحظ المحكمة أنّ الالتزامات التي أخلّت بها إسرائيل تشمل بعض الالتزامات التي تهمّ الجميع (erga omnes). فكما أفادت المحكمة في قضيّة Barcelona Traction، تُعد تلك الالتزامات بحكم طبيعتها شأنًا "يهمّ كلّ الدول" و"بالنظر إلى أهميّة الحقوق ذات الصلة يمكن اعتبار أنّ الدول كافة لها مصلحة قانونية في حمايتها".

أسهبت محكمة العدل الدولية في الحديث عن نطاق مبدأ "جميع الناس" (الفقرتان 158- 159)، وطالبت الدول بعدم دعم بناء الجدار أو تسهيل بنائه بشكل غير مباشر، وألقت بمهمّة إيجابيّة على عاتق الدّول "أن تتأكّد من وضع حدّ لأيّ عائق يتمخّض عن بناء الجدار ويحول دون ممارسة الشّعب الفلسطيني لحقّه في تقرير المصير".

كما تجدر الإشارة إلى أن الدول ملزمة، وفقا لمبدأ السّلطة القضائية الدوليّة، بإحضار مرتكبي جرائم الحرب أمام العدالة، في حال أخفقت دولهم في القيام بذلك. وبما أنّ الجدار هو غير قانونيّ وينتج عن بنائه دمار واسع، غير قانوني ووحشيّ لا يمكن تسويغه بذريعة الضرورة العسكرية، فإنّ الرأي الاستشاري يشكّل، حسب رأيي، أساسًا قانونيًا إضافيًّا هامًّا بالنسبة للمسؤولية الجنائية الفردية للمبادرين إلى إقامة الجدار، المخطّطين له وبُناته. كذلك يجب فحص مسؤوليّة الشركات التي تبني الجدار وتوفّر الأمن لبنائه.

تتوقع تقارير منظّمات حقوق الإنسان ومكتب تنسيق الشؤون الإنسانيّة التابع للأمم المتّحدة في المناطق الفلسطينية المحتلّة عواقب إنسانية واجتماعية - اقتصادية وخيمة بالنسبة لسكّان منطقة التماس، القرى المجاورة والضفة الغربية بشكل عام. ونحن نسمع، بين الفينة والأخرى، عن قرية أخرى ستتمّ محاصرتها بسبب الجدار. فعلى سبيل المثال، ستكون قرية الولجة الواقعة جنوب القدس، والتي يحمل سكّانها بطاقة الهوية الخاصة بالقدس، مطوّقة بالجدار بشكل كامل، باستثناء نفق يخطّط لبنائه يربطها بالعالم ما وراء الجدار.

وصل الاحتلال الذي يرزح تحته الفلسطينيون منذ أكثر من 40 عامًا إلى مستوى آخر من عدم القانونيّة مع بناء الجدار. يجدر أن نذكر أنّ الجدار لم يكتمل بعد، ولذلك فيجب أن تتواصل الجهود المبذولة لوقف بنائه، من خلال التركيز على التزامات إسرائيل بموجب القانون الإنساني الدولي. للأسف، لا يمكننا أن نستبعد التحليل بأنّ الجدار، إلى جانب فرض نظام الإغلاق المتواصل، التهديدات المتعلّقة بحقوق الإقامة وحقوق العائلة، وفصل القدس الشرقيّة عن الضفّة الغربيّة، قد تكون السّبب الحقيقيّ الكامن وراء الحديث المتداول مؤخَّرًا عن انتفاضة ثالثة.

يبدو أنّه ليست هناك إرادة سياسيّة لدى الدول لمتابعة الرأي الاستشاري، كما أنّ الجهود المبذولة لتبنّي خطّ حازم بشأن قضيّة الإلزام بالتنفيذ تقف هي أيضًا أمام طريق مسدود. هل من الممكن أن يكون الانفصال عن غزّة هو التفسير الرئيس لضبط النفس الدوليّ الحالي، وللفشل في تبنّي وقفة صارمة بشأن تطبيق الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدوليّة؟ من المرجّح أنّ انعدام الإرادة السياسية اليوم، في ما يتعلّق بالالتزام بالقانون الإنساني الدولي، من شأنه أن يؤدّي غدًا إلى المزيد من انتهاكات القانون الإنساني الدولي، الى جانب العواقب السياسيّة المقرونة بذلك. لن يتمّ احترام القانون الدولي إذا تمّ انتهاكه من دون وجود إسقاطات على السّاحة الدوليّة.

الفرصة القادمة لمنع الانتهاكات

توفّر خطة فك الارتباط مثالاً جيدًا على الحاجة إلى دمج القانون الإنساني الدولي ضمن السيرورات السياسية، بغض النظر عن تأثيرها الحالي على الإلزام بتنفيذ الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية. يشكّل الإصرار على الالتزام بالقانون الإنساني الدولي قبل الانسحاب، خلاله وبعده، فرصة لا يمكن تفويتها لإحباط الانتهاكات المتوقّعة للقانون الإنساني الدولي، في الوقت الذي يتمّ فيه دعم انسحاب الجيش من قطاع غزّة.

