تشريع أيديولوجي "باسم الأمن"

في السنوات الثلاث الأخيرة صادق الكنيست الاسرائيلي على قوانين تعسفية، تنتهك وبشكل أساسي الحقوق الدستورية. حتى أنّ المشرع سعى في قسم من تلك القوانين نحو الالتفاف على قرارات وأحكام المحكمة العليا الإسرائيلية. وتتميز هذه التشريعات بخصلة بارزة مفادها توسيع مصطلح "أمن الدولة"، حتى في الحالات التي تنعدم فيها أية صلة بين هدف التشريع وبين أمن الدولة، لا من قريب ولا من بعيد. وليس من قبيل الصدفة أن يسطع نجم رجالات الـ"شاباك" (جهاز الأمن العام) في مداولات لجان الكنيست التي تركّزت في هذه التشريعات

في السنوات الثلاث الأخيرة صادق الكنيست الاسرائيلي على قوانين تعسفية، تنتهك وبشكل أساسي الحقوق الدستورية. حتى أنّ المشرع سعى في قسم من تلك القوانين نحو الالتفاف على قرارات وأحكام المحكمة العليا الإسرائيلية. وتتميز هذه التشريعات بخصلة بارزة مفادها توسيع مصطلح "أمن الدولة"، حتى في الحالات التي تنعدم فيها أية صلة بين هدف التشريع وبين أمن الدولة، لا من قريب ولا من بعيد. وليس من قبيل الصدفة أن يسطع نجم رجالات الـ"شاباك" (جهاز الأمن العام) في مداولات لجان الكنيست التي تركّزت في هذه التشريعات.

في الأمثلة والنماذج المتعلقة بهذا النوع من التشريعات، والتي سيرد ذكرها فيما يلي، تتوجه السلطة التنفيذية إلى المُشرّع وتطالبه بتسوية سياستها غير القانونية المدفوعة بأيديولوجياتها، عبر تشريع رئيسي. ويوفر التوجه إلى المُشرّع على السلطة التنفيذية عناءَ النقد المزدوج: أولاً، انتفاء الانتقاد الذي يمكن أن يُوجّه إليها بأنها تعمل من دون مرجعية ووفق اعتباراتها الذاتية، بل على العكس: ستصبح نشاطاتها مُبلورة ومَصُوغة في تشريع شُرّع في الكنيست، قانونيًا لأول وهلة؛ وثانيًا، حتى لو اهتزت الدنيا وارتجّت كرد على القانون الذي اهتمت السلطة التنفيذية بتمريره، فإنّ الطريق إلى إلغاء هذا القانون في المحكمة طويلة ومتشعبة، حتى لو قبلت المحكمة أصلاً بادعاءات بطلان القانون. وهكذا تضمن السلطة التنفيذية لنفسها عدة سنوات من الهدوء، على الأقل، من دون رقابة قضائية، ويمكنها في أثناء هذه السنوات أن تعمل وتنشط كما يحلو لها، ولكن هذه المرة في ظل وحماية القانون. وهكذا، يتحول المُشرّع، الذي يهرع إلى تخليص السلطة التنفيذية من ضائقتها، إلى أداة طيّعة لديها. فالمُشرِّع يضمن للسلطة التنفيذية حصانة جوهرية في مقابل إلغاء سياستها غير القانونية، أو على الأقل، في مقابل تفعيل رقابة قضائية على أعمالها.

لن أورد في هذه المقالة كل الأمثلة التشريعية التي سُنّت أخيرًا، والتي تشتمل على أوامر تنتهك حقوق الانسان، كما أنني لن أتناول بالتوصيف الطريقة التي يتم من خلالها سنّ هذه القوانين.

وبدلاً من ذلك، في نيّتي أن أستعرض كيفية استخدام السلطات للمُشرع، عن طريق السلطة التنفيذية، من أجل شَرعَنة أعمال ونشاطات غير قانونية وغير دستورية تقوم بها هذه السلطات. وفي مقولتي "غير قانونية" تكمن الإحالة نحو الممارسات التي قرّرت المحكمة في الماضي أنها غير قانونية، ومن جملة أسباب ذلك غياب قانون يمنح السلطة صلاحية القيام بها. وفي المقابل، الممارسات "غير الدستورية" هي تلك الممارسات التي تنتهك الحقوق الدستورية للإنسان أو للمواطن، بمقدار غير معقول وبشكل متطرف.

