إسرائيل: فياض اتفق سرا مع أميركا على اعترافها بدولة فلسطينية مستقلة

وثائق وتقارير

يمثل الجهاز القضائي في الدول أحد أهم أركان النظام، مهما يكن شكله. ويكتسب الجهاز القضائي في إسرائيل، أهمية بالغة، خصوصا أنها تجمع ما بين كون نظامها ديمقراطيا وكونها دولة احتلال. ويعلق أنصار السلام وحقوق الإنسان في إسرائيل آمالا كبيرة وواسعة على الجهاز القضائي وخصوصا المحكمة العليا. وعلى الرغم من أن هذه الآمال مبالغ فيها، بسبب اصطفاف القضاء إلى جانب الإدعاءات الأمنية، إلا أن النظام الديمقراطي والجهاز القضائي الإسرائيليين يفسحان المجال أمام كشف وفضح الممارسات الإسرائيلية.

ولعل أحد أهم المناصب الذي يجمع بين النظام والجهاز المذكورين، وعمليا يفترض أن يكون الجهة التي تحرس الديمقراطية وتطبيق القانون، هو منصب المستشار القانوني للحكومة الإسرائيلية. ويتراكم على طاولة مكتب المستشار القانوني الحالي، مناحيم مزوز، عدد كبير من الملفات، وخصوصا ملفات الفساد ضد كبار المسؤولين الإسرائيليين، وعلى رأسهم رئيس الحكومة، إيهود أولمرت، ما يشهد ويؤكد على أن لا احد فوق القانون. لكن من الجهة الأخرى، فإن جهاز القضاء الإسرائيلي، بمن في ذلك مزوز، يسمح بأن تسود حالة تسيب قانونية في كل ما يتعلق بالضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين، سواء أكان ذلك بممارسات قوات الأمن الإسرائيلية التي تتعارض مع القانون الدولي، أو بممارسات المستوطنين التي تتعارض مع القانون الإسرائيلي نفسه. ويمتنع جهاز القضاء الإسرائيلي من تحقيق العدل في كلتا الحالتين.

نسوق هذه المقدمة قبل التطرق إلى تقارير نشرتها صحيفة هآرتس، يوم الجمعة الماضي (12.12.2008)، واستعرضت فيها ولاية مزوز، التي بدأت قبل خمس سنوات، وتشير التقديرات إلى أنه سينهيها في غضون الأشهر القليلة المقبلة، علما أن ولايته تنتهي رسميا في شهر شباط العام 2010. ومزوز لا ينفي هذه التقديرات، بل يعقب عليها بالقول إنه "لم أعد نفسي أو الآخرين بأني سأبقى ولاية كاملة". وغالبا ما يرتقي المستشارون القانونيون إلى المحكمة العليا، لكن مزوز لم يذكر الوصول إلى منصب قاض في المحكمة العليا ضمن خططه المستقبلية.

ونقلت هآرتس عن مزوز تلخيصه السنوات الخمس الماضية في منصب المستشار القانوني للحكومة بالقول "لقد كنت محظوظا". فقد نظر خلال هذه الفترة، واتخذ قرارات، في عدد كبير جدا من القضايا، بينها خطة فك الارتباط مع غزة وحرب لبنان الثانية والجوانب القانونية لمواجهة إسرائيل سيطرة حماس على قطاع غزة.