على الرّغم من أنه لم يتمّ الانتهاء من وضع العديد من عناصر خطة فك الارتباط- بما في ذلك إمكانيّة وصول الفلسطينيين من قطاع غزّة إلى الضفة الغربية والقدس الشرقية- إلا أن بعض جوانب الخطّة تثير القلق في ما يتعلق بالقانون الإنساني الدولي، والذي يمكن معالجته بشكل كافٍ خلال المفاوضات الحاليّة.

ما قبل الانسحاب

يثبت "إحساسنا المتعلّق بالقانون الإنساني الدولي" ارتكاب انتهاكات واسعة النطاق ما قبل الانسحاب. إن عنف المستوطنين يتصاعد، لا سيّما في منطقتي الخليل ونابلس. فقد تمّ، على سبيل المثال، استئناف هدم المنازل المبنيّة على أراض خاصة في منطقة الخليل التي تمّ إخلاء 700 شخص منها في العام 1999، بذريعة عدم وجود تراخيص بناء. وقد تمّ وضع المخطّطات لهدم 88 منزلاً في حي سلوان في القدس، الأمر الذي سيؤدّي إلى محو حيّ فلسطيني عريق بأكمله، بغية إعادة بناء المنطقة كمتنزّه وطني يهوديّ. وأقرّ الكنيست مؤخّرًا مشروع قانون يعفي إسرائيل من المسؤولية القانونية المدنية عن دعاوى الأضرار التي يقدّمها الفلسطينيون عن الأضرار التي ألحقتها بهم وكالات دولة إسرائيل، والذي يحرم الضحايا الفلسطينيين من حقّهم الأساسي في الإجراء العادل والتعويضات، ويؤدّي بالتالي إلى التخفيف من التزامات إسرائيل بموجب القانون الإنساني الدوليّ. إنّ محاولات اللحظة الأخيرة لتعديل القانون وخلق حقائق على الأرض هي إشكاليّة إلى حدّ بعيد، لا سيّما في وقت تمنع فيه الحماسة إلى عمليّة سلام محتملة الدول من لفت الانتباه إلى انتهاكات القانون الإنساني الدولي، خشية أن يؤدّي ذلك إلى عقبات غير ضرورية في طريق الانسحاب.

كذلك، يجب أن يتمّ التدقيق في الاتفاقيّات المتوقّعة بين إسرائيل وبين الفلسطينيين، مثل خطّة "إخلاء- بناء" المتعلّقة بأملاك المستوطنات، على أساس القانون الإنساني الدولي وقانون حقوق الإنسان. إنّ التطلّع إلى أن تؤدّي مشاريع الإسكان إلى إنهاء النقاش الطويل حول حقوق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى وطنهم يبدو سابقًا لأوانه.

ما بعد فك الارتباط

يتمحور جوهر قلق القانون الإنساني الدولي في مرحلة ما بعد التنفيذ في التأثير الطويل الأمد للانسحاب على وضعيّة قطاع غزّة كمنطقة محتلّة وتواصلها، عمليًا ونظريًا، مع أجزاء أخرى مترابطة من المناطق الفلسطينية المحتلة- الضفّة الغربية، وخاصة القدس الشرقيّة.

وفقًا للقانون الإنسانيّ الدّولي، ينتهي الاحتلال عندما تتوقّف ممارسة القوّة المحتلة للسيطرة الفعليّة على المناطق المحتلّة. وتنصّ خطّة فك الارتباط المنقّحة في 6 حزيران من العام 2004 على أنّ "إنهاء الخطة من شأنه أن يبدّد الادعاءات المتعلّقة بمسؤولية إسرائيل عن الفلسطينيين في قطاع غزّة." لكن، تكشف بنود أخرى من الخطّة عن أنّ إسرائيل ستواصل سيطرتها العسكريّة والإدارية الفعليّة على قطاع غزّة بالوسائل التالية:

- السيطرة أو الاحتفاظ بحقّ السّيطرة على المجال الجوّي.

- السّيطرة أو الاحتفاظ بحقّ السّيطرة على المجال البحريّ.

- الاحتفاظ بحقّ تنفيذ اجتياحات أرضيّة.

- ضبط دخول وخروج الأشخاص والبضائع عبر الحدود الدولية أو الاحتفاظ بحقّ القيام بذلك.

- الاحتفاظ بالسيطرة والتحكّم بأداء المهامّ الحكوميّة، بما في ذلك الهجرة، التجارة والسياسات المالية.