وسعيًا نحو نفي الشكوك، عليّ أن أذكر أنَّ ضلوع السلطة الحاكمة في العملية التشريعية غيرُ لاغٍ في أساسه، ما دامت تحرص على عدم إساءة استخدام مهامها التنفيذية الحُكمية وعلى التصرف بإنصاف وباستقامة وبأمانة، ووفقًا لأصول العدل الطبيعي. وتعني الاستقامة هنا، أنه في حالة دعوة السلطة لاستعراض معطيات أيًا كانت في مضمار أعمالها، أمام المُشرّع، فإنّ عليها أن تفعل ذلك بشكل علني مكشوف وبنزاهة ومن خلال استعراض كامل للمعطيات الحقائقية، بشكل حيادي وليس أحاديّ الجانب. وعندما تتوجه السلطة إلى المُشرّع بطلب انفعالي لتسوية شأن ما يتعلق بممارساتها من خلال سنّ قانون، فإنّ على السلطة أن تفعل ذلك انطلافًا من دوافع سليمة ومن أجل دفع الحقوق والحفاظ على مبدأ القانونية، وليس من أجل الفوز بتفويض ومرجعية قانونييْن لأيديولوجيتها القومية.

منع لمّ شمل العائلات الفلسطينية كمثل

فمثلاً، عندما رأى جهاز "شاباك" أنه يرضخ تحت عبء الاحتلال، توجّه إلى المُشرّع وطلب منه أن يُبلور سياسة منع لمّ شمل العائلات الفلسطينية، في إطار قانون. وقد تعاونت السلطة التنفيذية مع الـ "شاباك" من دون تردّد. كما أنّ محاولات السلطة التنفيذية تغليف دوافعها الأيديولوجية بغلاف أمني لم تنجح كفايةً. وقد تحوّل الدافع الديمغرافي المختبئ من وراء هذا القانون، سريعًا، إلى سر معروف، أصبح من الصعب يومًا بعد يوم إخفاؤه من خلال الاستناد إلى مُسوّغات أمنية. فالادعاء الأمني أُستغلَّ من جانب السلطة التنفيذية كأداة كانت وظيفتها إعماء عيون المُشرّع والرأي العام لمنعهما من تشخيص الدافع الأيديولوجي المطروح في صلب القانون، حتى التصديق عليه. كما أنّ تثبيت مدارك السلطة التنفيذية الحياتية، التي تمركزها دافع منع زيادة عدد السكان العرب في إسرائيل كطريقة للحفاظ على يهودية الدولة، هو الهدف الكائن في صلب هذا القانون.

وقد سعى الـ"شاباك" عن طريق هذا القانون، بدعم من السلطة التنفيذية، نحو التنصل من النقد القضائي، في حالة توصيته أمام وزارة الداخلية بالامتناع عن تصديق مكوث الفلسطينيين سكان المناطق المحتلة في إسرائيل، وعدم السماح بإجراء لمّ شمل بين هؤلاء وبين أزواجهم/ زوجاتهم الفلسطينيين مواطني دولة إسرائيل. وبعد انعقاد جلسات مغلقة مع وزراء وأعضاء كنيست عرض فيها الـ"شاباك" بشكل أحاديّ الجانب تسويغاته واستعرض المعطيات الحقائقية التي بحيازته، تمّ طرح اقتراح القانون للنقاش في لجان الكنيست ذات العلاقة، إلى حين التصويت في الهيئة العامة والتصديق على القانون رغم كل مساوئه وأعطابه القيمية والدستورية (قانون المواطنة والدخول إلى إسرائيل (أمر ساعة) (تعديل)- 2003). وما زالت سبعة التماسات قُدمت إلى المحكمة العليا لإلغاء هذا القانون وكل التعديلات التي أدخلت عليه، تنتظر لأكثر من سنتيْن قرار المحكمة، حيث لم يصدر حتى الآن أيّ شيء ذي علاقة بهذه الالتماسات.