عشرات ملفات الفساد ضد شخصيات عامة

إن تلخيص السنوات الخمس الماضية لولاية مزوز، سواء استقال أم لم يستقل، من شأنها إلقاء الضوء على حجم ظاهرة الفساد السلطوية في إسرائيل. ولم يكن في إسرائيل مستشار قانوني اضطر إلى معاينة كمية كبيرة من هذا النوع من الملفات مثلما فعل مزوز. وعلى ما يبدو فإن الإسرائيليين سيتذكرون ولايته خصوصا بسبب ملفات التحقيق ضد كبار المسؤولين الإسرائيليين المتهمين، والذين تمت إدانة بعضهم حتى الآن بارتكاب مخالفات فساد خطرة. ومن أهم قرارات مزوز إغلاق ملف التحقيق ضد رئيس الحكومة السابق، أريئيل شارون، الذي اشتبه بتلقي مبالغ كبيرة بصورة غير قانونية من رجل أعمال إسرائيلي مقابل مساعدته بإقامة قرية سياحية في جزيرة يونانية، وهو الملف المعروف باسم ملف "الجزيرة اليونانية". كذلك سيذكر الإسرائيليون مزوز كمن اتخذ القرار بمحاكمة الرئيس الإسرائيلي السابق، موشيه كتساف، بتهم جنسية. وقراره بمحاكمة النائب الأول لرئيس الحكومة، حاييم رامون، وإدانته بتقبيل جندية تعمل في مكتب رئيس الحكومة رغما عنها. ومحاكمة وزير المالية السابق، أبراهام هيرشزون، بتهمة سرقة أموال من جمعية كان يترأسها، وتمت إدانته. وهناك مجموعة كبيرة من الشخصيات العامة التي قرر تقديم لوائح اتهام ضدها، بينها الوزير السابق تساحي هنغبي وأعضاء الكنيست يحيئيل حزان وميخائيل غورولوفسكي وعومري شارون (نجل شارون الذي قبع في السجن لبضعة شهور) ونعومي بلومنطال ويائير بيرتس وشلومو بينيزري والقاضيتان أوسنات ألون لاوبر وداليا مارك هورنتشيك ومسؤولون كبار في سلطة الضرائب. كذلك كتب مزوز تقريرا شديد اللهجة ضد الحاخام الرئيسي يونا ميتسغر وقاد خمسين ملف تحقيق بتهم فساد ضد رؤساء سلطات محلية.

لكن يبدو أن أهم قرار اتخذه مزوز هو تقديم لائحة اتهام ضد رئيس الحكومة، أولمرت، وهو لا يزال يمارس مهام منصبه، في قضية "ريشون تورز" أو "الفواتير المزدوجة". لكن حتى الآن لم يقدم مزوز لائحة الاتهام، وهو بانتظار تعيين موعد لقيام النيابة الإسرائيلية العامة، وربما هو شخصيا، بإجراء استجواب أخير مع أولمرت حول هذه القضية. والمرجح أن مزوز لن يعلن استقالته من منصبه قبل أن يتخذ قرارا بتقديم لائحة اتهام ضد أولمرت في قضية "المغلفات المالية"، التي يشتبه فيها بتلقي الرشوة من المليونير الأميركي اليهودي، موريس تالانسكي، ولائحة اتهام ضد كتساف بعد أن تراجع الأخير عن "صفقة ادعاء" مع النيابة العامة وتم خلالها تقديم لائحة اتهام مخففة ضده.

ويرى المحللون للشؤون القانونية أن هذه القضايا هي "حصاد" مثير للإعجاب لمستشار قانوني اعتبر في بداية ولايته أنه "موظف خجول" وصل إلى المنصب الرفيع بعد تقدم بطيء في سلم الوظائف في أروقة وزارة العدل، وسط إجماع بأنه ليس قادرا على الصمود أمام قوة رجال السلطة. وقد عزز مزوز هذا الاعتقاد بقراره الهام الأول الذي اتخذه بعد تولي المنصب وكان إغلاق التحقيق في ملف "الجزيرة اليونانية" ضد شارون ونجله غلعاد.

ويرفض مزوز الآن الانتقادات ضده باستهزاء. وهو يفضل تشبيه نفسه بمحققي سلطة الضرائب الأميركية، الدمثين والمبتسمين، حتى يضبطون المشتبه الذي يحققون معه بأنه يكذب. ومزوز على قناعة بأنه اتخذ قرارا في كل واحد من الملفات التي نظر فيها بعد ترجيح للرأي، وأن قراراته كانت صحيحة عندما اتخذها. ولذلك فإنه، بالنسبة له، لا حاجة إلى تأنيب ضمير ويشعر أنه كان محقا عندما اتخذ قراره بخصوص إغلاق ملف التحقيق ضد شارون وعندما قرر تقديم لائحة اتهام مخففة ضد كتساف، لا تشمل تهمة الاغتصاب.

