شخصيات في "العمل" تتلمس طريق الهرب تحسبا من تهاوي الحزب

ثقافة وفن

* بحث جديد عن "طليعية" أدب الأطفال العبري في رواية الصراع الإسرائيلي- العربي من خلال نزعة عسكرة أبطال القصص والقراء الصغار *

 

(*) يظهر هذا البحث عن أدب الأطفال العبري بين السنوات 1939- 1948 (*) أن هذا الأدب، خلافًا لذلك الذي كتب للكبار، تطرّق إلى الهولوكوست ("كارثة اليهود في أوروبا تحت وطأة الحكم النازي") في فترة مبكرة جدًا، بل وحتى في زمن حقيقي.

 

وتؤكد مؤلفة البحث، د. ياعيل دار، وهي صاحبة "عمود أسبوعي" لنقد كتب الأطفال في ملحق "سفاريم" (كتب) الأسبوعي لصحيفة "هآرتس"، أنها وجدت شرخًا في الرواية التاريخية الصهيونية المهيمنة حيال اليهود في أوروبا في أدب الأطفال العبري منذ العام 1939، أي حتى من قبل وقوع الهولوكوست.

 

وتمضي في توضيح هذه المسألة تقول:

"حتى نهاية الثلاثينيات حكوا هنا حكاية نفي المهجر، أو الشتات، وذلك من الصنف التالي: ثمة في المهجر طفل (يهودي) مسكين لأنه يعيش في فقر مدقع، وهناك ثلوج في الخارج. وأهل هذا الطفل يحظرون عليه أن يذهب إلى لقاءات الطلائعي (الصهيوني) الصغير، لكنه رغم ذلك يذهب إلى تلك اللقاءات لأنه يرغب بكل جوارحه في أن يهاجر إلى أرض إسرائيل، لأن الطفولة هناك حرّة ولأن الأطفال يتجولون حفاة في الحيّز الريفي ويديرون حياة جماعية مستقلة. دائمًا توجد لهم شلة وهم سمر وأصحاء، وعمومًا فهم يعيشون حياة رغد وهناء".

 

وتضيف دار: "لكن في العام 1939، أي قبيل وقوع أحداث الهولوكوست، وجدت شرخًا في هذه القصة. وكما لو أنه تنفيذًا لأمر ما بدأوا يقصّون هنا حكاية أخرى. وبعد قراءة أكثر تكثيفًا فهمت أن الكبار بدأوا يستوعبون أن التربية على نفي الشتات أسفرت عن اغتراب ولا مبالاة من طرف الأطفال في البلاد حيال ضائقة اليهود في أوروبا. ومن جراء هذا الاغتراب انقلبت الآية، وبدأت عملية كتابة قصة تنطوي على توجّه إيجابي إزاء أوروبا، وهي قصة تبني تقمصًا وجدانيًا وتشتمل على معارف أيضًا. هي قصة تحكي تفاصيل التفاصيل للأنباء التي بدأت ترد شيئًا فشيئًا من أوروبا".

 

وبشأن السبب الذي حدا بأدب الأطفال العبري في تلك الفترة إلى طرق مواضيع هرب أدب الكبار، أو على الأصحّ تهرب من التطرّق إليها، قالت دار إنّ أدب الأطفال "شكّل بابًا خلفية للمبدعين للتباكي على الأسرة والطفولة، اللتين لم تحظيا حتى ذلك الوقت بشرعية. وبسبب التوجّه إلى الأولاد كان في مقدور الكاتب أن يحكي بصورة طبيعية عن طفولته. فضلاً عن ذلك فإنّ أدب الأطفال هامشي. وهو بمثابة شارع التفافي على الرقابة، وفي تلك الفترة شكّل وسيلة للتعبير عن الإحباط والندم والشوق والأسى".

 

وتوضح دار أن هذا الأدب عثرت عليه بصورة رئيسة في ملحق صحيفة "دفار" للأطفال (دفار ليلاديم)، الذي شهد ولادة القسم الأكبر من أدب الأطفال العبري في تلك الفترة، التي يتناولها البحث بالعرض والتحليل.

