على إسرائيل أن تدع العالم بقيادة الولايات المتحدة يجد حلاً لمشكلة المشروع النووي الإيراني

وثائق وتقارير

كتبت غصون ريّان:

 لا يترك الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني بصماته على الحياة العامة والخاصة فحسب، بل يتعدّى ذلك، وتبرز أنيابه في العديد من العلوم لا سيّما التاريخ وعلم الآثار الذين يكمل كل منهما الآخر. وإذا كانت لهذه العلوم وظيفة المقود الذي من شأنه أن يوجه ويسيّر المركبة إلى اتجاه معين ومحدّد فإن توظيف وتوجيه هذه العلوم يفقدها الصبغة العلمية البحتة لتتحول إلى أحد أركان ذلك الصراع.

 

 

 مدرستان متصارعتان

  يوضّح د. محمد خلايلة، المسؤول عن فترة ما قبل التاريخ في "سلطة الآثار الإسرائيلية"، في مقابلة خاصة لـ"المشهد الإسرائيلي"، أنّ الظروف والاعتبارات التّي سادت في الفترات التاريخيّة التّي تهم الشعبين الفلسطيني واليهودي تختلف كلياً عن الظروف الآنيّة، لذلك فليس من الصواب التوغل في الماضي وبحثه في ظل متغيرات ظرفيّة حاضريّة يكون لها حكم الأمر والنفي، في حين لم يكن لهذه الاعتبارات أي مكان للذكر في الفترات السالفة والمطروحة للبحث. هذا دفع خلايلة إلى الاختصاص في حقبة ما قبل التاريخ "حتى تكون دراساته وأبحاثه علمية لا تشوبها أية شائبة"، على حدّ ما يقول. لكن حتى دراسة الحقب التي لها علاقة بالتاريخ اليهودي القديم كالعصر الحديدي الأول (1200- 930 ق.م) والعصر الحديدي الثاني (930 – 586 ق.م) يستوجب من الباحث دفع ثمن الانتماء إلى إحدى المدرستين- المدرسة القدسيّة أو المدرسة التابعة لجامعة تل- أبيب، في فقدان الحياديّة المرتبطة بالمهنيّة والموضوعيّة في العمل. وبين هاتين المدرستين، كما يصف خلايلة، هنالك خلاف وصراع حول تفسير المكتشفات.

 

المكتشفات نفسها أو بكلمات أخرى العمل الأثري مقرون بموضوعية ومهنيّة بمستوى رفيع، إلا أنّ تأويل وتفسير هذه المكتشفات هو أمر شخصي ينطوي على اعتبارات سياسيّة وعقائديّة وأيديولوجيّة. فالمدرسة في القدس ذات توجه وطني وقومي وتوراتي، وتقول إنّ ما ورد في التوراة هو الواقع ويجب الاستعانة بالتوراة في تفسير المكتشفات. أمّا مدرسة تل- أبيب فتفسّر المكتشفات على أساس العمل الميداني العلمي ومن ثم تقارن استنتاجاتها بما جاء في التوراة. ومن الجائز، كما هو حاصل في الكثير من الأحيان، أن تنفي هذه المدرسة قصصا توراتيّة إذا ما تعارضت استنتاجاتها مع هذه القصص. ومن أبرز علماء الآثار التابعين لمدرسة تل- أبيب يمكن ذكر يسرائيل فينكلشتاين وزئيف هيرتسوغ، اللذين قاما بإبطال العديد من الإدّعاءات التوراتيّة وأبرزها إنكار رواية أنّ الشعب اليهودي قام باستيطان أرض إسرائيل إثر غزوها، فلم يكن هناك غزو أو اقتتال ولم تكن هناك دولة إسرائيليّة موحّدة وعظيمة، وإيراد ذلك في التوراة جاء فقط تعبيراً عن طموحات وتطلعات الناس الذين قاموا بجمع القصص التوراتيّة في القرن السابع قبل الميلاد.

 

حين قام العالمان المذكوران بنشر استنتاجاتهما، أثار ذلك ضجة إعلاميّة كبيرة إلا أنّهما ذهبا إلى أبعد من ذلك حين نفى هيرتسوغ أيّ وجود للملك سليمان والملك داود وغير ذلك من الإدّعاءات التي وصمت بالتطرف.

 

يعتمد علماء الآثار التابعون لمدرسة تل- أبيب في ادعاءاتهم على حقائق أثريّة كعدم اكتشاف أي أثر لوجود دولة إسرائيلية شمال القدس فالتجمعات الأوليّة من ناحية أثريّة، والتي تعود إلى الوجود اليهودي، كانت في القدس والجنوب بينما في التوراة هناك وصف لدولة إسرائيلية في الشمال، كما أنّ المكتشفات العلميّة تشير إلى أنّ الإسرائيليين دخلوا البلاد بحدود القرن الثامن قبل الميلاد وليس قبل ذلك كما هو واردٌ في التوراة.