وبحسب هآرتس، فإنه بالنسبة للجمهور الإسرائيلي، تحول "ملف كتساف" ليصبح "ملف مزوز". وذلك لأن مزوز، وبعد أن نشر مسودة لائحة اتهام ضد كتساف شملت بنودا خطرة، بينها الاغتصاب، اكتفى بالتوصل إلى صفقة ادعاء وتقديم لائحة اتهام مخففة، بحيث أن أخطر تهمة فيها كانت القيام بعمل مشين بالقوة. لكن في أول جلسة للمحكمة للنظر في لائحة الاتهام المخففة، تراجع كتساف عن صفقة الادعاء، الأمر الذي سبب حرجا بالغا لمزوز. ومزوز يعلم أن ملف كتساف هو ملف سيقترن بولايته كما أنه يعي أهمية التوصل إلى نتيجة في هذا الملف.

مواقع الفساد

يرى المحللون أن أكثر ما يريده مزوز هو أن تقترن ولايته في منصب المستشار القانوني بمحاربته الفساد. فقد قال في اجتماع خاص عقدته لجنة مراقبة الدولة التابعة للكنيست لبحث موضوع الفساد السلطوي إن "لا أحد في إسرائيل محصن من التحقيق والمحاكمة بسبب ارتكابه مخالفة فساد، لا رئيس حكومة ولا رؤساء أو وزراء أو حاخامات أو قضاة. وهذا ليس بالأمر المفهوم من تلقاء ذاته، حتى في الدول المتطورة". ومنذ أن تولى منصبه، أشار مزوز إلى مراكز الفساد، وأولها العلاقة بين منتخبي الجمهور وأعضاء اللجان المركزية في الأحزاب الكبرى، ووصف الوضع في هذه المراكز بـ "احصل على الامتيازات قدر استطاعتك". ومركز آخر كان التعيينات السياسية، ومن خلالها كان يحصل أعضاء اللجان المركزية، في أفضل الأحوال، على امتيازات، وفي حالات أخرى على رشى.

وأشارت هآرتس إلى أنه بالنسبة لمزوز فإن تقديم لائحة اتهام ضد الوزير السابق، والرئيس الحالي للجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست، تساحي هنغبي، كان ذا أهمية إستراتيجية. فقد هاجم مزوز التعيينات السياسية كأسلوب متبع في الحلبة السياسية الإسرائيلية. وينسب مزوز لنفسه تطبيق الردع القانوني. وبحسب الصحيفة فإن وزراء أبلغوا مزوز أنه في أعقاب تقديم لائحة اتهام ضد هنغبي، حول التعيينات السياسية، والتعليمات التي أصدرها، انخفض عدد أعضاء اللجان المركزية في أحزابهم الذين يتوجهون إليهم، وفي حال توجهوا فإن ذلك يكون لأسباب جد وجيهة. ويعتقد مزوز، أيضا، أن إدانة عضوي الكنيست نعومي بلومنطال، في قضية رشوة أعضاء مركز الليكود من خلال حجز غرف لهم في فندق فخم، وعومري شارون، في قضية ضلوعه في تمويل غير قانوني لحملات والده الانتخابية، ساهم في ردع منتخبي الجمهور من ارتكاب أعمال فساد، وأن هاتين القضيتين أدتا إلى انتهاء الانتخابات العامة التي جرت في العام 2006 من دون تحقيقات في الشرطة.