في مطلبه بلورة سياسته العنصرية في قانون، عرف الـ "شاباك" أنّ إلغاء هذا القانون هو مهمة قضائية غير سهلة. وحاليًا، وإلى حين بتّ المحكمة العليا في المسألة، سيستمر آلاف الأزواج بالحداد على حبهم وزواجهم، في حين اضطر بعضهم إلى التنازل عنهما، مُجبَرين ومُرغمين. وبفضل "العون الكريم" الممنوح من جانب المُشرّع، ينام رجالات الـ"شاباك" قريري العيون، بعد أن حرموا آلاف النساء والأطفال الذين اضطروا للانفصال عن أزواجهم وآبائهم، من النوم، وبعد أن حكموا عليهم بحيوات خالية من الأمان ومليئة بالخوف والرعب.

وهاكم مثالاً مغيظًا آخر: فقد صادقت اللجنة الوزارية للشؤون التشريعية، أخيرًا، على مشروع قانون تعسفي، هو الآخر بمبادرة من الـ"شاباك"، يوفر مثالاً آخر على استغلال الـ"شاباك" للسلطة التشريعية كأداة طيّعة لدفع مداركه الأيديولوجية. والمقصد هنا هو اقتراح قانون النظام الجنائي (صلاحيات التطبيق- أوامر خاصة للتحقيق في جنح أمنية ارتكبها من هم ليسوا مواطنين)، أمر ساعة، 2005. حيث يفتح مشروع القانون هذا نافذة باتجاه التشديد المتطرف في ظروف التحقيق مع الأسرى الفلسطينيين واعتقالهم. حتى إنّ مشروع القانون هذا يمكن أن يشكل تهيئة للّجوء إلى وسائل تحقيق لاغية يستخدمها الـ"شاباك"، من خلال محاولة نسخ أوامر التشريع العسكرية المتشدّدة والخطِرة التي تسري على المناطق المحتلة إلى داخل القضاء الاسرائيلي الداخلي. ومع انتهاء الحكم العسكري في قطاع غزة نفد سريان مفعول التشريع الأمني الذي استصدره قائد قوات الجيش الإسرائيلي في تلك المنطقة. وقد منح التشريع ذاته قوات الأمن، وخصوصًا الـ"شاباك"، صلاحيات تطبيق وتحقيق تعسفية، تزيد بأضعاف عن صلاحيات التطبيق الممنوحة وفق قانون النظام الجنائي (صلاحيات تطبيق الاعتقالات)، 1996 (فيما يلي: قانون الاعتقالات). ويسري هذا القانون على الفلسطينيين الذين يخضعون للاحتلال وللحكم العسكري.

ومع انتهاء الحكم العسكري في قطاع غزة لم يتبقَّ لـلـ"شاباك" إلا تسيير قانون العقوبات الاسرائيلي، المعتدل نسبيًا، في كل مرة يتوجب فيها تطبيق القانون (إحتجاز، اعتقال أو التقديم للمحاكمة) على سكان قطاع غزة. وهذه الوضعية القضائية لم ترُق لجهاز الـ"شاباك" البتة، ولم يكن راضيًا عنها كليةً.

وقد بدّل مشروع القانون الذي بادر له الـ"شاباك" تعبيرَ "فلسطينيين" بتعبير "غرباء ليسوا سكانًا". كما أنّ أقوال التوضيح التي ترافق مذكرة اقتراح القانون التي نشرتها وزارة القضاء لم تُخفِ هذه الحقيقة. وتورد مذكرة اقتراح القانون أمورًا معينة وأمورًا ضدها. فمن جهة ورد في المذكرة، من ضمن ما ورد فيها، أنّ مطلب التشديد مع "الغرباء" ينبع من أنّ كونهم غرباء وليسوا من سكان الدولة، وهذا يُصعّب على سلطات الأمن القُربى من مصادر المعلومات الاستخباراتية أو من شهود محتملين يمكن أن يوافقوا على التعاون مع هذه السلطات. ومن جهة أخرى يتضح من المذكرة أنّ التشديد في ظروف تطبيق القانون على الفلسطينيين من سكان القطاع لا ينبع من كون الفلسطينيين المُحقَّق معهم "غرباء"، بل ينبع من المميزات الفريدة الخاصة بالتحقيق في جنح أمنية ومن الخطر المتوقع منها والحاجة لإجراء تحقيقات متواصلة من دون مضايقة.

