الإفقار كسياسة- ثعبان الفقر والضائقة يلتف حول الأقلية العربية

"الفقر المفروض" - هاتان الكلمتان تصفان جيدا الحلقة المفرغة التي يعيش فيها الكثيرون من أبناء الأقلية العربية في إسرائيل، إذ تشير كافة المعطيات والنتائج، والواقع الحياتي اليومي، وكذلك مختلف الدراسات إلى أن ثعبان الفقر والضائقة يلتف حول الأقلية العربية ويقوم بخنقها شيئا فشيئا. وتدل جميعها على أن غالبية العوامل المبلوِرة والمغذية لهذا الفقر بهدف ترسيخه تنبع من نفس المصدر، وهو ما يعرقل تطور وتقدم الأقلية العربية في غالبية مجالات الحياة ويرسّخ مكانتها المتدنية.

مقدمة

"الفقر المفروض" - هاتان الكلمتان تصفان جيدا الحلقة المفرغة التي يعيش فيها الكثيرون من أبناء الأقلية العربية في إسرائيل، إذ تشير كافة المعطيات والنتائج، والواقع الحياتي اليومي، وكذلك مختلف الدراسات إلى أن ثعبان الفقر والضائقة يلتف حول الأقلية العربية ويقوم بخنقها شيئا فشيئا. وتدل جميعها على أن غالبية العوامل المبلوِرة والمغذية لهذا الفقر بهدف ترسيخه تنبع من نفس المصدر، وهو ما يعرقل تطور وتقدم الأقلية العربية في غالبية مجالات الحياة ويرسّخ مكانتها المتدنية.

إن غياب التأييد والمساندة لتطوير مبادرات عمل خاصة، وغياب الموارد اللازمة لإقامة صناعة أو بناء اقتصاد محلي قادر على البقاء، أو في المقابل، غياب التأييد والمساندة لمحاولات الاندماج والانصهار في الاقتصاد المركزي، كلّ ذلك يضع المصاعب أمام الجهود المبذولة لاختراق هذه الحلقة المفرغة. زد على ذلك أنّ الأقلية العربية غير ممثلة في دوائر صنع القرار، وليست شريكة في بلورة وصياغة السياسة، ولا في تقسيم الموارد، وليس بمقدورها التأثير فعليا في هذه العمليات. تضافر هذه العوامل كافة، يصّعِب إيجاد الحلول للضائقات، ويخلق ديناميكية خطيرة، وبخاصّة في ظل غياب آفاق "مغايرة" لتطور يزرع بذور الأمل.

في هذا الصدد لا مجال للخلط. فالفقر هو مصدر للاعتماد المتزايد على الدولة، ولتدنّي مستوى الحياة، ولارتفاع وفيات الأطفال، ولخلق مستوى ثقافي منخفض، وللبطالة ولعدم القدرة على الانخراط في سوق العمل. هذه ظروف ضرورية للحفاظ على دائرة الفقر، وترسيخ حالة الدونية، واليأس الآخذ في التفاقم في صفوف الأقلية العربية في إسرائيل. وقد تم توثيق هذا الواقع أكثر من مرة في وثائق رسمية للدولة. ففي تقرير مراقب الدولة رقم (52) "ب" للعام 2001، أشيرَ إلى وجود مظاهر تمييز مستمر منبثق من مؤسّسات دولة إسرائيل ضد مواطنيها العرب. كذلك الأمر في تقرير لجنة أور، إذ لم يتجاهل الواقعَ هذا عندما وصف حالات الخنق والفقر والتمييز ودفع الأقلية العربية إلى هامش المجتمع. لقد ازداد معدل حالات الفقر في أوساط العائلات العربية ثلاثة أضعاف ما لدى العائلات اليهودية. فضائقة الفقر لدى العائلات العربية قائمة في كافة أنماط العائلات، وهي ليست ناجمة عن كبر العائلة وعدد أفرادها فحسب. الفقر في الوسط العربي متجذر أكثر منه في أية شريحة أو فئة أخرى من فئات الدولة. ولا تساعد المخصصات ومدفوعات الرفاه الاجتماعي الأخرى في تخليص غالبية العائلات الفقيرة من الضائقة التي تعيشها. ولم تتحوّل العائلات العربية إلى بؤر للفقر والبطالة والإحباط فحسب، وإنما إلى مجموعة أقلية مجرّدة من أيةّ آليّة تمكين وتقوية. والأخطر من ذلك أنها طورت ارتباطا وتعلقا متزايدا وخطيرا بمِنَن الدولة وهباتها لإعالة نفسها، بواسطة مخصّصات التأمين والرفاه الاجتماعي.