وأدت التحقيقات في سلطة الضرائب إلى الكشف عن مركز فساد آخر، وهو أن جهات ذات مصالح كان لديها تأثير على تعيين مفوض مصلحة الضرائب، وبواسطته التأثير على تعيين موظفين في هذا الجهاز. ويرى مزوز أنه لو لم يتم الكشف عن هذه القضية، لتمكنت جهات ذات مصالح خارجية من السيطرة على سلطة الضرائب برمتها. وهو يعتبر هذه القضية أنها أخطر قضية فساد واجهها ويرى أنها تضاهي سيطرة منظمات إجرامية على جهاز الحكم.

لكن قضية الفساد الأكبر، بحسب الشبهات حتى الآن، تبقى القضايا التي يضطلع فيها أولمرت. ويرجح أن الاستجواب الذي سيجريه مزوز مع أولمرت، حول قضية "ريشون تورز" هو مقدمة لتقديم لائحة اتهام أخرى ضد أولمرت في قضية تالانسكي. ويرفض مزوز ادعاءات محامي أولمرت فيما يتعلق بوجوب تقديم لائحة اتهام في جميع ملفات التحقيق وليس في كل واحد من هذه الملفات. وهو يرفض أيضا إنهاء التحقيق في ملف ووضعه في الدرج ريثما ينتهي التحقيق في ملف آخر. وبحسب هآرتس، فإن مزوز قد تعلم الدرس. إذ أن هناك عددا كبيرا من الملفات الموضوعة على طاولة مكتبه ومنذ مدة طويلة. وحتى أن عضو الكنيست أفيغدور ليبرمان التمس إلى المحكمة العليا، في شهر تموز الماضي، بادعاء أن جهاز تطبيق القانون يجري تحقيقا ضده منذ أكثر من ثماني سنوات. كذلك فإن النيابة العامة قررت هذا الشهر تقديم لائحة اتهام ضد عضو الكنيست السابق يائير بيرتس، من شاس، بعد تحقيقات دامت سبع سنوات.

من جانبه، يرى مدير القسم القانوني في الحركة من أجل نزاهة الحكم، المحامي باراك كالب، أن إسرائيل ما زالت بعيدة عن مواجهة الفساد. وأضاف أنه "بالإمكان القول إن جهاز تطبيق القانون في عهد مزوز، خطا بشكل عام خطوة واحدة نحو التطور في مجال خرق طهارة القيم". ورأى أن الجهاز برئاسة مزوز لم يذوت حتى الآن أن الفساد غير وجهه وأصبح أكثر ذكاء من ذي قبل.

الصدام بين مزوز ووزير العدل

أثار مزوز في بداية ولايته غضبا لدى جهاز القضاء في أعقاب انتقادات، وصلت إلى حد التهجمات، ضد المدعية العامة السابقة (وقاضية المحكمة العليا الحالية)، عيدنا أربيل، ومساعديها بسبب توصيتها بمحاكمة أريئيل شارون في قضية "الجزيرة اليونانية". واعتبرت انتقاداته في حينه على أنها تعبير عن عدم ثقة مزوز بالجهاز القضائي. وبعد مرور سنوات قال إن التصريحات المنسوبة له في هذا الصدد، كان "95% منها من اختلاق وسائل الإعلام" وإن انتقاده في هذا السياق لم يكن شخصيا ولم يوجهه ضد أحد بعينه.

رغم ذلك، تمكن مزوز مع مرور السنين من ترسيخ مكانته. لكن منذ شهر شباط العام 2007 اضطر إلى مواجهة وزير العدل والخبير القانوني، البروفسور دانيئيل فريدمان. وطرح فريدمان، اليميني التوجهات، في شهر تموز الماضي، مشروع قانون يقضي بالفصل بين منصب المستشار القانوني للحكومة ومنصب رئيس النيابة العامة. وبعد مضي شهر واحد هاجم مزوز اقتراح فريدمان، خلال مؤتمر عقد في الجامعة العبرية في القدس، واعتبر أنه اقتراح يهدف إلى تدمير منصب المستشار القانوني للحكومة وإفراغه من مضمونه. ونقلت هآرتس عن البروفسور أريئيل بن دور، أحد أبرز الخبراء القانونيين في إسرائيل، قوله إنه ينبغي تقدير مزوز على موقفه ومواجهته لفريدمان وعلى عدم منحه دعما سياسيا ولأنه فضّل مواجهته.