وبمساعدة هذه التسويغات الواردة أعلاه، إلى جانب تسويغات أخرى لن يعلم بها الجمهور أبدًا، يُطلب الآن من المُشرّع الإسرائيلي- الكنيست- بلورة أمر جديد في قانون، وهو أمر أكثر تمييزية ولا معقولية من الأوامر الخطِرة المتشددة القائمة أصلاً في القانون الإسرائيلي. ووفق الأمر المقترح، ستُمنح سلطات التحقيق والـ"شاباك"، من ضمن سائر الأمور، صلاحية الأمر بإجراء تحقيق متواصل مع من ليس من سكان الدولة والمشتبه به بجنح أمنية. ويمكن التحقيق مع مشتبه به كهذا لمدة 96 ساعة متواصلة من دون أن يتم عرضه أمام قاضٍ (الأمر الذي يختلف عن الفترة الأقصى المنصوص عليها في قانون الإعتقالات، وهي 48 ساعة تحقيق حتى عرض المشتبه به أمام قاضٍ)؛ وقاضي الاعتقالات المُخوّل تمديد فترة اعتقال المشتبه به بجنح أمنية وهو من غير سكان الدولة، هو قاضي المحكمة المركزية (ما يختلف عن كون القاضي المُخوّل قاضيَ محكمة صلح وفق قانون الاعتقالات، مما يُفقد المعتقل هيئة استئنافية محتملة). كما أنّ الفترة القصوى لتمديد الاعتقال هي 20 يومًا لكل مرة يُطلب فيها من المحكمة تمديد الاعتقال (ما يختلف عن فترة 15 يومًا التي ينصّ عليها قانون الاعتقالات)؛ كما أنّ تصريح المستشار القضائي للحكومة بتمديد الاعتقال يُمنح بعد مرور 40 يومَ اعتقال (ما يختلف عن فترة 30 يومًا وفق قانون الاعتقالات)؛ وبالإمكان تمديد الاعتقال من دون حضور المعتقل (خلافًا لوجوب حضور المعتقل وفق قانون الاعتقالات)؛ ويمكن تمديد فترة منع التقاء المعتقل بمحاميه عن طريق قاضي المحكمة العليا لفترة قصوى لا تزيد عن 50 يومًا، وكل ذلك خاضع لطلب من المستشار القضائي للحكومة (ما يختلف عن صلاحية رئيس المحكمة المركزية تمديد منع اللقاء لـ 21 يومًا فقط، مع الخضوع لطلب المستشار القضائي وفق قانون الاعتقالات).

وهنا يُطرح السؤال: أيّة فائدة يرجوها الـ "شاباك" من مطلب تشريع قانون جديد يُرتّب مسائل تتعلق بالتحقيق مع مشتبه بهم بجنح أمنية، ما دام هناك قانون كهذا قائم، مع أنه أقل تشديدًا، والذي من المفترض به أن يوفر ردًا على كل تحقيق يتعلق بجنح أمنية، من دون أية علاقة بقومية المشتبه به؟ أية اعتبارات وجّهت اللجنة الوزارية عندما صادقت بالإجماع على اقتراح القانون هذا؟.

يبدو أنه يكفي أن يكون موضوع القانون فلسطينيًا، كونه فلسطينيًا، كي يسهّل ذلك على الـ"شاباك" توجيه النقاش بعيدًا عن مسألة الانتهاكات الجارفة لحقوق الإنسان الأساسية، صوب الإنشغال بأسئلة أمنية. وهكذا يحقق الـ"شاباك" هدفيْن هاميْن: عملية تشريع القانون تتم بسهولة أكبر، وبموازاة ذلك، تتقوى المفاهيم والمدارك الحياتية الخاصة بالـ"شاباك" وبالسلطة التنفيذية، التي ترى في مجرد وجود الفلسطينيين مشكلة لا يمكن حلها إلا من خلال زجّهم وحبسهم من وراء أسيجة وجدران أو في زنازين الاعتقال، باسم الأمن.

