وثائق وتقارير

* سياسة الخصخصة المتسارعة جعلت المجتمع المدني في إسرائيل بمثابة "دولة داخل دولة"! *

 كتبت مندوبة "المشهد الإسرائيلي" غصون ريان:

 عقد المعهد الإسرائيلي للديمقراطية ندوة نوقشت فيها العلاقة ما بين الدولة ومؤسسات المجتمع المدني، وذلك على خلفية معطيات مؤشر الديمقراطية للعام 2008 الذي أجراه المعهد والذي أظهر تردي ثقة الجمهور الإسرائيلي في مختلف مؤسسات الدولة، ومن ضمنها مؤسسات المجتمع المدني.

 

البروفسور تمار هرمان، العضو في المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، استهلت حديثها بقولها: "نحن في فترة ما بعد قيام الجميع بنهب وتأجيج مؤسسات المجتمع المدني، ونسأل لماذا يُعدّ وجود مؤسسات كهذه أمرًا غير جيد؟". في الاستطلاع الذي أجراه المعهد تبين أن هناك ظاهرة بالغة الأهمية وهي أن غالبية الناس تريد تلقي الخدمات الاجتماعية من الدولة. هذا يعني أنه على الرغم من بلاغة الخطاب بشأن التحول إلى السوق الحرة وإتاحة المجال لمؤسسات المجتمع المدني لتوفير الخدمات الاجتماعية، وعلى الرغم من دراية المواطنين في معظمهم لحقيقة أن الخدمات التي توفرها هذه المؤسسات تكون ذات جودة أعلى بالمقارنة مع ما يمكن أن توفره الدولة، إلا أن المواطنين لا يزالون يفضلون تلقي هذه الخدمات من الدولة. أما الظاهرة الثانية والتي من المهم أيضا التطرق إليها فهي أن تعاظم وتزايد عدم الثقة تجاه أجهزة الحكم المختلفة بدأت بالانعكاس أيضا على تعامل الناس مع المؤسسات المدنية، ففي حين أن المواطنين تعاملوا في الماضي مع السياسيين كفاسدين ومع العاملين في السلك المدني على أنهم طاهرون، فإن هذا الوضع بدأ بالتدهور ووجهة النظر الشائعة اليوم هي أن "الكل فاسدون". إن وجهة النظر هذه متجذرة أكثر لدى الوسط العربي، لكنها أيضا موجودة بعمق لدى الوسط اليهودي، فالفزع جراء عدم الثقة والشك في طهارة المسؤولين في إسرائيل جارف إلى حد كبير.

 

إيلي ألوف، ممثل جمعية "راشي"، أثنى من ناحيته على عمل مؤسسات المجتمع المدني وقال إن هذه المؤسسات بإمكانها أن تتباهى اليوم بنجاحها في جر الحكومة إلى أماكن لم تكن الدولة تقترب إليها بمفردها. وتحدث عن أهمية عمل المؤسسات التي تقوم بإعداد بنى تحتية لا تبادر إليها الدولة، وأعطى مثالا على ذلك قائلا إنه "قبل ست سنوات لم تكن في الوسط الدرزي مدرسة للعلوم، وأقر بناء مدرسة كهذه إلا أنه على مدى ست سنوات ناضلنا لإدخال بند المواصلات إلى القرار، وفقط قبل أسبوع تم إقرار ذلك"، مشيرا إلى تقاعس الحكومة التي احتاجت إلى ست سنوات للاقتناع بأن مدرسة للعلوم في الوسط الدرزي تخدم ثلاث عشرة قرية بحاجة إلى بند مواصلات، مع أن تكلفة ذلك هي أقل من سبعة آلاف شيكل سنويا. وخلص ألوف إلى أن عمل المؤسسات المدنية هو بمثابة تمهيد وشق الطريق أمام الدولة التي لم تعد تبادر إلى مشاريع تربوية ورفاهية إلا بعد أن تجرها المؤسسات المدنية إلى ذلك بحيث لا يكون لها خيار آخر.

 

البروفسور دافيد أوحانا، المحاضر في جامعة بن غوريون- النقب، تطرق إلى الموضوع بشكل نظري قائلا إن التحول المتناقض الحاصل اليوم في العصر الحديث على المستوى الدولي هو أن اليسار يقود الدولة بعد أن قادها اليمين سابقا. التوجه الليبرالي الحديث الذي يقوده اليسار ينادي بالحد من قوة الدولة ومنح الحرية للمواطن. ويمكن رؤية ذلك في كل العالم الغربي، إذ يتم تحويل القوة إلى التنظيمات، وترسخ بذلك الدولة الرأسمالية التي يكون محورها رأس المال وليس المواطن، وبهذا أصبحت الدولة تعد على أنها عدو للمواطن وليست مدافعة عنه وعن مصالحه بعد أن تزعزعت أركان دولة الرفاه. إن تضعضع قوة الدولة التي أصبحت تتنكر للمواطنين وتتنصل من مسؤولياتها هو بمثابة تضعضع لقوة المواطنين وخصخصة السجون هي أحد الأمثلة على ذلك.

