حملة الاحتجاجات الشعبية في إسرائيل اختفت رغم تصعيد الضربات الاقتصادية

وثائق وتقارير

تولى اللواء في الاحتياط غيورا أيلاند، خلال أعوام انتفاضة القدس والأقصى، قيادة شعبتي العمليات والتخطيط في الجيش الإسرائيلي، وبعد تسريحه من الجيش تولى رئاسة مجلس الأمن القومي. وهو اليوم باحث كبير في "معهد دراسات الأمن القومي" في جامعة تل أبيب. وتناول في مقاله في المجلة الفصلية "المستجد الإستراتيجي" موضوع مواجهة الجيش الإسرائيلي للانتفاضة تحت عنوان "الجيش الإسرائيلي في الانتفاضة الثانية: استنتاجات وعبر". ويشير إلى أنه ليس واضحا متى انتهت الانتفاضة، التي بدأت في 29 أيلول العام 2000، لكن الوضع الأمني، اليوم، "ليس مختلفا من حيث الجوهر عن الوضع الأمني الذي كان سائدا في السنوات السابقة".

 

وشدد أيلاند على أن التوقيت الذي اندلعت فيه الانتفاضة فاجأ الجيش الإسرائيلي، على الرغم من أن رئيس دائرة الأبحاث في شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية في حينه، عاموس غلعاد، أوصى بعدم السماح بدخول رئيس المعارضة الإسرائيلية وقتئذ، أريئيل شارون، إلى باحات الحرم القدسي، في 28 أيلول العام 2000، وذلك بسبب التوتر الذي كان سائدا في حينه، "فقد كان هناك تفهم بأنه منذ انتهاء السنوات الخمس التي تم تحديدها للتوصل إلى اتفاق دائم، في أيار العام 1999، فإن تفجر العنف هو مجرد مسألة وقت".

وأضاف أيلاند أنه وقع حدثان قبل اقتحام شارون للحرم القدسي وأكدا وجود حالة غليان في الشارع الفلسطيني: الأول هو سقوط عشرين شهيدا فلسطينيا خلال إحياء ذكرى النكبة، في 15 أيار العام 2000، وفي أعقاب مظاهرة فلسطينية اقتربت من موقع للجيش الإسرائيلي قرب رام الله، والثاني كان فشل محادثات كامب ديفيد، في تموز العام 2000. واعتبر أيلاند أن فشل المحادثات أزال الحاجز الأخير لتفجر المواجهات.

وكرر أيلاند في مقاله التأكيد على أن الجيش الإسرائيلي كان يستعد في العام 2000 لمواجهات كبيرة مع الفلسطينيين، وأن الجيش، الذي كان يرأس هيئة أركانه العامة شاؤول موفاز، وضع خططا عسكريا لمواجهة كافة الاحتمالات، وتزود بمركبات مصفحة مضادة للنيران وأجرى تدريبات خاصة لقواته، وبضمن ذلك قوات الاحتياط. وكانت لدى الجيش توقعات بأنه ستكون هناك مواجهات مسلحة. وأضاف أيلاند أنه "استنادا إلى العبرة الإيجابية من أيار 2000 [أي قتل العشرين فلسطينيا خلال إحياء ذكرى النكبة] وإلى العبر القاسية لأحداث ’نفق الهيكل’ [في أيلول العام 1996]، تم إصدار تعليمات واضحة [من قيادة الجيش الإسرائيلي] بوجود نية بالوصول إلى نسب قتل توضح للجميع من هو الجانب القوي" أي أن الجيش سيتعمد قتل أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين خلال المواجهات المتوقعة.

 

الفترة الأولى

من الانتفاضة

 