فمثلاً، عندما وجد الـ"شاباك" نفسه منزعجًا من مسألة سريان قانون عادي على معتقلين فلسطينيين، سارع إلى المُشرّع من أجل تصحيح وضع يمكن أن يتمتع فيه المعتقلون الفلسطينيون، حاشا وكلا، بأوامر قانون إسرائيلي عادي، مثلهم مثل سائر مواطني الدولة المشتبه بهم بجنح مشابهة. كما أنّ تصديق القانون التعسفي في اللجنة الوزارية للشؤون التشريعية الحاصل بتاريخ 9 تشرين الأول 2005، سيساعد الـ"شاباك" في السير المريح صوب المُشرّع، إلى أن يحقق غاياته. ولا يمكن أن ينقذ المُشرّعَ من دائرة وصمة عار إضافية في كتاب القوانين الاسرائيلي إلا إلغاء اقتراح القانون العنصري هذا. كلّ تعديل على صيغة الاقتراح سيكون تعديلاً تجميليًا ليس إلا، غايته تمويه البشاعة الأخلاقية الكائنة في صلب اقتراح القانون.

"قانون الأضرار"

ولا تنحصر تلبية المُشرّع الإسرائيلي لرغبات السلطة التنفيذية، وخصوصًا الأذرع الأمنية، في توسيع رقعة صلاحياتها والتعبير عن أيديولوجياتها، بل تجنح في بعض الأحيان نحو منح حصانة كاملة في مقابل تحدي ممارساتها غير القانونية أمام الهيئات القضائية. مثال ساطع على ذلك هو قانون الأضرار المدينية (مسؤولية الدولة) (تعديل رقم 7)، 2005. هذا القانون، وفي خلاصته الواضحة، يحرم سكان المناطق المحتلة وسكان كل منطقة يعلن عنها وزير الدفاع "منطقة نزاع"، من حق تقديم دعاوى تعويض جراء أضرار لحقت بهم من طرف قوات الأمن (الإسرائيلية)، حتى لو لم تحدث هذه الأضرار في نطاق عملية حربية. وقد قُدم التماس ضد دستورية هذا القانون بتاريخ 31 آب 2005، قدمته تنظيمات لحقوق الإنسان، طالبت فيه بإلغائه. وقد رفضت المحكمة العليا حاليًا استصدار أمر إحترازي، وفق طلب الالتماس، يمنع بدء سريان القانون، الذي لا يمكن التقليل من خطورته بتاتًا. وفي ردٍّ على طلب المُلتمِسين تعيين مداولة طارئة في الإلتماس أمرت المحكمة العليا سكرتارية المحكمة بتعيين المداولة لتجري في مطلع شهر آذار 2006، أي ما يزيد عن الستة شهور منذ موعد تقديم الإلتماس.

ومن المتوقع أن يصطدم الإلتماس لإلغاء القانون الذي يعفي الدولة من المسؤولية الضررية تجاه الفلسطينيين من سكان المناطق المحتلة، بمماطلة وتسويف طويليْن، تمامًا كتلك المماطلة التي لحقت باستصدار قرار في التماس تنظيمات لحقوق الإنسان لإلغاء قانون المواطنة- لمّ الشمل. وبهذا، ينضم الملتمسون إلى ملتمِسين آخرين ينتظرون منذ سنوات الحسمَ والبتَّ في مطلبهم إلغاء قانون. وهذا ما حدث أيضًا مع الملتمِسين الذين طالبوا بإلغاء "قانون طال"، الذي يبلور التسوية التي تمنح إعفاءً من الخدمة العسكرية لطلاب المدارس الدينية اليهودية. ومن الجدير والهام ذكره أنّ المحكمة العليا ألغت في السابق هذه التسوية، إلا أنه في هذه الحالة، وفي حالات أخرى كثيرة مشابهة، لم يمنع إلغاء المحكمة العليا للتسوية إعادة بلورتها مجددًا، عن طريق تشريع رئيسي لم يتم الحسم في إلغائه حتى الآن.

التعديل الذي أُدخِل أخيرًا على أمر السجون {قانون لتعديل أمر السجون (التعديل رقم 30)، 2005}، هو مثال جيد على كيفية استخدام السلطات للمُشرِّع كأداة للإلتفاف على المحكمة العليا. التجديد في هذا التعديل هو بلورة صلاحية مُفوّض مصلحة السجون ومُديري السجون بوقف لقاء بين أسير وبين محاميه، في حال توفر شكوك حقيقية بأنّ هذا اللقاء سيُمكّن من ارتكاب جنحة تشكل خطرًا على أمن وسلامة إنسان أو سلامة الجمهور أو الدولة، أو بأنّ هذا اللقاء سيتيح الفرصة أمام القيام بجنحة في داخل السجن تلحق الأذى الحقيقي بالطاعة والانصياع في داخل السجن.