هذا الوضع آخذ في التدهور في السنوات الأخيرة، سواء كان ذلك بسبب غياب معالجة العوامل والأسباب التي أوجدته، التي تفاقمت وازدادت حدتها في السنوات الأخيرة، أو بسبب التدهور المستمر على صعيد الوضع الاقتصادي في الدولة. فالبرامج، والخطط الاقتصادية التي تمحو كل علاقة وذكر لدولة الرفاه الاجتماعي، والاتجاه الرأسمالي الجارف الذي يجتاح الدولة، والتغييرات البنيوية في الاقتصاد الإسرائيلي، كلّ هذه تكرّس وتثـبّت دونيّة أبناء الأقلية العربية الذين لا يملكون مستوى تعليم عاليًا، ويفتقرون إلى الموارد. كذلك تساهم في تكريس هذا الوضع الحربُ والمقاطعةُ ضد الأقلية العربية من المؤسسات الحكوميّة، ومن قطاع الأعمال والصناعة، ومن المدنيين.

سأحاول في هذا المقال توفير صورة مقارنة ومحتلنة لنسبة الفقر في الوسط العربي، مقابل نسبته في أوساط مجموعات أخرى داخل دولة إسرائيل. لتحقيق هذه الغاية تم فحص ودراسة أوجه الشبه والخلاف في مميزات العائلات الفقيرة في الدولة. وتم فحص معدّلات الفقر قبل دفع مخصصات الرفاه والتأمين الاجتماعي والضرائب المباشرة، وفحص مدى مساهمة هذه المخصصات بصورة فعلية وحقيقية في إخراج هذه العائلات من دائرة الفقر في الوسط العربي: ما هي الشرائح التي تساعدها هذه المخصصات أكثر من غيرها، ولماذا؟ ما هي العلاقة بين مستوى النمو الاقتصاديّ وبين الفقر في أوساط الأقلية؟ كما تم فحص المدفوعات والمخصصات غير المباشرة التي تدفعها الدولة، والميزانيات والموارد غير المباشرة التي تدفع للفئات المختلفة عبر "القطاع الثالث" والمنظمات التطوعية: ما حجم هذه الميزانيات؟ من يتلقاها؟ ما حصة كل فئة وشريحة من هذه المدفوعات؟ وما مدى تأثير هذه المدفوعات في الخروج من دائرة الفقر؟

الفقر في إسرائيل

يثير تعريف الفقر وتحديد مقاييسه نقاشًا وجدلاً، لما لهذا التعريف والمقاييس من أثر مباشر على نتائج قياس الفقر وتحديد نسبته ودرجاته؛ فالمقياس ذو المعايير المختصرة (المطلق) يقصر اهتمامه في نسبة من يحيون تحت خطّ الفقر؛ بينما يهتمّ المقياس ذو المعايير الموسّعة بفحص الإقصاء الاجتماعي. بعبارة أخرى، المقياس المطلق يكتفي بعرض نسبة الفقراء من مجمل السكان (معدل الفقر)، ومن هنا تأثـّره الشديد بسياسات الحكومة؛ أما المقياس الموسَّع فيعكس عمق الفقر (معدل الابتعاد عن خط الفقر) والتفاوت داخل جمهور الفقراء، ومن هنا فهو الأكثر ملاءمةً لتشخيص وتحديد الفئات الواقعة في ضائقة شديدة.

ثمّة تخبط أساسي آخر: وفق أي دخل ينبغي قياس معدّلات الفقر؟ هل يتم قياس الفقر وفق الدخل الإجمالي، أم وفق الدخل الصافي (بعد احتساب الضرائب ومخصّصات التأمين)؟. يتم تحديد خط الفقر (وفق المقياس المطلق) في إسرائيل باعتباره يعادل 50% من الدخل الصافي المتوسط للفرد. وتعتبر الأسرة فقيرة إذا كان الدخل الصافي، وفقا لعدد أفراد الأسرة الواحدة، دون خط الفقر.

