عندما يصبح الرغيف غاية النضال في إسرائيل 2004

أحزاب وحركات سياسية

ليس وضع الليكود اليوم بأحسن حال مما تركه عليه نتنياهو، فقد جاء في هذه الفترة أريئيل شارون و"أنقذ" الحزب وأوصله إلى مستوى لم يكن حزب حيروت التاريخي الذي أسس الليكود يحلم به، بحيث أصبحت قوته البرلمانية ضعفي حزب "العمل"، إلا أن شارون حمل "غنيمته" من الحزب وولى إلى إطار سياسي جديد بناه لنفسه

 

عاد رئيس الحكومة الأسبق بنيامين نتنياهو في مطلع الأسبوع الماضي إلى زعامة الليكود، بعد أن اضطر للتنحي عنها قبل ست سنوات، إثر هزيمته النكراء أمام رئيس الحكومة السابق إيهود باراك، زعيم حزب "العمل" في حينه، في الانتخابات البرلمانية التي جرت في العام 1999، وبعد أن حوّل نتنياهو الليكود إلى ركام وحزب هزيل في الساحة السياسية الإسرائيلية.

وليس وضع الليكود اليوم بأحسن حال مما تركه عليه نتنياهو، فقد جاء في هذه الفترة أريئيل شارون، و"أنقذ" الحزب وأوصله إلى مستوى لم يكن حزب حيروت التاريخي الذي أسس الليكود يحلم به، بحيث أصبحت قوته البرلمانية ضعفي حزب "العمل"، مؤسس إسرائيل الأولى، إلا أن شارون حمل "غنيمته" من الحزب وولى إلى إطار سياسي جديد بناه لنفسه، بالشكل الذي بنى فيه الليكود في العام 1974، وبفارق واحد، هو أن شارون بنى الليكود في ذلك العام لغيره، مناحيم بيغن، أما اليوم فقد بنى شارون حزب "كديما" كملك خاص له، مصيره كحزب متعلق بمصير قائده شخصيا.

 

عودة إلى أطلال حزب

 

الانطباع السائد في الحلبة السياسية الإسرائيلية هو أن نتنياهو ما كان بإمكانه أن يصل إلى زعامة الليكود، لو بقي شارون في الحزب، فهذا الحزب الذي كان يضم حتى العام 2003 حوالي 250 ألف عضو، انهار في سجلات الحزب في هذه الفترة إلى 128 ألف عضو، ولكن ليس كلهم أعضاء مخلصين، فغالبيتهم على ما يبدو ستنتقل إلى حزب "كديما" حين تتأكد لها واقعية نتائج الاستطلاعات، وقد برز هذا الأمر في نسبة الذي توجهوا إلى صناديق الاقتراع، لانتخاب رئيس جديد لحزب الليكود حيث وصلت النسبة إلى 40%، بمعنى قرابة 50 ألف ناخب، ولكنهم يشكلون 20% من عدد أعضاء الحزب الذين كانوا مسجلين في العام 2003.

وتوهّم نتنياهو أنه في حال انتخابه لرئاسة الليكود فإن استطلاعات الرأي ستقفز في الحال، لتعيد بعض مقاعد الليكود، لكن ستة استطلاعات للرأي صدرت في الأسبوع الماضي تراوحت نتائجها بين إبقاء الليكود في حضيض 11 مقعدا، وأعلاها منحه 14 مقعدا، من أصل 40 مقعدا كانت لليكود في الدورة البرلمانية المنتهية. كما أن استطلاعًا لصحيفة "يديعوت أحرونوت" أكد أن نتنياهو لا يزال يفتقد لثقة الجمهور به (نعالج الاستطلاع في مكان آخر من هذا العدد).

ويحاول نتنياهو، منذ اللحظة الأولى لإعلان النتائج التي أعطته 44% من مجمل الناخبين، تغيير الانطباع السائد حديثا عن الحزب، بأنه تحول إلى حزب يميني متطرف آخر في إسرائيل، فقد أقرت لجنة الدستور والنظام الانتخابي في الليكود، اقتراح نتنياهو بمنع كل من صدر ضده حكم جنائي من خوض الانتخابات التمهيدية في الحزب للترشح على قائمة الحزب الانتخابية، ويهدف هذا الإجراء إلى استبعاد زعيم جناح اليمين المتطرف المرتبط بحركات يعتبرها القانون الإسرائيلي إرهابية، موشيه فايغلين، الذي تنافس على زعامة الحزب في مطلع الأسبوع الماضي وحصل على 15% من أصوات الناخبين.