 

انعدام الحياديّة لا تميّز فقط الجانب الإسرائيلي بل تشمل أيضاً، كما يؤكد خلايلة، الجانب الفلسطيني، حين يرفع البعض شعارات كقولهم إنّ "كل الشعوب والأمم التي كان لها صلة بفلسطين تركت آثاراً لها شاهدة على تلك الصّلة إلا اليهود فلم يعثر لهم على أيّة آثار". هذا الإدّعاء أيضًا تمّ نقضه بالعمل الأثري، فهنالك تلة الهوريديون القائمة شرق بيت لحم وهي من مخلّفات الشعب اليهودي وقلعة متسادا وهنالك أيضاً مغائر موجودة في الصحراء الشرقيّة وغير ذلك من الكتابات التي تشير إلى الوجود اليهودي.

 

 

وطأة المعطيات التاريخية

 

 

من جانبه أشار عالم آثار إسرائيلي، فضّل عدم نشر اسمه، إلى وجود العديد من الاعتبارات والضغوطات في العمل الأثري سواء كانت أيديولوجيّة أو سياسيّة أو اقتصاديّة. ولتجسيد قوله فإنه يعطي مثالاً على الحفريات القائمة في منطقة شعفاط في القدس. وتأتي حفريات الإنقاذ هذه إبّان إقامة سكة حديدية مخطط لها، والتي تمر في تلك المنطقة، لتمنع هدم مخلّفات أثريّة. على أثر هذه الحفريات أطلّت مديرة الحفريّات بتصريحات لوسائل الإعلام حول اكتشاف مدينة يهوديّة كبيرة تعود إلى فترة ما بين خراب الهيكل الثاني وثورة باركوخبا. عالم الآثار هذا لفت إلى أنّ المدينة التي وجدت مخططة بصورة دقيقة ومنظّمة وجميلة جداً وتحوي العديد من الآبار بالإضافة إلى شبكة مياه متطورة وحمامين بمنتهى الروعة وأبنية ذات جودة. كما وجدت أيضاً العديد من العملات والأدوات الفخاريّة والزجاجيّة والحجريّة. ويضيف أنّ ما اعتمدت عليه مديرة الحفريات في تفسيرها وإشارتها إلى يهوديّة المدينة هو أنّ اليهود في فترة الهيكل الثاني استعملوا بكثرة الأدوات الحجريّة وهذا له علاقة بمعتقداتهم حول الطهارة والنجاسة. ونوّه إلى أنّ الإدّعاء حول يهوديّة المدينة هو إدّعاء ضعيف فكيف يمكن أن تكون مدينة يهوديّة منظّمة ومخططة ومبنيّة بدقّة ما زالت قائمة بعد خراب الهيكل وتدمير القدس وقتل ما يقارب نصف السكان اليهود على أيدي الرومان؟ هناك مجال للشك في يهوديّة هذه المدينة والتي ربما تعود إلى جنود رومانيين ولا يمكن الجزم في الأمر. ويضيف أنّه لم يؤيّد مديرة الحفريّات بالنسبة للتصريحات التي أدلت بها ونصحها بالعدول عن ذلك، إلا أنّها قامت بما يمليه عليها واجبها السياسي والعقائدي لأنّها مقتنعة بالقصة التاريخية التي كان لها أثرها في تفسيرها للمكتشف. وأكّد أنّه عندما يكون سؤال البحث مبنيا على معطيات تاريخية وليست أثريّة فهذا من شأنه أن يوجّه البحث إلى اتجاه معين.

وتطرّق إلى الضغوطات الأخرى في العمل الأثري بتذكيره أنّ الملزم بتمويل حفريات الإنقاذ هي الجهة التي تنوي القيام بأعمال بناء وهذا تترتب عليه اعتبارات اقتصاديّة، والحفريات في منطقة سلوان الواقعة في القدس هي خير مثال لإيضاح الصورة، إذ أنّ من يموّل تلك الحفريات هي جمعيّة تابعة للمستوطنين القاطنين في تلك المنطقة وضرورة توسعهم في البناء تحتّم عليهم تمويل حفريات إنقاذ وبالتأكيد هم لا يدفعون لعالم آثار حتى يسمعهم تصريحات عن الفترة الإسلاميّة وإنّما ما يهمّهم هي الآثار المنسوبة إلى حقبتي الهيكلين الأول والثاني.