تتفاقم وتتسع في العقود الأخيرة حدة الفجوات الاقتصادية في دولة إسرائيل بشكل مقلق. فقد ازداد التفاوت في الدخل، في الثلاثين سنة الأخيرة، وهو (هذا التفاوت) اليوم يصل إلى مقاييس غربية. كما زاد باستمرار عدد الأسر التي تعيش تحت خط الفقر، وفق مقياس الدخل الإجماليّ العام لها: فقد بلغت نسبة هذه الأسر في السبعينيـّات نحو 25% من مجمل السكان، أما اليوم فإن نسبة هذه الأسر التي تعيش تحت خط الفقر تصل إلى نحو 30% من مجمل السكان. وبما أن التفاوت في مجمل الدخل العام آخذ في الازدياد، فقد استوجب التطلع إلى تفادي المس بالدخل الصافي زيادةً ملموسة (وعلى مدى فترة مديدة) في حجم المخصصات والهبات والمساعدات التي قـُدّمت لهذه الأسر. وقد كان بالإمكان تحويل هذه المدفوعات والهبات لأغراض الرفاه الاجتماعي، طيلة قيام دولة إسرائيل بتقليص مصاريف الأمن والميزانيات المحولة لقطاع الأعمال ومصاريف التمويل، منذ بداية الثمانينيّات، لكن هذه العملية توقفت في التسعينيـّات.

إذا أضفنا، إلى ذلك، التغييرَ الذي طرأ في المفاهيم الاقتصادية الاجتماعية لدى السلطة، واعتمادَ سياسة رأسمالية ترتكز إلى اقتصاد السوق، وخمودَ الاقتصاد في السنوات الأخيرة، مع ما رافق ذلك من المطالبة المستمرة بزيادة ميزانية الأمن وباستمرار الاحتلال، فليس من العسير التكهن بالواقع الاقتصادي الاجتماعي المرتقب في السنوات القادمة؛ إذ ينتظرنا تراجع اقتصادي وتعميق للتفاوت وللفقر في الدولة، مع كل ما يترتب على ذلك من إسقاطات على الشرائح المهملة والمُستضْعَفة، وبخاصّة على الأقلية العربية التي تعيش على هامش الاقتصاد الإسرائيلي ويشكّل فقراؤها نسبة عالية من أوساط الفقراء عامّةً في الدولة.

ثمّة دراسات وأبحاث عديدة تفسر الفروق في مستويات الفقر بين المجموعات المختلفة في الدولة. ترسم غالبية هذه الأبحاث صورًا متشابهة ومميزات متماثلة لعوامل تولـّد الفقر. وقد تركزت هذه التفسيرات في العوامل المؤثرة في عمل الأفراد وفي مستوى الدخل الذي يجنونه من عملهم، باعتبارها مركّبات مركزية في ما يتعلـّق بتصنيف دخل العائلة الواحدة فوق خط الفقر أو تحته، إضافة إلى التطرق إلى تأثيرات عوامل سياسية مختلفة (في مقدمتها المخصصات والتغييرات التي طرأت عليها) على "معدل الفقر".

من بين العوامل المركزية التي وردت في هذه الأبحاث، يمكن الإشارة إلى العوامل الآتية:

1- غياب عمل رب الأسرة كعامل مركزي للفقر. فوجود أكثر من معيل واحد قد يضمن البقاء فوق خط الفقر.

2- ليس في مقدور معيل يتقاضى راتبًا حتّى الحد الأدنى من الأجور ضمانُ دخل يبقي العائلة فوق خط الفقر، حتى إذا أضفنا إلى دخله مخصصات تأمين الأولاد.

3- نوعية المهنة وحجم الراتب يؤثران في احتمالات العيش تحت خط الفقر.

4- يقلل المستوى التعليمي والشهادة التي يحملها رب الأسرة من احتمالات الفقر.

5- يؤثر عدد الأولاد داخل الأسرة تأثيرا كبيرا على احتمالات العيش تحت خط الفقر؛ فكلما ازداد عدد أفراد الأسرة، ازداد حجم الدخل المطلوب لتوفير مستوى معيشة معقول.

حين تكون هذه العوامل المؤثّرة من نصيب فئة سكّانيّة كاملة وسِمَةً لمجموعة كاملة، لا من نصيب مواطنين فرادى، حينذاك تصبح مؤشّرًا إلى وجود سياسة عليا موجَّهة. إذ لا تصبح هذه الأسر فقيرة لكونها تستوفي مميزات الأسرة الفقيرة، وإنما لأن سِمات "مجموعة" بأكملها تُمْلي سِمات الفقر؛ أي أنه يكفيك أن تنتمي إلى جمهور معين كي تزيد من احتمالات كونك فقيرا.