وتجدر الإشارة إلى أن هذا الموقف لمزوز إنما جدد الصدام بينه وبين فريدمان وحسب. فالصدام السابق دار على اثر قرار مزوز توجيه لائحة اتهام ضد رامون بعد أن اغتصب قبلة من الجندية في مكتب رئيس الحكومة. وقد تمت إدانة رامون باقتراف عمل مشين من دون موافقة. وقررت العدالة الإسرائيلية أنه لم يلصق العار بالوزير الذي تمكن من العودة إلى تولي منصب رفيع. لكن فريدمان هاجم أداء النيابة العامة في القضية وحتى أنه بادر لتشكيل لجنة تحقيق رسمية على ضوء مزاعم رامون أن النيابة العامة والشرطة لم يكشفا عن عملية تصنت ونصوص إفادات في التحقيق، الأمر الذي من شأنه تغيير نتائج محاكمته.

من جانبه، قرر مزوز خوض صراع ضد مبادرة فريدمان واعتبر ذلك حربا "على البيت". وفي رده على صيغة الاقتراح الذي قدمه فريدمان إلى الحكومة، وجه مزوز انتقادا شديدا ضد الاقتراح ووصفه بأنه "حملة انتقام" ضد جهاز تطبيق القانون. وكتب في وجهة نظر عممها على الوزراء، وكانت غير مسبوقة من حيث حدتها ضد الوزير المسؤول عنه، أنه "لم يحدث مثل هذا الأمر في الماضي، ولأول مرة في تاريخ دولة إسرائيل والحكومة والهيئات الحكومية، تتم المطالبة بتعيين لجنة تحقيق لفحص أداء جهاز تطبيق القانون بسبب تحقيق أجراه ضد وزير كبير وصديق مقرب وزميل- شريك سياسي لرئيس الحكومة".

ونقلت هآرتس عن الوزير شالوم سيمحون [العمل] قوله لدى تذكره جلسة الحكومة التي اصطدم مزوز مع فريدمان خلالها إن مزوز كان "صارما للغاية، وحتى أنه كان عدوانيا تجاه فريدمان. لم يكن فظا، لكنه تحدث بشجاعة. فهذا ليس أمرا بسيطا أن تقف في مواجهة وزيرك، هكذا أمام الجميع. لقد ترك هذا تأثيرا قويا عليّ".

كذلك عارض مزوز بشدة الانتقادات الشديدة التي وجهها فريدمان إلى المحكمة العليا والشرطة والنيابة العامة. وحتى أنه وصفها بأنها تهدف إلى "إحراق النادي". وشدد مزوز على أن المحكمة العليا هي مؤسسة ذات أهمية مصيرية في دولة ديمقراطية. واستخدم المحكمة العليا الأميركية مثالا على كونها هيئة موحدة وأن الجميع يحترم قراراتها. وأضاف "لكن عندنا يكسرون. وإذا كسروا فإنه لا يوجد جهاز بديل. والضرر الناجم عن المس بهذه المؤسسة يفوق أية فائدة".

الأراضي المحتلة

رغم أن مزوز اعترف قبل نحو عامين بأن "وضع تطبيق القانون في المناطق [الفلسطينية المحتلة] هو في مستوى متدن جدا"، إلا أنه لم يفعل شيئا في هذا السياق. وقالت هآرتس في هذا الشأن إن منظمات حقوق الإنسان وكبار المسؤولين السابقين في وزارة العدل في إسرائيل يجمعون على أن أي مستشار قانوني للحكومة الإسرائيلية لم ينجح في السيطرة على حالة التسيب القانونية في الضفة الغربية خصوصا. وأشارت الصحيفة في هذا السياق إلى احتلال المستوطنين مبنى عائلة الرجبي في الخليل، منذ العام الماضي، ورفضهم إخلاءه، على الرغم من إصدار المحكمة العليا الإسرائيلية قرارا بهذا الخصوص. وقد أخلت قوات الأمن الإسرائيلية المبنى، في الأسبوع الماضي، لكن المستوطنين تعهدوا بالعودة إلى احتلاله واحتلال بيوت فلسطينية أخرى، مدعومين من أعضاء كنيست وحتى من وزراء.