وتابع أيلاند أنه عندما اندلعت الانتفاضة، اتضح أنها شكلت بالنسبة للجيش الإسرائيلي تحديا معقدا أكثر مما كان متوقعا. فقد كان استعداد الجيش جزئيا. ونبع ذلك، وفقا لأيلاند، من خمسة أسباب: أولا، اتضح لإسرائيل أن الرأي العام العالمي نظر إلى الانتفاضة على أنها شرعية، وهكذا تعاملت معها وسائل الإعلام الدولية. فقد اعتبرت المواجهات أنها نضال ضد الاحتلال. ثانيا، وصف الممارسات الإسرائيلية كاستخدام مفرط للقوة العسكرية ضد المدنيين. وأشار أيلاند، من على بُعد عشر سنوات من الأحداث، إلى أن الجيش الإسرائيلي لم يتزود مسبقا بوسائل غير قاتلة بالكمية والنوعية المطلوبتين، ولذلك، برأيه، اضطر "أحيانا" إلى استخدام النيران الحية بغياب بديل آخر. ثالثا، هو أنه كانت هناك معضلة على المستوى السياسي، تتمثل بأنه تم بذل جهود لوقف المواجهات، مثل مؤتمر شرم الشيخ الذي قاده الرئيس الأميركي في حينه، بيل كلينتون، في 4 تشرين الأول 2000، والحكومة الإسرائيلية أصدرت تعليمات للجيش بضبط النفس. رابعا، "نشوء مشاكل تكتيكية في أعقاب استخدام الفلسطينيين للأطفال الذين تم إحضارهم إلى مواقع الاحتكاك". خامسا، حجم المواجهات وانتشارها الواسع في جميع مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة، وبين العرب في إسرائيل في الأيام الأولى للانتفاضة، وضع صعوبات أمام نشر قوات مدربة ومسلحة بالشكل الكافي في جميع المواقع.

وادعى أيلاند أنه "في العام الأول للانتفاضة كان الجيش الإسرائيلي في حالة دفاع، في حربه مع الفلسطينيين، وفي طريقة تعامله مع وسائل الإعلام وخصوصا الأجنبية، وفي الحاجة إلى تعامله مع شعار ’دعوا الجيش ينتصر’ [الذي أطلقه اليمين الإسرائيلي]". وأضاف أن الجيش لم يكن مستعدا للتعامل مع وسائل الإعلام الأجنبية، التي لم تهتم بتفسيرات السياسيين، وإنما أرادت التحدث مع القادة العسكريين الميدانيين وسؤالهم عن الأحداث الدامية. "والجيش لم يكن مستعدا لذلك، سواء من ناحية الانفتاح المطلوب، أو من ناحية الجهوزية المهنية للضباط الميدانيين فيما يتعلق بإجراء مقابلات صحافية، وخصوصا باللغة الانكليزية، أو من ناحية الذكاء المطلوب بكل ما يتعلق بالسيطرة الإعلامية".

وأشار أيلاند إلى أن التغير في تعامل الإعلام الأجنبي نبع من سبب خارجي، وهو أحداث 11 أيلول 2001 في الولايات المتحدة. ووفقا للكاتب، فإن الهجمات في الولايات المتحدة "وقعت في الوقت الذي انتهى فيه بحث في المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر للشؤون السياسية والأمنية [الكابينيت] في الموضوع الفلسطيني. وكان هذا البحث هو الأول الذي يتم إجراؤه بعد مرور عام على الانتفاضة، والذي حاول الكابينيت خلاله التعامل مع أسئلة مبدئية، مثل كيف ينبغي محاولة حل الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني. وحتى ذلك الحين تركزت أبحاث الكابينيت في استماع الوزراء إلى تقارير استخباراتية وإقرار عمليات عسكرية تكتيكية متنوعة".

وأشار أيلاند إلى أن تأثير أحداث 11 أيلول على حيز المناورة الإسرائيلي والفلسطيني كان فوريا. وفجأة أصبحت هناك شرعية "لمحاربة الإرهاب"، وعمليات الاغتيال الإسرائيلية بحق ناشطين فلسطينيين، التي كانت تلقى تنديدا دوليا واسعا للغاية، باتت شرعية. والرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، الذي كان يتمتع بتأييد دولي واسع في النضال ضد الاحتلال، حتى 11 أيلول، بدأ يتلقى رسائل تطالبه بوقف المظاهرات والعمليات المسلحة. وتم التوصل، تدريجيا، إلى وقف إطلاق نار بين إسرائيل والفلسطينيين. لكن سرعان ما عاد الوضع إلى التدهور والتصعيد.