منطقة سلوان مقامة على أنقاض مملكة يهودا وفق الاعتقاد اليهودي، في العام 2005 تم التصريح على إثر حفريات في المنطقة عن اكتشاف معلم أثري يعود إلى قصر الملك داود وممر يعود إلى فترة الهيكل الثاني، إلا أنّ عالم الآثار المذكور أكّدّ "أنّ مديرة الآثار نفسها التي أطلقت هذه التصريحات تعرف أنّ ذلك مجرّد هراء، لأن هذه المكتشفات لا تعود إلى فترة الملك داود بالمرّة، وأمّا الممر فهو موضع نقاش لأنّه ليس من المؤكّد أنّه يعود إلى فترة الهيكل الثاني وربما يعود إلى فترة متأخّرة أكثر".

 

كما أفادنا أريئيل فيندربويم، وهو عالم آثار شارك في الحفريات في سلوان، أنّ المعلم الأثري يعود إمّا إلى القرن العاشر، وهي الفترة التي حكم فيها الملك داود أو القرن الحادي عشر، وهي الفترة التي وجد فيها اليبوسيون. ومن المحتمل أن يكون المعلم قلعة يبوسيّة، إلا أنّ عدم العثور على أيّة آثار أخرى ممكن أن تكون من بقايا قصر الملك داود دفع مديرة الحفريات إلى الترجيح بأن يكون هذا المعلم هو جزء من القصر. وقد أثار تصريحها اهتمامات واسعة في الغرب.

 

 

"الدولة غير معنيّة بالحفاظ على المواقع الإسلاميّة"

 

 

في سياق آخر أورد عالم الآثار الذي ذكر سابقاً أنّه في نهاية الأمر فإنّ سلطة الآثار الإسرائيليّة تخضع دائماً لما تمليه عليها الحكومة، المعنيّة بالأساس في إظهار المعالم والمناطق السياحيّة التي تشير إلى يهوديّة الدولة.

 

وأضاف "لغاية اليوم أنا لا أعرف عن أي موقع إسلامي حفر وتم حفظه ليعرض للجمهور، هذا يشير إلى أنّ الدولة غير معنيّة بالحفاظ على المواقع الإسلاميّة. فعلى سبيل المثال كانت هناك حفريات عملاقة في بيسان ووجدت مدينة في غاية الجمال من الفترة الأمويّة، تشمل أسواقا وبيوتا، وكان من الأجدر أن يتم الإبقاء عليها لأغراض سياحيّة إلا أنّها أزيلت، وعرضت للجمهور مدينة من الفترة الرومانيّة- البيزنطيّة والتي اكتشفت نتيجة تكملة الحفريات. كذلك فإنّ الحفريات الواسعة النطاق في القدس والتي انطوت عليها مكتشفات تعود إلى العديد من الحضارات لم يعرض منها سوى ما يخص فترة الهيكل الثاني".

وعلى صعيد الحفريات في منطقة الحرم الشريف فقد أورد أنّها شملت كل مساحة الحائط الجنوبي المعروف بحائط المبكى وباحته ونتجت عن ذلك فراغات كبيرة جداً تحت سطح الأرض، ولفت إلى أنّ بعض هذه الحفريات يشكل خطراً على حياة الساكنين في الحي الإسلامي، لأنّه يتم الحفر تحت البيوت، والوضع أيضاً مماثل في منطقة سلوان. وعن الأقاويل حول إقامة كنيس في هذه الفراغات أوضح أنّ هناك غرفة للصلاة ولكن يوجد مخطط لإقامة كنيس.

 

في هذا السّياق أسف د. رافي غرينبرغ، عالم الآثار والمحاضر في جامعة تل- أبيب، في مقابلة خاصة لهذا التحقيق، لكون أنّ بعض المواقع الأثريّة وعلماء الآثار يستخدمون كسلاح في معركة السيطرة السياسيّة والدينيّة على القدس. ويضيف أنّه لا توجد أيّة حاجة علميّة ملحّة للعديد من الحفريّات التي تتم هذه الأيّام في البلدة القديمة، والغالبية العظمى من هذه الحفريّات ناتجة عن ممارسة ضغوطات من قبل جهات غير مهنيّة وعقائديّة متطرّفة.

 

وتابع قائلاً "من ناحيتي يجب تجميد البناء الجديد في البلدة القديمة وتجميد الحفريات إلا في حال وجود حاجة عاجلة تعود إلى مشاكل في البنى التحتيّة وما شابه ذلك". وبرأيه فإن إمكانية حياة مستقبليّة مشتركة في القدس توجب إشراك ممثّلين عن السكان الفلسطينيين أيضا بقرارات تخص الحفريّات والحفاظ على مواقع أثريّة وكيفيّة عرضها للجمهور.