والناظرُ بتمعّن إلى التأريخ السابق لهذا التعديل على القانون سيتيقّن سريعًا من أنّ هذا الإقتراح لم يكن ليُطرح أبدًا لولا قيام المحكمة العليا بإلغاء السياسة غير القانونية لمصلحة السجون في تقييد حقوق الأسرى. وقد قُدم للمحكمة العليا التماسان مختلفان تصدّيا لعدم قانونية السياسة التي اتبعتها مصلحة السجون في تقييد وتحجيم حقوق الأسرى في لقائهم بمحاميهم. وفي الالتماسيْن تقرّر أنّ تقييدات مصلحة السجون تتم بشكل غير قانوني، ومن هنا بطلانها.

في المسألة الأولى قدمت ثلاثة تنظيمات لحقوق الإنسان ونقابة المحامين التماسًا ضد وزير الأمن الداخلي، الذي سنّ نظامًا يخوّل مدير السجن منعَ لقاء أسير بمحاميه. وفي أمر حكم مُفصّل، صدر في شباط 2004، ألغت المحكمة العليا هذا النظام وقرّرت أنّ المسّ بحق الأسير الدستوري التقاء محاميه ليس قانونيًا، في حال تمّ ذلك بواسطة نظام سَنَّه الوزير. في المسألة الثانية قدمت مجموعة من المحامين، بواسطة مركز "عدالة" و"جمعية حقوق المواطن"، التماسًا ضد قرار مصلحة السجون منع الأسرى الفلسطينيين المضربين عن الطعام من التقاء محاميهم، كعقاب على الإضراب عن الطعام. وفي هذه المسألة اعترفت مصلحة السجون بالخطأ الذي ارتكبته بشكل غير قانوني، وأعلنت أمام المحكمة أنّ كوْن الأسير أو المعتقل مضربًا عن الطعام لا يعني كون ذلك سببًا قانونيًا لمنعه ولمنع محاميه من الالتقاء ببعضهما البعض. وقد ورد هذا الإعلان حرفيًا في قرار المحكمة العليا الذي نصّ على أنّ الالتماس أُستنفِدَ واكتملَ بعد أن اعترفت مصلحة السجون بخطئها غير القانوني.

من الهام التشديد على أنه، وحتى تقديم هذيْن الالتماسيْن، درجت مصلحة السجون على تقييد اللقاءات بين الأسرى وبين محاميهم من دون توفر أيّ تخويل قانوني لذلك. كما أنّ مصلحة السجون لم تطلب من قبل تسوية صلاحيتها هذه في القانون وواصلت تقييد اللقاءات رغم معرفتها بأنها غير مُخوّلة فعل ذلك. وقد اشتكى محامون كُثُر أمام كاتبة هذه السطور من أنّ مصلحة السجون درجت على منع دخولهم لزيارة الأسرى، في كل مرة كان يُجري فيها الأسرى المُصنَّفون أمنيين إضرابًا جارفًا عن الطعام، وذلك بغية قمع أيّ نشاط احتجاجي شرعي يبادر له الأسرى ضد ظروف الأسر المُذلة، من دون أية صلاحية قانونية تخوّل مصلحة السجون هذا المنع. ولم تعترف مصلحة السجون ولأول مرة بهذا الخطأ إلا بعد تقديم التماس مبدئي بهذا الخصوص.