واعترف أيلاند بأن "إسرائيل ساهمت في التصعيد بواسطة مواصلة عمليات الاغتيال، وحتى أنها بادرت إلى نقل الأعمال القتالية إلى داخل مخيمات اللاجئين في نابلس وجنين. والحدث الذي يجدر ذكره هو اغتيال رائد الكرمي، النشيط المركزي في فتح، في طولكرم في كانون الثاني العام 2000". واعتبر الفلسطينيون اغتيال الكرمي خرقا لتفاهمات غير مكتوبة. وأكد أيلاند على أن رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي، شاؤول موفاز، دفع قواته إلى الفتك بمن وصفهم بـ "المسلحين الفلسطينيين". وقد ذكرت تقارير إسرائيلية أن موفاز أمر القوات في حينه بقتل أفراد في الشرطة الفلسطينية أيضا [كتاب: "سهم مرتد" من تأليف الصحافيين رفيف دروكر وعوفر شيلح]. وأشار أيلاند إلى أن شارون، أيضا، لم يذعن إلى طلب الولايات المتحدة إجراء تعاون أمني مع الفلسطينيين.

ورأى أيلاند أن الفترة الأولى من الانتفاضة انتهت في شهر آذار العام 2002، الذي شهد عددا من التفجيرات التي نفذها نشطاء فلسطينيون، وكان آخرها وأبرزها التفجير في فندق "بارك" في مدينة نتانيا، في 29 آذار 2002.

 

الفترة الثانية

من الانتفاضة

 

ورأى أيلاند أن الفترة الثانية للانتفاضة بدأت في شهر نيسان 2002، في أعقاب العملية التفجيرية في فندق "بارك"، وانتهت في العام 2010. وبعد هذه العملية التفجيرية عقد وزير الدفاع الإسرائيلي في حينه، بنيامين بن اليعازر، اجتماعا طارئا. وبعد أن أعلنت حركة حماس عن تبنيها للعملية، قال بن اليعازر لقادة الأجهزة الأمنية إنه ينبغي استهداف حماس وبأقصى قوة. لكن رئيس هيئة أركان الجيش موفاز ونائبه موشيه يعلون أصرا على أنه من أجل قمع الانتفاضة يجب إعادة احتلال كافة مناطق السلطة الفلسطينية [في الضفة الغربية] من أجل إحكام السيطرة الاستخباراتية والعسكرية. وقال موفاز إن ثمة حاجة إلى شهرين، بحيث تتم إعادة احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة خلال شهر، وضرب البنية التحتية للفصائل المسلحة خلال الشهر الثاني. ووافق بن اليعازر على هذا التوجه، وبعد أيام قليلة جدا بدأت حملة "السور الواقي" العسكرية بعد مصادقة حكومة إسرائيل عليها.

وفي تقييمه للتطورات في تلك الأيام كتب أيلاند أن القرارات التي اتخذت خلال اجتماع الحكومة، الذي تمت فيه المصادقة على "السور الواقي"، هي "مثال إيجابي للطريقة التي يصح من خلالها البحث في مواضيع كهذه. وفي هذا السياق تجدر الإشارة بالإيجاب إلى أربعة أمور على الأقل: أولا، جرى بحث ’مريح’ وفي توقيت سمح لجهاز الأمن بإعداد خطة مرتبة واستعراضها أمام الحكومة؛ ثانيا، كانت القرارات، بنظرة تاريخية، صحيحة؛ ثالثا، القرارات كانت واضحة؛ رابعا، أدركت الحكومة أن القرارات التي اتخذت قد تثير نقاشا مع الولايات المتحدة، ولذلك اتفق مسبقا على من سيتحدث مع الأميركيين وإلى أية تسويات بالإمكان التوصل".

وأضاف أيلاند أنه "منذ اللحظة التي تمت فيها المصادقة على الحملة العسكرية، بدون قطاع غزة، تغير الوضع الأمني بسرعة... واتضح أن إدخال قوة كبيرة مع قوة نيران كبيرة... ترافقها عمليات استخباراتية آنية يتم تزويدها بواسطة طائرات [تجسس] صغيرة بدون طيار وبواسطة قدرات تصنت عالية، بإمكانها ضمان إنجازات سريعة وبثمن متدن نسبيا. وكان الأهم من ذلك القدرة على استغلال السيطرة السريعة لمواصلة السيطرة الميدانية الناجعة. وكان هذا من دون شك النجاح الأبرز للجيش الإسرائيلي والشاباك منذ نيسان 2002".