 

كما أشار غرينبرغ إلى اليقظة التي طرأت في السنوات الأخيرة على علم الآثار إسرائيلياً وعالمياً والمتمثّلة بعدم الأخذ بأي نص حتى وإن كان مقدّساً على أنّه مصدر موثوق به في سبيل تعلّم التاريخ القديم بل يجب دراسة ومراجعة كل نص. وأضاف أنّ المكتشفات الأثريّة وعلى الأخص إذا كانت مقدّمة في سياق مقالات أو كتب هي أيضاً موضع شك ومفتوحة للنقاش، علماً أنّ انتساب العالم لمذهب معيّن ليس مقرونا فقط باعتبارات علميّة إنّما أيضاً اجتماعيّة وسياسيّة.

 

 

خروقات إسرائيلية في المناطق الفلسطينية المحتلة

 

 

على صعيدٍ آخر تطرّق غرينبرغ إلى الخروقات والانتهاكات الواضحة في الحفريّات الأثريّة التي تتم في مناطق السلطة الفلسطينيّة. وأشار إلى أنّه بالرغم عن أنّ إسرائيل لم تعترف يوماً أنّها قوّة احتلال إلا أنّ الحفريات الأثريّة التي تتم خارج نطاق الخط الأخضر، عدا عن القدس، تنفّذ وفق المعايير المتبناة في معاهدة "لاهاي"، ما يعني أنّ شؤون الآثار تدار من قبل "ضابط آثار" يخضع لإمرة رئيس الإدارة المدنية وليس لسلطة الآثار الإسرائيليّة. وعلى امتداد أربعين عامًا من الاحتلال بادر ضباط الآثار إلى ما يزيد عن الألف من الحفريّات في ما يقارب ستمائة موقع تمتد على طول الضفة الغربيّة وعرضها وكانت هناك أيضاً بعض الحفريّات في قطاع غزّة.

 

وتابع "يخيّل للبعض أنّ هذه الحفريّات ناتجة عن متطلبات التطوير والتوسّع في القرى الفلسطينيّة والمستوطنات، إلا أنّه وفق المعطيات التي لدينا فإنّ هناك حفريّات تمت لحاجات سياحيّة وأخرى تعبّر عن إرادة المبادرين إلى الحفريّات، سواء كانوا ضباط الآثار أو علماء من قبل مؤسسات أكاديميّة إسرائيليّة في بحث مواقع تهمّهم. أضف إلى ذلك أنّ الحفريّات التي لا يتمخّض عنها نشر علمي شأنها شأن حفريات السرقة التي يفقد فيها العديد من الآثار القيّمة. وبخصوص ضباط الآثار فإنّ الحديث ليس فقط عن العديد من الحفريّات التي لم ينشر عنها شيء إنّما أيضاً هناك الكثير من الحفريّات والتي لم يعرف عن مجرّد إجرائها شيء فضلاً عن أنه لم ينشر عنها قطّ".

 

ويجري غرينبرغ بحثاً شاملاً حول الحفريّات التي تمّت في مناطق السلطة الفلسطينيّة ويتساءل متشككاً بالنسبة للعديد من الحالات التي حفر فيها ضباط الآثار ولم يدوّن من الذين حفروا وأين تمت الحفريّات بالضبط وماذا كانت نتائجها، ويندرج كل ذلك في عداد المجهول.

 

"لا شك أنّ عمل ضباط الآثار دون واجب التدوين والتوثيق يشكّل أحد الخروقات الخطيرة للغاية، ولذا يجب إصلاح الوضع"، وفق ما يورد غرينبرغ.

 

وهناك مشكلة خطيرة أخرى هي حقيقة أنّ ضابط الآثار لا يرى أبداً أنّ من واجبه التعامل مع منظمات فلسطينيّة حكوميّة أو غير حكوميّة من التي تعمل على الحفاظ على تراث الماضي، ما أدّى إلى وجود انقطاع مطلق ما بين عمل ضابط الآثار والسكّان الفلسطينيين المحليين، هذا الانقطاع يهدّد وجود المواقع الأثريّة على المدى القريب والبعيد.

 

أخيرًا من الواضح أنّ نيران الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني لم تلتهم فقط ما فوق الأرض بل تغلغلت إلى باطنها لتترك حيزاً مشتعلاً من عدم الحياديّة والموضوعيّة الجزئيّة في علم الآثار، وبهذا تدخل بعض العلوم أيضاً إلى متاهات الصراع الهدّامة.