وهذا رغم أن نتنياهو نفسه اعتمد كثيرا على جناح فايغلين، الذي يسيطر على حوالي 10% من أعضاء الهيئات القيادية في الحزب، حين كان نتنياهو في موقع الهجوم على رئيس الحزب السابق أريئيل شارون، وكان يحاول استصدار قرارات تعيق سياسته.

وظهر فايغلين على الحلبة السياسية في أوائل سنوات التسعين مع إبرام اتفاقيات أوسلو، وقاد حركة اعتبرها القانون الإسرائيلي حركة تمرد، خاضت نشاطات عنيفة معارضة لاتفاقيات أوسلو، وأدانته محكمة إسرائيلية بتهمة التمرد قبل سنوات. ويدعو فايغلين إلى تطهير عرقي وإلى طرد الفلسطينيين من وطنهم وإقامة دولة يهودية كاملة، وفي العام 2001 تسلل فايغلين والآلاف من أنصاره إلى حزب الليكود، وشكلوا قوة انتخابية مجندة، وأثروا على شكل القائمة الانتخابية في الانتخابات البرلمانية التي جرت في مطلع العام 2003، ثم شارك هذا المعسكر المتطرف في نشاطات معارضة لإخلاء مستوطنات قطاع غزة.

وكما ذكر فإن نتنياهو يطمح من خلال هذا الإجراء إلى إضفاء طابع خاص على الحزب، ولكن هذا الانطباع لا يسببه فايغلين فقط، فلديه معسكر عوزي لنداو، الوزير السابق في حكومة أريئيل شارون، الذي قاد كتلة المتمردين على شارون في كتلة الليكود البرلمانية، ولولا دعم هذا الجناح لنتنياهو لكان الأخير في موقع حرج جدا أمام منافسه الأبرز وزير الخارجية سيلفان شالوم، الذي حصل على ثلث أصوات الناخبين لرئاسة الحزب، بمعنى أن نتنياهو يريد تطهيرًا جزئيًا لليمين المتطرف في الحزب، وليس تطهيرًا كليا.

 

ارتياح في "كديما" و"العمل"

 

أثار انتخاب نتنياهو ارتياحا لدى قادة حزبي "كديما" بزعامة اريئيل شارون، و"العمل" بزعامة عمير بيرتس، وكل واحد منهما من وجهته الخاصة، بعد أن أظهرت استطلاعات للرأي في الأسبوعين اللذين سبقا الانتخابات وكأن المعركة لم تحسم بعد في الليكود، وأن وزير الخارجية سيلفان شالوم قد ينجح في تحقيق انقلاب على نتنياهو ويفوز بزعامة الليكود، وهذا ما تخوف منه شارون وبيرتس.

وكان هذا التخوف نظرا لمواقف شالوم المتقاربة من شارون، فقد أيد خطة إخلاء المستوطنات، ولم يعترض على سياسة شارون، ولهذا فقد تخوّف الأخير من أن انتخاب شالوم قد يعيد لحزب الليكود أصوات الوسط واليمين "المعتدل" الذين هجروا الليكود ونزحوا إلى "كديما".

أما عمير بيرتس، فقد تخوّف من أن انتخاب اليهودي الشرقي سيلفان شالوم، وهو من أصل تونسي، سيكون عقبة أمامه في التوسع بين اليهود الشرقيين، فبيرتس ولد في المغرب العربي، ويطمح لجرف أصوات من اليهود الشرقيين، رغم ميول غالبيتهم لليمين الإسرائيلي، فالعامل الطائفي يلعب دورا في الانتخابات البرلمانية وغيرها.

ويعتقد قادة "كديما" و"العمل" أن انتخاب نتنياهو سيسهل عليهم المعركة الانتخابية، أو على الأقل سيثبتها بالشكل التي تظهر فيه من خلال استطلاعات الرأي، التي تظهر من يوم إلى آخر، والتي تشير إلى أن حزب الليكود انهار إلى حضيض، من شأنه أن يعيد الليكود إلى وضعية حزبه الأصلي، "حيروت" في سنوات الخمسين، بحصوله على ما بين 11 إلى 13 مقعدا، من أصل 120 مقعدا في البرلمان.