إلا أنه اتضح فيما بعد أنّ مصلحة السجون كانت أبعد ما تكون عن التنازل في هذه المسألة. ويبدو أنّ اعترافها في المحكمة العليا بأنها أخطأت وتصرّفت بشكل مُنافٍ للقانون، جاء ظاهريًا ليس إلا. وقد فضلت مصلحة السجون الانتظار حتى تنجح في نيل مُبتغاها، بطرق أقلّ انكشافًا للمراقبة القضائية. فقد صمّمت مصلحة السجون على رغبتها في المسّ بحقوق الأسرى في الإلتقاء بمحاميهم، سواءً أكانوا مضربين عن الطعام أم كانوا غير مضربين. وعندما تبيّنت مصلحة السجون من أنّ هذا ألغي في المحكمة، توجّهت إلى بيت المُشرّعين وطلبت من أعضاء البيت إنقاذها من ورطتها، عن طريق عرض اقتراح قانون قامت فيه ببلورة حقها في المسّ بحقوق الأسرى ومحاميهم في أيّ وقت، بما في ذلك أثناء الإضراب عن الطعام، حيث تُعرّف أوامر السجون مثل هذا الإضراب على أنه مخالفة تأديبية (مخالفة سجن). وكما أسلفنا، ورد في التعديل الجديد لأمر السجون أنّ لمفوض مصلحة السجون ومديري السجون صلاحية تقييد لقاء المحامي بالأسير، في حال كان بوسع هذا اللقاء أن يمكّن من وقوع مخالفة سجن تمس مسًا حقيقيًا بالانصياع والنظام في السجن.

من السهل بمكان أن نفترض أنّ مصلحة السجون ستلجأ إلى استخدام هذا البند مستقبلاً، كلما بدأ الأسرى إضرابًا عن الطعام، وستمنع دخول المحامين عامةً، وبشكل جماعي، لزيارة الأسرى المضربين عن الطعام. مصلحة السجون لا تطرح أيّ تجديد في تصرفها غير القانوني هذا. ولكن، وعلى خلاف الماضي، صار بوسع مصلحة السجون الآن طرح ادعاء قوي من ناحيتها: هي تعمل في إطار صلاحيتها المنصوص عليها في القانون.

من الهام التشديد على أنّ القانون المذكور أعلاه، وللوهلة الأولى، مُعدّ لتقييد حقوق مجمل الأسرى كونهم أسرى، من دون أية علاقة بمكانتهم في السجن أو بتصنيفهم. إلا أنّ الناظر بتمعّن في وثائق مصلحة السجون التي طُرحت على طاولة لجنة الدستور التابعة للكنيست قبل تصديق القانون، سيدرك من دون تردد، أنّ أوامر القانون الإنتهاكية أعِدّت لتقييد حقوق الأسرى المُصنّفين أمنيين فقط، والذين غالبيتهم فلسطينيون طبعًا. وإلى جانب الادعاء بأنه جرت محاولات لتهريب هواتف محمولة لهؤلاء الأسرى (إدعاء سارٍ على كل الأسرى وليس على الأسرى الفلسطينيين وحدهم)، أوضحت مصلحة السجون أنّ محامي الأسرى المُصنفين أمنيين يقوم بدور "بوق لغرض الدعاية والاستعراض السلبي المتعمّد لأوضاعهم في السجون ولسياسة إدارة السجن الإجرامية تجاههم، ظاهريًا". كما أنّ مصلحة السجون وصفت محامي أولئك الأسرى على أنهم "مُعرّفون مع الأسرى الأمنيين ومُمَوّلون من طرف جمعيات فلسطينية كل غايتها الحرص على رفاهية الأسير... والاعتناء بكل احتياجاتهم (احتياجات الأسرى) وأن يكونوا بوقهم في الخارج".

من الواضح في هذه الحالة، إذًا، أنّ ما مثل أمام مصلحة السجون عند طلبها تشريع هذا القانون، لم يكن أمن الدولة، بل هي المدارك الحياتية التي وُصفت آنفًا، والتي تسعى نحو إخفاء الفلسطينيين، كونهم فلسطينيين، وإخراس أصواتهم، وهي التي وجّهت مصلحة السجون باتجاه طرق أبواب المُشرّع بطلب تشديد السيطرة عليهم، باسم الأمن.