تشكل نسبة الأسر العربية الفقيرة، من مجمل الأسر الفقيرة في الدولة، ثلاثة أضعاف نسبتها العامة في الدولة؛ إذ تعيش نحو 50% من الأسر العربية تحت خط الفقر، وهي تشكل نحو ثلث الفقراء في إسرائيل. وتشكل الأسر العربية الفقيرة مع الأسر الفقيرة من اليهود المتزمتين دينياٌ (الحريديم) نحو 50% من مجمل الفقراء في الدولة. وتشير الأبحاث، بصورة غير مباشرة، إلى أن هاتين الفئتين من المجتمع ليستا فقيرتين لكونهما تستوفيان مميزات الأسر الفقيرة، وإنما، بصورة خاصّة، لكونهما من العرب والحريديم ( على الرغم من الفرق الجوهري في أسباب الفقر لدى الفئتين). فقد دلت بعض الأبحاث على أن 75% من أسباب كون الأسر العربية تعيش تحت خط الفقر ليست ناجمة عن أسباب ديموغرافية، وإنما عن النقص في التعليم، وعن وجود عدد معيلين منخفض، وعن تمييز في سوق العمل، وعن محدوديّة فرص التشغيل، وعن ارتفاع مستوى البطالة، وعن نوع المهن المزاولة.

وثمة فروق كبيرة في قياس الفقر قبل وبعد تدخل الدولة عن طريق دفع المخصصات والضرائب، في أوساط مجموعات مختلفة في الدولة. ففي الوسط اليهوديّ، هناك فرق كبير بين معدل الفقر قبل احتساب المدفوعات والضرائب وبينه بعد احتسابها. بالإضافة إلى ذلك، لوحظ في العقد الأخير انخفاض معتدل واستقرارٌ ما في معدل الفقر في أوساط الأسر اليهودية. في المقابل، في الوسط العربي، نلمس - منذ مطلع التسعينيّات حتّى اليوم - ارتفاعًا مستمرًّا في معدل الفقر. إذ لا يساهم تدخل الدولة، بواسطة مدفوعات ومخصصات الرفاه، في تقليص حالة الفقر بصورة ملموسة، ممّا يشير إلى مدى عمق وتجذر الفقر ومدى خطورة المشكلة.

الفقر في أوساط الأقلية العربية: سياسة عليا لا "ثقافة فقر"

في العام 2003، بلغ عدد الأسر العربية التي تعيش تحت خط الفقر نحو 100 ألف أسرة، أي ما يقارب 500 ألف نسمة، منهم نحو 300 ألف من الأولاد. تَعتبر دولة إسرائيل الفقراءَ المذنبَ الأساسي في خلق الحالة التي يعيشونها. ففي مؤتمر هرتسليا السنوي للعام 2000، على سبيل المثال، وإلى حدّ بعيد في الندوة التي عقدت حول موضوع التكافل والعدل الاجتماعيّين في عصر العولمة، التي نظمتها مجلة "مفنيه" (منعطف)، بمشاركة بعض الأكاديميين، طُرحت مزاعم تتعلّق بالحاجة الملحّة لمعالجة بؤر الفقر في إسرائيل، ورفع نسبة المنخرطين في قوة العمل، وخفض حجم البطالة في صفوف فئتين رئيسيتين في الدولة، بُغية "تحسين" وَ "ترقية" مستوى نشاطها الاقتصادي ليصل إلى مصافّ المستويات القائمة اليوم في الدول الغربية. هاتان الفئتان المتّهَمتان – وفق هذه المزاعم - بتأثيرهما السلبي هما: الأقلية العربية واليهود الحريديم. فهما، على حدّ زعم الزاعمين، المسئولتان عن وضعهما، وذلك بسبب طابع كلّ منهما و"ثقافة الفقر" الراسخة لديهما. فهما تفضلان الاعتماد على الدولة على الخروج إلى سوق العمل. وابتغاءَ إحداث تغيير اقتصادي في الدولة، على كلّ منهما المرور في عملية تغيير للوعي والثقافة على صعيد علاقتهما بالدولة. ثمّة ادعاء آخر طُرح لتبرير المعطيات الاقتصادية السلبية (الرسميّة) في أوساط الأقلية الفلسطينية داخل إسرائيل، مُفاده وجود مصاعب خاصّة في قياس وتحديد دخل الأسرة في مجتمع هذه الأقلّيّة، تنبع من الاقتصاد المنـزليّ الذي يميز - على حد زعمهم - البيوتَ العربية، والذي لا يصرَّح عنه للسلطات.