 

غير أن النصوص التي تطرقت إلى يهود أوروبا ومأساتهم في أدب الأطفال العبري سرعان ما تمّ إخفاؤها أو أرشفتها فور أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها. وتبدلت القصة مرة أخرى. وانطوت القصة الجديدة على عبرة حاسمة، مؤداها أنه من بين أنقاض الهولوكوست ينبغي أن تقوم دولة. وهكذا نشأ صنف قصص الانبعاث التي تحكي "قصة ما يحصل هنا"، على حد قول دار. وتتابع: "حكت هذه القصص عن بقايا (اليهود في أوروبا) الذين أتوا إلى هنا وبدأوا يقصون كم أن الحياة جيدة في البلاد، وعن أطفال من هنا يخرجون للثأر من الألمان أو عن صغار يحاربون العدو المحلي. وأضحت هذه القصة مركزية جدًا، إلى درجة أنها عتّمت على القصة السابقة وعرّضتها للنسيان".

ولعل الكاتبة التي تمثل هذه القصة التاريخية أكثر من سواها هي يميمه أفيدار- تشرنوفيتش، التي كان كتابها "ثمانية في أعقاب واحد" عن مجموعة أولاد تكشف عن جاسوس ألماني وتثأر منه بمثابة كتاب إلزامي لكل طفل يهودي على مدار عشرات السنوات. وفي قصة أخرى كتبتها هذه المؤلفة نفسها بعنوان "واحد منّا" تحكي عن مجموعة أولاد تساعد يوسف اللاجئ على الاندماج (في المجتمع الجديد). وفي نهاية هذه القصة لا يتعرف الراوي، حجاي، على يوسف بعد أن أصبح حارس مرمى أسمر في فريق لكرة القدم. وتؤكد دار أن "المهمة في هذه القصص تمثلت في محو الماضي الأليم وإبرائه من عنصر النجاة".

 

وفقط في الثمانينيات من القرن الماضي عاد أدب الأطفال العبري إلى موضوع الهولوكوست، لكن النصوص باتت تخضع لغربلة شديدة، بكلمات أخرى باتت تخضع لسؤال ما الذي ينبغي أن نحكيه وما الذي لا ينبغي أن نحكيه عن الموضوع.

 

جذور العسكرة في المجتمع الإسرائيلي

 

 

على صعيد آخر يظهر بحث دار، الذي حصلت بفضله على شهادة الدكتوراة، أن هناك رواية تاريخية إضافية بدأت تزدهر في الأربعينيات، وهي حكاية عن أطفال يتم تجنيدهم للحرب. وهي تقول في هذا الصدد: "كانت هناك قبل ذلك قصص عن أبطال من الماضي، لكن القصص التي تجعل أولادًا صغارًا جنودًا يقاتلون من أجل الوطن كانت جديدة كل الجدة. وعمليًا يستحيل فهم العسكرة في المجتمع الإسرائيلي الآن دون تعقب آثار جذورها. فعلى هذه الجذور ترّبى جيل كامل من الأولاد أصبحوا مقاتلين في البلماح وبعد ذلك أصبحوا قادة في الجيش الإسرائيلي".

وفيما إذا كان ماثلاً في ذهن كُتاب قصص الأطفال في تلك الفترة، مثل أفيدار- تشرنوفيتش السالف ذكرها، أن مهمتهم هي تجهيز الأولاد للحرب تقول دار:

"في الأربعينيات وأساسًا بعد انتهاء الحرب العالمية كان من الواضح جدًا أن الأولاد سيستدعون في القريب العاجل للدفاع عن المشروع الصهيوني وقيادة الدولة العتيدة. وكجزء من ذلك أخذ بعض الكتاب الكبار على عاتقهم مسؤولية عسكرة الأبطال الأدبيين وعسكرة القراء بواسطتهم. وربما يكون كتاب "ثمانية في أعقاب واحد" النموذج الأكثر شهرةً، غير أن النموذج الأكثر تطرفًا هي الكتب الأولى من سلسلة حسمبا (تأليف يغئال موسينزون). وهي سلسلة حول وحدة نخبوية مؤلفة من أولاد تفلح في إنجاز أمور يفشل الكبار في إنجازها. إنهم يحاربون البريطانيين والعرب ويحصلون على ميداليات وحتى هناك ولد يلقى مصرعه من بينهم".