المحكمة العليا لا تلغي بسهولة قوانين مشرّعة

الإمكانية القضائية المتوفرة أمام كل إنسان متضرر أو كل ذي شأن، والمشتكي على عدم قانونية قانون ما، هي التوجه إلى المحكمة العليا لإلغاء هذا القانون. إلا أنّ التجربة علّمتنا أنّ إلغاء المحكمة لقانون ليس بالأمر الهيّن، ومن المتوقع أن يصطدم التماس لإلغاء قانون غير دستوري بمماطلة كبيرة. ومن الصعب تجنب الانطباع بأنّ هذه المماطلة الطويلة التي تتّبعها المحكمة العليا في البتّ في التماسات تطلب إلغاءً لتشريعات رئيسة، وخصوصًا تلك التي تتناول مسائل حسّاسة (التدخّل في صلاحيات أذرع الأمن في وضعية احتلال، وعلاقة الدين مع الدولة وغيرها)، هي مُحفِّز لاستمرار استخدام المُشرِّع كأداة لانتهاك حقوق الإنسان. وفي غياب أمر فوري يمنع بدء سريان القانون إلى حين الحسم في شأنه، تقوم المحكمة العليا بشَرعَنة تفعيل القانون لسنوات طويلة. وهكذا تُداس حقوق الإنسان بفظاظة، بتصريح من القانون وبتصديق من المحكمة.

مُعطى آخر يلعب في ملعب سلطات الأمن وسائر السّلطات الأخرى التي تستغل "كرم" المُشرّع الباذخ وخضوعه المنفلت أمام مطالب السلطات، هو موافقة المحكمة العليا على التدخل والأمر بإلغاء أوامر قانون غير دستورية في حالات نادرة فقط، يمكن تعدادها بسهولة. للطالب الجامعي في سنته الأولى في قسم القضاء والذي يطلب معرفة السبب من وراء حذر المحكمة العليا الكبير في إلغاء قانون، يُقال عادةً إنّ الأمر مطلوب، من ضمن سائر الأسباب، إنطلاقًا من مبدأ فصل السلطات ومن رغبة المحكمة في الإمتناع عن التدخل في صلاحيات الكنيست كسلطة تشريعية. وينبع هذا الإمتناع، من ضمن سائر المنابع، من السعي نحو احترام رغبة المُشرّع ونواياه والصلاحية المعطاة له لتشريع معايير قضائية، حتى لو كان من الصعب التسليم أحيانًا مع أخلاقية وقيَمية هذه المعايير.

وعن طريق تغليف النصوص التشريعية بعباءة أمنية يدعمها الـ"شاباك"، ومن خلال توسيع مصطلح "لأسباب أمنية"، تنجحُ السلطة التنفيذية في دفع سياستها والالتفاف على قرارات المحكمة العليا. وهي تنجح في القيام بذلك حتى في غياب أية صلة بين هدف التشريع الذي تقترحه وبين أمن الدولة. ويبرز هذا الأمر خصوصًا في التعديل على قانون المواطنة، وهدفه السّاطع هو أيديولوجي وهو كبح التهديد الديمغرافي الآتي من العرب. وتبغي التسويغات الأمنية خدمة هدفيْن اثنيْن: الأول، وهو اللعب على الأوتار الصحيحة عند أعضاء الكنيست للفوز بتأييدهم؛ والثاني، تمرير رسالة مع تحذير مُسبق للمحكمة العليا، بأنّ الحديث يدور عن شأن أمني خالص، خاضع لاعتبارات مهنيين، وليس لاعتبارات قضاة. وبهذا يتمّ الفصل بين شؤون أمنية وبين شؤون مدينية، التي لا يُعتبر التدخل فيها لاغيًا في جوهرها. وكما هو معلوم، لا تسارع المحكمة العليا إلى التدخل في اعتبارات أمنية تخصّ الدولة، خصوصًا في التشريع "الأمني". لا مكان هنا للتعجب، إذًا، من النقد اللاذع الذي وجّهه ضباط الجيش الإسرائيلي إلى المحكمة العليا مؤخراً، لأنها تجرأت على التدخل في شؤونهم "المهنية". وبالنسبة لأولئك الضباط، فإنّ تدخل المحكمة العليا في صلاحياتهم لاستخدام الفلسطينيين كـ"دروع بشرية" هو خرق لتقليد استمر لسنين طويلة في امتناع المحكمة عن التدخل في شؤون الأمن. إنّ مطلب الجيش إجراء مداولة إضافية في هذا الموضوع هو تدليل على مداركه الثابتة، بأنّ التدخل في عمله واعتباراته ليس خطوة شاذة بشكل متطرف، بل هي خطوة شاذة غير مُحتَمَلة.

_____________________________________

(*) محامية في مركز "عدالة".