واعتبر أيلاند أن ثلاثة أسباب ساهمت في تحسين الوضع الأمني، منذ نيسان 2002 وحتى اليوم: السبب الأول هو بناء الجدار العازل، وأنه "أثبت نفسه كوسيلة فعالة للغاية". والسبب الثاني هو السيطرة الأمنية الإسرائيلية، العسكرية والاستخباراتية، على الضفة الغربية. والسبب الثالث هو التعاون الأمني مع أجهزة الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية. وأضاف أيلاند أن هناك عاملين سرّعا هذا التعاون، وهما النشاط الحثيث للجنرال دايتون وقرار رئيس الحكومة الفلسطينية، سلام فياض، تحقيق الاستقرار الأمني كشرط ضروري لإقامة دولة فلسطينية في المستقبل.

 

العبر المركزية

 

رأى أيلاند أن هناك أربع عبر أساسية بالإمكان استخلاصها من مواجهة الجيش الإسرائيلي وأدائه خلال الانتفاضة:

الحاجة إلى الليونة: رغم أن الجيش الإسرائيلي استعد جيدا لاندلاع الانتفاضة، إلا إنه لم يكن مستعدا بالشكل الكافي لمواجهة الجوانب الإعلامية والسياسية. كذلك فإنه في المجال العسكري المحض، ينبغي على الجيش ملاءمة نفسه بسرعة بين وضع يواجه فيه مظاهرات مواطنين ووضع يكون التهديد المركزي فيه عمليات مسلحة. وأضاف أيلاند أن نقطة هامة أخرى يجب أن يوليها الجيش الإسرائيلي أهمية تتعلق بالتعامل مع قوات الأمن الفلسطينية. ووفقا للكاتب، كان الجيش الإسرائيلي ينظر إليهم كحلفاء تارة، وكجهات غير ضالعة في العمليات الفلسطينية المسلحة تارة ثانية، وكأعداء تارة ثالثة. ودعا في هذا السياق إلى دراسة صورة الوضع في هذه الناحية بين حين وآخر.

أهمية الاستخبارات: بعد أن أصبح تهديد "الإرهاب" [أي النشاط المسلح] التهديد المركزي، اتضح أن جمع المعلومات الاستخباراتية بمستوى عال بات شرطا ضروريا لمواجهة ناجعة، وأنه يجب أن يستند إلى شبكة جواسيس وتحسين تقنيات التصنت والحصول على المعلومات بواسطة طائرات التجسس بدون طيار. وأشار في هذا السياق إلى ضرورة التعاون في المستويات الدنيا بين جميع أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية.

السيطرة الميدانية: عندما تكون المواجهة مع أنشطة مسلحة، في مناطق مأهولة، يجب اتخاذ قرار فيما إذا كان من الصواب أن يتواجد الجيش في المنطقة المأهولة بصورة دائمة أو الانتشار خارجها. والعامل الأساس الذي ينبغي أخذه بعين الاعتبار هو نوعية المعلومات الاستخباراتية. وإذا ما توفرت المعلومات الاستخباراتية النوعية فإنه توجد أفضليات عسكرية كثيرة لتنفيذ أنشطة عسكرية داخل المنطقة المأهولة. وإذا لم تكن القدرات الاستخباراتية جيدة فإن تواجد القوات في المنطقة المأهولة سيجعلها هدفا للمسلحين.

علاقة الجيش مع القيادة السياسية: عندما يكون القتال ضد مسلحين غير نظاميين وداخل مناطق مأهولة، فإن أي عملية عسكرية كبيرة ستكون لها انعكاسات سياسية، كذلك فإن أي خطوة سياسية تنطوي على تأثير مباشر على حيز المناورة وحرية العمل العسكرية. وفي وضع كهذا ينبغي على القيادتين السياسية والعسكرية العليا إجراء حوار دائم ومفتوح، أمّا توزيع الأدوار بحيث تقرر القيادة السياسية ما الذي تريده والقيادة العسكرية تقرر كيفية تحقيق ما تطلبه القيادة السياسية فإنه وضع غير صحيح.

وختم أيلاند مقاله بالتوصية بأنه على رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي أن يكون ضالعا في السياسة، من دون الانشغال بها. وعليه سوية مع أعضاء هيئة الأركان العامة أن يأخذوا بالحسبان التبعات السياسية عندما يصدرون التعليمات بتنفيذ عملية عسكرية. والفرضية وكأن الجهاز المدني يعرف كيف يصحح الجيش ليست صحيحة.