وشدد الصحافي عكيفا إلدار، في هآرتس، على أن إخفاقات المستشارين القانونيين السابقين للحكومات الإسرائيلية لا تعفي مزوز من مسؤوليته حيال الوضع في الضفة، التي وصفها بأنها "دولة المستوطنين". وأضاف أن مزوز ساهم، بصفته رئيس النيابة العامة والمسؤول الذي يملك الصلاحية القانونية الحكومية العليا، في حالة التسيب القانونية وفي ترسيخ الاحتلال الإسرائيلي للضفة.

ولفت إلدار في هذا السياق إلى تقرير البؤر الاستيطانية العشوائية، الذي أعدته زميلة مزوز، المسؤولة السابقة في النيابة العامة، المحامية طاليا ساسون. لكن مزوز اختار أن يكون متفرجا ولم يفعل شيئا لتطبيق توصيات تقرير ساسون، الذي قضى بتفكيك بؤر استيطانية، علما أن الحكومة الإسرائيلية، برئاسة شارون ولاحقا برئاسة أولمرت، تعهدت بتفكيك عدد من هذه البؤر. وفي المقابل، سمح مزوز لنائبه، ملخيئيل بلاس، بتقديم وثيقة بديلة لتقرير البؤر الاستيطانية، اقترحت توسيع صلاحيات المجالس الإقليمية للمستوطنات.

وكانت ساسون قد اقترحت أن يدرس مزوز إمكان اتخاذ إجراءات قضائية ضد موظفين في السلك الحكومي الذي عملوا عن عمد، وخلافا للقانون، من أجل إقامة بؤر استيطانية. لكن النيابة العامة لم تقدم أية لائحة اتهام حتى اليوم. وفي أعقاب تقديم مراقب الدولة الإسرائيلي تقريرا، في العام 2004، حول تحويل عشرات ملايين الشواقل من وزارة الإسكان إلى المستوطنات بصورة غير قانونية، أمر مزوز بتجميد كافة الميزانيات المخصصة لسلطات محلية في المستوطنات وهدد باتخاذ إجراءات قضائية شديدة ضد الضالعين بتحويل الميزانيات غير القانونية. وفي هذه الحالة أيضا لم يتم تقديم أية لائحة اتهام حتى اليوم.

كذلك تجمعت خلال فترة ولاية مزوز قرارات حكم كثيرة صادرة عن المحكمة العليا ضد مسار الجدار العازل. وأمرت هذه القرارات الحكومة الإسرائيلية بتفكيك مقاطع من الجدار العازل. وكلفت أعمال تفكيك مقاطع من الجدار وإعادة بنائها الخزينة الإسرائيلية نحو مليار شيكل حتى الآن. وبدلا من استخلاص العبر من ذلك، اكتفى مزوز بكتابة رسالة إلى وزير الدفاع السابق، عمير بيرتس، بعد أن اتضح أن مخطط مسار الجدار في منطقة شمال الضفة أعد خططا وفقا لمصالح المستوطنين وليس وفقا للاحتياجات الأمنية، التي تتذرع إسرائيل بها لإقامة الجدار، ووصف فيها مزوز رسم مسار الجدار بـ "الخطأ الفادح". لكن في المقابل حظي مخطط مسار الجدار، داني تيرزا، بوظيفة كبيرة في مكتب رئيس الحكومة.