وتؤكد دار أنها لم تعثر على كتب عارضت علانية مهمة العسكرة هذه، وإن لجأ بعض كتاب الأطفال إلى كتابة أدبية غير مجندة قصدًا، كطريق التفافية على الكتابة المجندة لغرض العسكرة هذا. ومن أبرز هؤلاء تذكر دار الكاتبتين ليئه جولدبرغ ومريام يلين- شتيكليس. كما تنوه بكتابات نتان ألترمان وأبراهام شلونسكي وفانيا برغشتاين.

وتستدرك دار فتقول إن هناك كتابًا واحدًا، يعتبر هامشيًا، باسم "المتطوعون الصغار" كتبه شموئيل بن يعقوب ناقض اتجاه العسكرة، غير أن وجوده يظهر مبلغ انعدام الكتب التي تقول إن وظيفة الصغار هي البقاء في البيت.

 

أدب الأطفال الإسرائيلي المعاصر

 

 

تتطرق د. ياعيل دار من ناحية أخرى إلى أدب الأطفال الإسرائيلي المعاصر فتؤكد "شبه خلو هذا الأدب داخل حدود الخط الأخضر من القصص التي يوجد فيها إرهاب واحتلال وأولاد عرب في موازاة أولاد يهود". وتعرب عن استغرابها من تحوّل أدب الأطفال من أدب كان حافلاً بالتطرق للحرب إلى أدب كاتم للحرب، حتى وإن كانت ملء السمع والبصر.

 

وهي تقول إن ذلك ينطوي على رسالة إشكالية، هي رسالة الإخراس أو البكم. والآن لا يتحدث الكتاب الإسرائيليون عن النزاع مثلما أنهم لا يتحدثون عن الفقر. فلا يوجد أطفال فقراء في أدب الأطفال، رغم أن الفقر هو أحد القضايا الأكثر حرقة على الأجندة العامة. لكن ثمة أدب أطفال حول النزاع يصدر عن دور نشر تابعة للمستوطنين، لا يجتاز الخط الأخضر. وهو أدب تتم كتابته وتسويقه وقراءته في مستوطنات المناطق الفلسطينية المحتلة فقط.

 

وما يحدث حيال النزاع في أدب الأطفال الإسرائيلي المعاصر ناجم، في رأي دار، عن الصعوبة لدى الكبار في ما تسميه بـ "رواية قصة ذات ثنائية متناقضة". وهي تقول في هذا الصدد: ذات مرّة كنا الذين على حق فقط، والآن لم نعد الأخيار فقط في القصة. أحيانًا نكون أيضًا الأشرار، وأحيانًا أخرى نكون غير شجعان، بل وحتى جبناء. وأن تقول للطفل إنك تخاف بصورة قاتلة من السفر في حافلة ركاب، فأي أهل مدافعون نكون حينها؟ وكذلك أن نحكي عن أولاد عرب يعيشون حياة صعبة لا يمكن أن تطاق في سجن مغلق بسببنا، فهذا أمر في غاية الصعوبة. عندها فإننا نؤثر أن لا نحكي البتة. وثمة قلائل يفعلون ذلك كما في قصة "حلم يوسف" لتمار فيرتي وعبد السلام يونس. عندما نقرأ هذه القصة نعرف كم أن حكايتها مسكوت عنها.

 

__________________________

 

(*) الكتاب: "من مقاعد الدراسة استدعينا: الييشوف عشية الهولوكوست والدولة في أدب الأطفال 1939- 1948". تأليف: ياعيل دار. إصدار: منشورات "ماغنس" في الجامعة العبرية، القدس 2006.