والحقيقة أنه لا يمكن الاعتماد كليا على استطلاعات الرأي الصادرة بشكل متسارع في إسرائيل، فلا يزال للانتخابات البرلمانية الإسرائيلية 91 يوما، وهذه فترة كبيرة جدا، قد نشهد فيها عدة تقلبات سياسية وحزبية، ومفاجآت غير متوقعة، على شاكلة الجلطة الدماغية التي أصيب بها شارون في مطلع الأسبوع الماضي، أو تدهور الأوضاع الأمنية والعسكرية، وما إلى ذلك، لكن من جهة أخرى فإن الإقبال على صناديق الاقتراع في الليكود عكس حجم الأزمة التي يعاني منها الحزب، وعلى ما يبدو فإن هناك أساسا معينا لما تشير إليه استطلاعات الرأي في هذه الأيام.

 

نتنياهو يتحين الفرص

 

 

تثبت سيرة نتنياهو السياسية، وفي محطات بارزة منها، أنه "بارع" في انتهاز الفرص. فهو لم يصل إلى أي منصب مركزي إلا من خلال أزمة، فمثلا في العام 1990 تولى منصب نائب وزير الخارجية، حينما كان رئيس الحكومة الأسبق إسحاق شمير مرغما على تعيين الوزير دافيد ليفي وزيرا للخارجية، للحفاظ على موازين القوى في الحزب، رغم أن ليفي اضعف من أن يقود هذا المنصب، وتم تعيين نتنياهو الذي كان سابقا مندوبا لبلاده في الأمم المتحدة، في محاولة لتغطية الجانب "المهني".

ولكن نتنياهو لم يكن مجرد نائب وزير بل كان "عصا شمير" التي تعرقل تحركات ليفي، وأكثر من مرّة نشبت أزمات بين ليفي ونتنياهو على خلفية أن الأخير يعمل من وراء ظهر الوزير، بالتنسيق مع رئيس الحكومة.

ووصل نتنياهو إلى زعامة الليكود لأول مرّة في العام 1993، وكان ذلك أيضا على خلفية أزمة، نشبت بعد هزيمة الليكود في انتخابات العام 1992 بزعامة شمير. ونجح نتنياهو في تحقيق فوز على منافسه شمعون بيريس في رئاسة الحكومة، في الانتخابات البرلمانية التي جرت في العام 1996، بفارق آلاف قليلة من الأصوات، لكن قيادة نتنياهو للحكومة ونهجه في قيادة الحزب، أضعف الليكود كثيرا وأفقده الحكم في العام 1999، لصالح حزب "العمل" بزعامة إيهود باراك.

كما أن الانطباع السائد في الحلبة السياسية هو أن نتنياهو يتنقل في المواقف السياسية حسب تفسيراته لموازين القوى، فعلى الرغم من أنه أيّد خطة إخلاء مستوطنات قطاع غزة، في ستة اقتراعات في حكومة أريئيل شارون التي كان وزيرا فيها وفي الكنيست، إلا أنه مع اقتراب موعد تنفيذ الخطة، واستدراكه لحقيقة أن موقفه هذا لن يسمح له بالتغلب على شارون في المنافسة على زعامة الحزب، سارع إلى الموقف النقيض طمعا في جذب تيار اليمين المتطرف في الحزب إليه، وهذا نموذج أخير وحي لنهج نتنياهو الانتهازي على مدى 17 عاما في عمله السياسي البرلماني.

وإن حقق نتنياهو الآن هدفه فإنه فعل ذلك بثمن انهيار الحزب الذي سعى لتزعمه، فنتنياهو لا يسعى إلى قيادة حزب في المركز الثالث، وحتى إن ازدادت قوته حتى يوم الانتخابات فإنه لن يكون الحزب الأول، حسب المشهد السياسي القائم.

 

رهان نتنياهو

 

يعتقد نتنياهو بأن الليكود لن يبقى في النتيجة التي تتوقعها له استطلاعات الرأي، وهو يراهن على عدة أمور، أولها ظهور تصدعات في حزب "كديما" على خلفية تركيب قائمة الحزب للانتخابات، والثاني التراجع الحاصل في قوة حزب "العمل" حسب استطلاعات الرأي. ولكي يستفيد نتنياهو من هاتين الأزمتين المفترضتين فإنه يسعى الآن إلى إجراء تعديلات في مواقفه السياسية، ويبحث عن صياغات سياسية تحرره من تشدده المفتعل ضد خطة إخلاء المستوطنات، ولكن من المشكوك أن ينجح في إقناع الجمهور ثانية بأن في جعبته ما هو مقنع أكثر مما يطرحه شارون.