هذا لاينفي وجود أبحاث تشير إلى أسباب أخرى للفقر؛ منها: السياسة الحكومية؛ التمييز والإقصاء؛ عجز الأقلية العربية عن مواجهة التحوّلات التي تطرأ على الاقتصاد الإسرائيلي وعن الاندماج فيه؛ المنافسة مع العمال الأجانب؛ ونقل المصانع الإسرائيلية إلى دول أخرى.

كذلك فإن التمييز في الأجور، وغياب أماكن العمل، وغياب اقتصاد محلي قوي ونشِط، هذه كلّها تشكّل مصدرًا لدفع نِسب عالية من أبناء الأقلية العربية إلى ما دون خط الفقر، وإلى مستوى الدخل الأقل. كما ذكرنا، إنّ جزءًا يسيرًا فقط من عوامل الفقر يفسَّر بالاستناد إلى المميزات الفردية الخاصة بالأقلية العربية. إضافة إلى ذلك، لا يشكّل العمل، في أوساط الأقلية العربية، صمّامَ أمان من الفقر. فكثير من العائلات التي يعمل فيها رب الأسرة تعيش دون خط الفقر، وذلك، في الأساس، لأن الجمهور العربي في إسرائيل يحتل المراتب الدنيا في سلم الفروع الاقتصاديّة، وفي المهن المزاوَلة، وفي مستوى الأجور، وعدم المساواة في فرص العمل. ورغم التحسن المنهجيّ والملحوظ الذي طرأ على المستوى التعليميّ لدى القوى العاملة العربية، لا يزال التمييز في فرص العمل قائمًا. إذ ليس في مقدور العرب، حتّى اليوم، استنفاد كافة مهاراتهم في سوق العمل في إسرائيل، ولا تزال غالبية قوة العمل العربية في إسرائيل تتركّز في الفروع الاقتصاديّة والمهن المتدنية الأجور.

يبلغ دخل العائلة، في أوساط الأسر العربية (وفقا لمعدل الدخل العام 1998)، 72% من دخل الأسرة اليهودية. وهو لا يعكس أنماط العمل للوسط العربي فحسب، بل يعكس المردود المنخفض للعمال العرب. وتبرز الفجوات في معدل الدخل بين اليهود والعرب، بصورة خاصّة، في الدخل من غير العمل (كالدخل من الأملاك والثروة والتقاعد). فالدخل من هذه المصادر الأخيرة يبلغ لدى العائلة العربية 9% من مجمل دخل العائلة اليهودية من هذه المصادر ذاتها. في المقابل، الأسر العربية مرتبطة معيشيًّا بمدفوعات الإعالة أكثر من ارتباط الأسر اليهوديّة بها؛ إذ تزيد هذه المدفوعات (وبخاصّة مخصصات مؤسسة التأمين الوطني) بنحو 12% لدى الأسرة العربية عن معدل المخصصات المدفوعة لعائلة يهودية، إذ تشكل نحو 23% من دخل الأسرة العربية، مقابل 15% من دخل الأسرة اليهودية. هذه الظاهرة (التعلّق السالف ذكره)، إضافة إلى كونها وليدة التضخّم العدديّ لأفراد الأسرة العربيّة، ترتبط كذلك بارتفاع احتمالات البطالة والإقالة والقذف خارج دائرة العمل لدى المواطن العربيّ أكثر ممّا لدى مواطن يهوديّ تتوافر فيه المواصفات ذاتها. إضافة إلى ذلك، إنّ الفرص المتاحة للموطن العربيّ العاطل عن العمل للعودة إلى سوق العمل مجددا، أو العثور على عمل، أقل من فرص المواطن اليهوديّ. يعكس هذا - في ما يعكس - محدوديةَ فرص العمل في التجمعات السكنية العربية، وعدمَ استعداد أرباب العمل اليهود لتشغيل العرب. كما أن هناك تمييزًا في الأجور تجاه الأقلية العربية؛ فعلى سبيل المثال، كان أجر اليهود أعلى من أجر العرب الذين يحملون مواصفات مماثلة بنحو 11%، بين العامين 1996-1997، مقابل 18% في مطلع السبعينيّات.