حال القضاء الإسرائيلي في "دولة المستوطنين"

قررت القاضية في محكمة الصلح الإسرائيلية في القدس، مالكا أفيف، إطلاق سراح المستوطن زئيف براودة، الذي أطلق النار على مواطنين فلسطينيين في الخليل، خلال الاعتداءات التي نفذها المستوطنون بعد أن أخلتهم قوات الأمن الإسرائيلية من مبنى عائلة الرجبي في المدينة. وقد حولت القاضية المستوطن براودة، الأسبوع الماضي، إلى الاعتقال المنزلي لمدة عشرة أيام. لكن المسؤولين في النيابة العامة وناشطي منظمات حقوق الإنسان لم يفاجئوا من قرار القاضية أفيف. فقد تبين بعد الإطلاع على سيرتها الذاتية أن أفيف نفسها مستوطنة، وتسكن في مستوطنة "غيتيت" في غور الأردن، وحتى أنها من أوائل المستوطنين في هذه المستوطنة التي أقامتها الحركة الاستيطانية "حيروت بيتار" اليمينية في العام 1975.

ويشار إلى أن منظمة "بتسيلم" الإسرائيلية لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وثقت بواسطة شريط فيديو عملية إطلاق النار التي نفذها براودة ضد فلسطينيين اثنين وأصابهما بجروح خطرة، في الرابع من كانون الأول الحالي. لكن القاضية أفيف وجهت انتقادات للشرطة الإسرائيلية واعتبرت في قرار الحكم أن "الشرطة كانت أسيرة منظور استعرضته وسائل الإعلام، وتساهلت مع الفلسطينيين الذين كانوا ضالعين في الحدث إلى حد عدم الإنصاف" تجاه المستوطن.

ورغم أن شريط بتسيلم يوثق إطلاق براودة النار على فلسطينيين من مسافة تقل عن مترين، إلا أن القاضية اعتبرت أن براودة هو "شخص متمدن" ومن دون ماض جنائي "وتم زجه في حادث عنيف". وتجدر الإشارة إلى أن براودة كان حينئذ يشارك في انفلات المستوطنين في الأحياء الفلسطينية المحاذية لمبنى الرجبي والذين هاجموا مواطنين فلسطينيين وأملاكهم ومقدساتهم وأضرموا النار في بيوت وسيارات فلسطينية. ويذكر أن شريط التصوير يظهر أنه بعد أن أطلق براودة النار على فلسطينيين وأصاب اثنين بجروح خطرة، تمكن أحد المواطنين الفلسطينيين من الإمساك به وإسقاطه على الأرض ومنعه بذلك من الاستمرار في إطلاق النار. لكن القاضية أفيف قلبت الحقائق وكتبت في قرار الحكم أنه "يتضح من الشريط الذي شاهدته أن الاعتداء الوحشي الذي تم تنفيذه بحق المتهم (المستوطن براودة)... هو أنه فيما كان المتهم ملقى على الأرض وعاجزا، كان ينضم المزيد من السكان الفلسطينيين، من دون أي استفزاز أو سبب، وإنما فقط بهدف ركل وضرب المتهم... وحقيقة أن الشرطة تتساهل بصورة متطرفة مع تصرف السكان الفلسطينيين في الحدث ذاته ينبغي نسبها لصالح المتهم. ولن ندعم هذه الظاهرة التي تؤكد التمييز الصارخ".

ولفت إلدار، في هآرتس (11.12.2008)، إلى أنه على مدار 41 عاما من الاحتلال، اندمج مستوطنون ومؤيدو المشروع الاستيطاني في قيادة الجيش الإسرائيلي، ووجدوا مكانا في مناصب رفيعة في "الإدارة المدنية" التابعة للجيش، وتبوأوا مناصب في جهاز القضاء. وأضاف إلدار أن "العناية التي منحها القاضي موشيه دروري للمستوطن نوعام فيدرمان، قبل أسبوع، لم تكن شاذة أيضا. ورغم أن المستوطن (فيدرمان) النشط للغاية اقتحم موقعا تم الإعلان عنه أنه 'منطقة أمنية خاصة'، وخرق بذلك أمر القائد العسكري الإسرائيلي للضفة وتعهد قيادة المستوطنين، إلا أن دروري وبخ النيابة بالذات التي تجرأت على إبعاد مخالف الأمر عن بيته من دون قرع بابه بصورة لطيفة".