مهما يكن فإن انتخاب نتنياهو بدأ يثبّت أكثر فأكثر الخارطة الحزبية لدى الأحزاب الكبيرة في الانتخابات المقبلة. وستتجه الأنظار منذ الآن إلى التركيبة الداخلية لكل قائمة من هذه القوائم، التي لن تؤثر كثيرا على استطلاعات الرأي، إلى جانب الاصطفافات في الأحزاب الأقل قوة، فالوحدة بين كتل أي معسكر ستؤثر هي الأخرى على النتائج النهائية للانتخابات.

 

قراءة في استطلاع جديد

 

نتنياهو الأقل صدقًا وبيرتس الأكثر استقامة وشارون الأكثر قدرة على تولي الحكم

 

 

دلّ استطلاع أخير لصحيفة "يديعوت أحرونوت" على أن رئيس الحكومة أريئيل شارون نجح في إعادة طرح أولويات أجندته السياسية على الحملة الانتخابية، بعد أن توهّم المحللون الإسرائيليون بأن انتخاب رئيس اتحاد النقابات الإسرائيلية، الهستدروت، عمير بيرتس، زعيما لحزب "العمل" طرح بقوة القضية الاقتصادية الاجتماعية. ورغم الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها الشارع الإسرائيلي إلا أنه عاد يعطي أولوية للقائد الذي له أفضلية في القيادة الأمنية من وجهة نظرهم، رغم أن استطلاعًا آخر سبق أن أعطى للقضية الاقتصادية الاجتماعية وزنا أكبر من حيث اهتمام الجمهور.

فقد اعتبر 40% من الذين شملهم الاستطلاع أن شارون أكثر صدقا من غيره، وحصل بيرتس في نفس السؤال على نتيجة 22% ونتنياهو 18%.

وفي رد على سؤال حول من هو القادر على حماية أمن إسرائيل، حصل شارون على نتيجة 53% وبيرتس على 5% ونتنياهو على 21%. وقال 48% إن شارون قادر على محاربة ما تصفه إسرائيل بـ"الإرهاب"، وهنا حصل بيرتس مرّة أخرى على نتيجة 5%، ونتنياهو على 26%. ويعتقد 43% من الجمهور حسب الاستطلاع أن شارون بإمكانه الحفاظ على أمن المواطنين، وحصل بيرتس على 12% ونتنياهو على 16%.

وتنقلب هذه المعطيات حين يكون السؤال حول من يهتم بالمواطن العادي في قضاياه اليومية الحياتية، فقد كان بيرتس أولا بحصوله على 25% وشارون ثانيًا مع 16% وحاز نتنياهو على 13%. وحين يكون السؤال حول من الذي يهتم أكثر بالقضايا الاقتصادية الاجتماعية فإن بيرتس يحصل على 44% مقابل 22% لشارون و16% لنتنياهو. وعلى الرغم من هذا، وهنا يبرز تناقض غير مفهوم، فإن الجمهور يعطي نتنياهو 38% كالأفضل في إدارة الاقتصاد، و24% لبيرتس و18% لشارون، رغم أن سياسة نتنياهو الاقتصادية هي التي قادت للأوضاع الاقتصادية الاجتماعية السيئة في السنوات الأخيرة.

كما أن بيرتس يحظى بثقة الجمهور من حيث نزاهة الحكم، فقد اعتبر 25% من المستطلعين أن بيرتس قادر أكثر على محاربة الفساد، بينما شارون حصل على 16% ونتنياهو على 11%، ويحظى بيرتس بثقة الجمهور من حيث الاستقامة، ففي رد على سؤال حول من هو الأقل استقامة حصل نتنياهو على نسبة 40%، وشارون على 25% وبيرتس على 13%.

لكن الجمهور في المحصلة يمنح الحكم لشارون، فقد اعتبر 66% من الذين شملهم الاستطلاع أن شارون هو الأفضل من حيث قدرته على اتخاذ القرارات الحاسمة وصموده أمام الضغوط، بينما حصل نتنياهو على 16% وبيرتس على 7%، ورغم ذلك فإن 72% من الجمهور يعتبر أن عمير بيرتس قادر على تولي رئاسة الحكومة.

تبرز في هذا الاستطلاع سلسلة من التناقضات، التي تتأثر مباشرة من الإعلام الإسرائيلي بحضوره القوي في حياة إسرائيل اليومية، والذي يصور شارون على أنه القائد العسكري ونتنياهو القائد الاقتصادي وبيرتس القائد الاجتماعي.