 

المحامي يوفال ألبشان، ممثل جمعية "يديد"، أشار إلى أن المشكلة الرئيسة التي تعاني منها مؤسسات المجتمع المدني اليوم والتي تشكل خطرا كبيرا هي نقص المهنية، إذ أن هذه المؤسسات تجر الدولة وراءها رغم أنها لا ترى صورة الوضع الكاملة ولا تملك كافة المعطيات. وتطرق ألبشان إلى الهجوم الذي يوجه إلى غايداماك، رجل الأعمال الذي يوظف أموالا طائلة لخدمة المجتمع المدني وحاز على هيمنة مثيرة للجدل في الوقت ذاته. وقال إن العديد من رجال الأعمال الذين ولدوا في إسرائيل ليسوا اقل فسادا من غايداماك. كما أضاف أن تجنيد الأموال من أصحاب رؤوس الأموال يجعل المؤسسات المدنية خاضعة لهم، وبالتالي فإن هذا المؤسسات تخدم هؤلاء الأسياد لأن مصيرها مقرون بتمويلهم وتبرعاتهم.

 

دانيئيل بن سيمون، الصحافي السابق وعضو حزب العمل حاليًا، قال من جانبه إنه كان شاهدًا على نهب وسرقة الدولة في وضح النهار من قبل المؤسسات الأخرى خلال حرب لبنان الثانية. وأضاف أنه حين قضى شهرا في شمال إسرائيل خلال الحرب وعلى الرغم من تجربته وخبرته إلا أنه ذهل لمعرفة مدى تزعزع وضعف الدولة لصالح مؤسسات مدنية. وقال انه رأى عن كثب غياب واختفاء الدولة وحتى أن غالبية السلطات المحلية هجرت. وذكر أن ما رآه في شمال إسرائيل خلال الحرب ذكره بما حدث في نيو أورليانس الأميركية في أعقاب العاصفة التي أغرقت المدينة، ولم تكن هناك أي جهة مخولة بجمع وقبر الجثث، واستمر الجدل ثلاثة أو أربعة أيام حتى حظيت إحدى الجهات الخاصة بالعطاء لتولي المهمة، وبهذا كشف الوجه الحقيقي لبوش ولنظامه والذي لا يزال يتلقى التشجيع على سياسة خصخصة كل شيء التي يتبعها. وقال بن سيمون إن المجتمع المدني تحول اليوم إلى دولة داخل دولة. وتابع أنه خلال الحرب لم تكن تعرف السلطات المحلية ما يجب عمله لأنها كانت مرتبطة بالدولة، وفي إحدى حالات الطوارئ قام رئيس بلدية معلوت بالاتصال بديوان رئيس الحكومة مخبرا أنه بحاجة ماسة إلى مليوني شيكل لأنه لم يكن مياه في معلوت وكان بحاجة إلى المبلغ ليدفع لشركة المياه مكوروت، فقيل له إنه من غير الممكن توفير مبلغ كهذا، ولكنه يستطيع الحصول عليه من خلال التبرعات. كما أنه عند زيارته لمراكز الأحزاب، كانت كل نقاشاتهم تدور حول أداء الجيش وفينوغراد، ولم يكن هناك أي تطرق إلى أداء الدولة في فترة الطوارئ. ولفت بن سيمون إلى أنه حين كانت تصطف الحافلات التابعة لغايداماك في سديروت لنقل المواطنين هناك إلى مدينة أخرى أكثر أمنا بسبب صواريخ القسام، كانت هناك حافلات أخرى تابعة للدولة، وكان المشهد مثيرا جدا حين توجه كافة المواطنين إلى حافلات غايداماك تاركين حافلات الدولة فارغة، حتى أن أقرباء وزير الدفاع [عمير بيرتس] المقيمين في سديروت توجهوا أيضا بدورهم إلى حافلات غايداماك. أصحاب رؤوس الأموال الذين يتم السجود لهم هم من يتولون قيادة الجمهور، وأصبح لهم من الهيمنة ما يمكنهم من قطع جلسة الحكومة إذا ما اتصل أحدهم طالبا الحديث مع أحد الوزراء أو مع رئيس الحكومة بذاته. وقال إنه في تقرير أعدته إحدى المجلات الإسرائيلية عن الأشخاص الأكثر تأثيرا في الدولة كانت القائمة تعج بأسماء الأشخاص الأكثر غنى وأسماء أبنائهم.

 

البروفسور داني غوتفاين، المحاضر في جامعة حيفا، قال من ناحيته إن مؤسسات المجتمع المدني هي ذراع لأصحاب رؤوس الأموال، الذين هدفهم تفكيك دولة الرفاه وفرض أنفسهم مكانها. وأضاف أن مؤسسات المجتمع المدني تعمل على تحطيم الدولة وشق الطريق أمام هيمنة رأس المال. وتابع أن نظام الخصخصة لم يعمل فقط على خصخصة مؤسسات الدولة ووكالاتها وإنما يعمل أيضا على خصخصة الوعي. ومصطلح مجتمع مدني هو بمثابة تلويث للوعي.

 

وأضاف أن الجمعيات والمؤسسات المدنية تأخذ حجما أكبر طالما أن المال يحكم قبضته على المجتمع، وهذه الجمعيات لا تحل المشكلة إنما تخلقها، فالليبرالية الحديثة تستغل الدولة لدحض كل معارضة لسلطة المال.

 

وخلص غوتفاين إلى أن من يريد أن يرى مجتمعا إسرائيليا آخر تكون قيمة الإنسان فيه لا تساوي ماله، فليس هناك أدنى شك في أن ذلك يتم عندما تتعافى الدولة من المؤسسات المدنية، وإن الخدمة الكبرى التي في إمكان هذه المؤسسات أن تسديها للدولة هي... زوالها.