وأضاف إلدار أن "الروح المتسامحة ذاتها سادت في محكمة الصلح في القدس عندما حكمت بالعمل لصالح الجمهور وستة أشهر سجن مع وقف التنفيذ وغرامة بقيمة 300 شيكل على يفعات ألكوبي، بعد إدانتها بإلقاء حجارة على بيت مواطن فلسطيني في الخليل وتكسير زجاج نوافذه. وحظيت ألكوبي برأفة المحكمة رغم أنها أدينت ثلاث مرات بالقيام بأعمال شغب والاعتداء على شرطي إسرائيلي". وفي حالة أخرى "أخلت قاضية محكمة الصلح في مدينة كفار سابا، نافا بِخور، سبيل أفري ران، وهو مستوطن يثير الرعب بين الفلسطينيين، وحتى أنه تم الإعلان عنه كمجرم فار. ورغم أن ران اعترف بعدد من بنود لائحة الاتهام ضده، إلا أن القاضية اعتبرت في قرار الحكم أن إفادات الضحايا الفلسطينيين 'كانت مبالغا فيها وتفتقر للمصداقية'. كما تمت تبرئة ساحة متهمين آخرين كانا ضالعين في الاعتداءات. فقد أطلقت بخور سراح (المستوطنة) تسفيا ساريئيل، وهي شابة من (مستوطنة) ألون موريه وتم اتهامها بالاعتداء على فلسطيني ورفضت الاعتراف بصلاحية المحكمة الإسرائيلية بالنظر في القضية".

وأشار إلدار إلى أنه "لا توجد، بالطبع، أية طريقة لإثبات أن القاضي الفلاني أصدر قرارات متساهلة وأحكاما مخففة ضد مستوطنين. رغم ذلك فإن المرء بحاجة إلى أقل من يدين اثنتين لتعداد الإدانات في محكمتي الصلح اللتين تنظران في مخالفات (أي اعتداءات) إسرائيليين ضد فلسطينيين: محكمة الصلح في القدس ومحكمة الصلح في كفار سابا".

وكانت منظمة "ييش دين" الإسرائيلية لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة قد ذكرت، في تقرير أصدرته قبل فترة، أن محكمة الصلح في كفار سابا نظرت في 392 ملفا تتعلق بأعمال جنائية ارتكبها مستوطنون بحق فلسطينيين، خلال ثلاثة أعوام، من أيلول العام 2002 وحتى أيلول العام 2005. وانتهت معظم هذه الملفات، وعددها 257، بإدانة المستوطنين. لكن النيابة العامة قدمت لوائح اتهام في 11 ملفا منها فقط وكانت تتعلق بالاعتداء على فلسطينيين. وتمت تبرئة المستوطنين في سبعة ملفات من الـ 11. وأكد إلدار أن هذه الظاهرة ليست جديدة. وأضاف أنه "يكفي ذكر الأحكام المخففة التي تصل إلى حد كونها سخيفة التي تم فرضها على مستوطنين مشهورين، مثل الحاخام موشيه ليفينغر وبنحاس فالرشطاين، اللذين أدينا بقتل فلسطينيين".

وخلص إلدار إلى أنه قبل 15 عاما تماما، وبعد أسابيع قليلة من التوقيع على اتفاق أوسلو، وعندما زار رئيس الحكومة الإسرائيلية في حينه، إسحق رابين، الخليل، قال له قائد المنطقة العسكرية، العميد موشيه خليفي: 'إن الأمر الذي يقلقني أكثر من أي شيء آخر هو جهاز القضاء... نحن نعتقل يهوديا، وهو يذهب إلى المحكمة والقاضي يطلق سراحه... لا يتم استنفاد القانون، وعندما لا يتم استنفاد القانون، لا يوجد ردع".