- فرض تبعيّة فلسطينية متواصلة لإسرائيل من ناحية البنية التحتيّة، بما في ذلك تزويد الماء والكهرباء.

لا تزال وضعيّة شريط فيلادلفي في العمق مُبهمة: هل سيتمّ نقله كليًا للمصريين، أم ستبقى هناك سيطرة عسكرية إسرائيلية عليه؟ وتشير تجارب سابقة مع جيش جنوب لبنان، على سبيل المثال، إلى أنّ الانفصال الرّسمي للقوّات العسكرية لا يعني بالضرورة إعفاء جيش ما من المسؤولية المهمّة عن أعمال يرتكبها جيش آخر.

ستنسحب إسرائيل كليًا من شريط فيلادلفي، وفقًا لبعض التصريحات العلنيّة التي أدلى بها مسؤولون إسرائيليون. في حال حدوث مثل هذه الخطّة بالفعل، ستتوافر إمكانيّة الوصول المباشر من قطاع غزة إلى مصر، وعندها، من المرجّح أن تتبنّى إسرائيل الموقف القانونيّ القائل بأنّه لا يمكن اعتبار القطاع أرضًا محتلّة.

من الواضح أنّ التحليل القانوني يقتضي معاينة الحقائق على الأرض. لذلك، لن يكون بالإمكان تقديم وجهات نظر قانونية إلا بعد تنفيذ الانسحاب بفترة.

مع ذلك، يجب ألا تعفي التفسيرات القانونية إسرائيل من مسؤولياتها بموجب القانون الإنساني الدولي وقانون حقوق الإنسان، ويجب تبني توجّه شامل يأخذ بالحسبان قدرة إسرائيل على استعادة سيطرتها على قطاع غزة في أي وقت ترغب بذلك. إنّ هذا التفسير وثيق الصلة بالموضوع خاصةً لأنّه سيتمّ نقل القطاع للسلطة الفلسطينية التي هي ليست بمثابة دولة ذات سيادة، كما أنّ بعض المهام الحكوميّة في غزّة لا تزال مرتبطة بشكل كبير بإسرائيل. ويجعل هذان العاملان مسألة خطّة فك الارتباط عن غزّة مختلفة بشكل كامل عن الانسحاب الأحادي الجانب من لبنان. ويجدر التشديد من هذه الناحية على أنّه ليست هناك أيّة اتفاقيّة بين السّلطة الفلسطينيّة وبين إسرائيل يمكنها أن تقوّض بقاء وضعيّة قطاع غزّة كأرض محتلة، إذا كانت الحقائق على الأرض تبيّن وجود سيطرة إسرائيليّة فعّالة. سيشكل الواقع الامتحان الحقيقي، إلى أن يحدث انسحاب كامل. ويجب عدم أخذ التصريحات الأحادية الجانب بعين الاعتبار، وبالتأكيد عدم تبنّيها، مثل التصريح الذي تتضمّنه الخطّة الإسرائيلية حول انتهاء مسؤولية/ احتلال إسرائيل. ويجب على المجتمع الدولي أن يتّحد في النضال من أجل وضع تفسير صحيح للقانون الإنساني الدولي، مثلما فعل حول سريان مفعول معاهدة جنيف الرابعة في الأراضي المحتلة ووضعيّة القدس الشرقيّة كمنطقة محتلّة، على الرّغم من رّأي الأقلية القانونية الإسرائيلية المُعارضة. وقد تؤدّي الافتراضات القانونيّة المتسرّعة، عن غير قصد، إلى ترك مجموعة سكّانية واقعة تحت الاحتلال تحت رحمة قوّة محتلة، من دون توفير الحماية الدولية الضرورية.

الخلاصة

كما رأينا حتّى الآن، إنّ القانون الإنساني الدولي هو ليس مجرّد فكرة نظرية؛ إنّه يمتّ بصلة لكلّ ناحية من نواحي الصراع المسلّح. ويضع القانوني الإنساني الدولي ضمانات إنسانيّة وتقييدات على استخدام القوّة – في غاية الضرورة للسكّان المدنيين – وفي نهاية المطاف لمصلحة كلا طرفي الصراع. إنّ الالتزام بالقانون الإنساني الدولي، على الرّغم من ميزاته "المتساهلة" كقانون لا يمكن ضمان تطبيقه، قد يوفّر إثباتًا على المقولة: "الأفضل أن تكون آمنًا من أن تكون آسفًا".

(*) الكاتبة مستشارة قانونية في برنامج القانون الإنسانيّ الدولي، دياكونيا، مكتب الشرق الأوسط. تستند هذه المقالة إلى عرض حلقة دراسيّة نيابةً عن دياكونيا، "حماية مستقبل الشرق الأوسط – القانون الإنساني الدولي في المناطق الفلسطينية المحتلة" عُقدت في البرلمان الأوروبي في 22 حزيران، 2005.