هنالك جانب آخر يجسد عمق الفقر وخطورة المشكلة في أوساط السكان العرب: بُعد الأسرة العربية عن خط الفقر. فبخلاف السكان العرب، ليست الفئة الفقيرة في الوسط اليهودي بعيدة كثيرًا عن خط الفقر، إلى حدٍّ تستطيع معه مخصصات الإعالة والمعونة إخراجَ نحو خمسين بالمئة من العائلات اليهودية الفقيرة من دائرة الفقر. زد على ذلك أن القطاع الثالث (منظمات الإعانة التطوعية وغيرها) والمنظمات شبه الحكومية، تشكل حماية اجتماعية اقتصادية، توفر دعمًا مادّيًّا للسكان اليهود بشكل عام وللحريديم بشكل خاص. ففئة اليهود الحريديم تحظى بشكل أساسي بتمويل من الحكومة، لكنها تحظى بتبرعات خاصّة تساعدها على الخروج من دائرة الفقر أو على مواجهة الصعوبات المادّيّة بنجاح أكبر (وهو ما لا ينعكس في المعطيات الرسمية) من شريحة الأقلية العربية، التي لا تكاد تحظى بمثل هذه المساعدات، وبخاصّة تلك التي ترصدها وتقدمها الدولة.

تشير المعطيات إلى ظاهرة أخرى مثيرة للقلق: غياب العلاقة بين معدل الفقر في الوسط العربي (وفق مجمل الدخل العام، قبل دفع الضرائب والمدفوعات الأخرى) ومستوى النمو الاقتصادي في الدولة. في فترات النموّ والازدهار، انحسرت رقعة الفقر لدى المواطنين العرب (أو اتّسعت) بفعل تدخّل الدولة (عَبر المخصصات)، ولم يكن الأمر نتيجة لمعالجة المشاكل والعوامل الأساسية. فقد طرأ، في أواسط التسعينيّات، على سبيل المثال، تغيير إيجابي على معدّل الفقر الذي قيس وفق الدخل الصافي، وفي الأساس نتيجة لتعديل قانون مخصصات الأولاد ومساواة المخصصات المدفوعة للأولاد العرب بتلك المدفوعة للأولاد اليهود. وانعكس هذا التحسن في انخفاض معدّل الفقر وفق الدخل الصافي، لا في معدّل الفقر وفق الدخل الإجماليّ. هذا الأمر يثبت أن مسبّبات الفقر الأساسيّة (وفق مصطلحات الدخل الإجماليّ) لم تُجتثّ على مدار التسعينيّات وحتّى اليوم. فالانخفاض الذي كان يطرأ على معدّل الفقر نبع دائما من تدخل الدولة - وهو تدخل لا يحسّن الوضع كثيرا.

وبالاضافة إلى ذلك لم تُمنح الأقلية العربيّة أية إمكانيات لزيادة وتعزيز آليات داخلية لمواجهة هذه الظروف. التحسن الطفيف الذي طرأ نجم عمليا عن تغييرات وتعديلات قانونية؛ وفي غياب علاج أساسي لمصادر الفقر من شأن الوضع أن يتدهور بسرعة نتيجة لتشريع إضافي. والدليل على ذلك أننا نشهد في السنوات الأخيرة تراجعًا في كل ما يتعلق بسياسة مخصصات الرفاه الاجتماعي ومجمل المخصصات التي تدفعها الدولة بشكل عام، وتلك المدفوعة للوسط العربي بشكل خاص. يتجلى هذا التدهور في الارتفاع المستمر والمتزايد في نسبة الفقر في السنوات الأخيرة، وهو ارتفاع سيستمر بحدة أشدّ في السنوات القادمة، عندما تطبق كافة التقليصات والمعايير المشددة الجديدة بخصوص شروط واستحقاقات الحصول على مخصصات التأمين الوطني، بشكل نهائي. وتتنبأ الأبحاث بارتفاع معدل الفقر وفق مقياس الدخل الإجماليّ بنحو 10%، أي أنه سيرتفع ليصبح 60% في أوساط الأسر العربية، ونحو 50% وفق مقياس الدخل الصافي. وستزيد هذه النسبة على الصعيد القطري عن 20% من مجمل السكان.

* الكاتب باحث في مركز "مدى الكرمل"- حيفا. وهذا المقال مقتطع من دراسة مطولة حول الموضوع صدرت مؤخرًا عن المركز.