موفاز: الانسحاب من غزة خلال شهر ونصف الشهر

وثائق وتقارير

* رفعت أسهم إسرائيل لدى الشتات اليهودي وعمقت التقاطب داخل المجتمع الإسرائيلي!* مؤلف أحدث كتاب عن الحرب: حرب 1967 اشتملت على إخفاقات عديدة لعل أشدّها خطرًا هو أنها لم "تخلق نطاقًا واسعًا من الردع في العالم العربي" * عقدت الندوة في "معهد دراسات الأمن القومي" في جامعة تل أبيب *

 

  

(*) تل أبيب:

 

قال البروفيسور شلومو أفينيري، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة العبرية- القدس والمدير العام الأسبق لوزارة الخارجية الإسرائيلية، إن خطة الانفصال أو فك الارتباط عن قطاع غزة مثلت "بداية التغيير في الخطاب السياسي الإسرائيلي السائد بشأن المناطق" المحتلة، غير أن هذا التغيير بات جامدًا الآن لعدة أسباب لعل أهمها هو غياب رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق، أريئيل شارون، عن الخريطة السياسية. وأوضح أفينيري أن أهمية هذا التغيير يكمن في أن خطة الانفصال المذكورة أعادت إلى الصدارة النقاش حول موضوع هام للغاية، هو ضرورة تقسيم البلاد "بيننا وبين الفلسطينيين"، الذي اختفى كليًا من الخطاب السياسي الإسرائيلي بعد حرب حزيران 1967.

جاءت أقوال أفينيري في ندوة عقدت، بتاريخ 11 تموز/ يوليو 2007، في "معهد دراسات الأمن القومي" في جامعة تل أبيب، احتفاء بصدور كتاب "الدبلوماسية في ظل الحرب" حول حرب حزيران 1967 من تأليف البروفيسور زكي شالوم وبمناسبة مرور أربعة عقود على اندلاعها.

 

وشارك في الندوة، إلى جانب أفينيري، كل من البروفيسور آفي بن تسفي ود. يهودا بن مئير ود. إفرايم كام والبروفيسور زكي شالوم. وقد حملت عنوان "حرب الأيام الستة في اختبار الزمن". وفيما يلي هذا العرض الخاص لها:

 

 

حدود وقيود التحالف الإستراتيجي الإسرائيلي- الأميركي

 

تطرق البروفيسور آفي بن تسفي، من قسم العلاقات الدولية في جامعة حيفا، ضمن مداخلته إلى "حدود وقيود التحالف الإستراتيجي الإسرائيلي- الأميركي في الفترة ما بين 1967-2007".

وقال بن تسفي إن علاقات إسرائيل مع الولايات المتحدة كانت محكومة قبل أي شيء بمعادلتين: الأولى- المعادلة الإستراتيجية والثانية- معادلة "العلاقات الخاصة". وهذه الثانية عائدة إلى عدة أسباب أهمها أوجه الشبه الكثيرة بين المجتمعين. لكن حتى العام 1967 كانت المعادلة الثانية غائبة أو غير مركزية، في حين سيطرت على المعادلة الأولى، الإستراتيجية، نظرة أميركية رسمية رأت الأهمية التي ينطوي عليها وجود إسرائيل في منطقة الشرق الأوسط لكنها اعتبرتها عبئًا كبيرًا. وقد أدت حرب حزيران 1967، ضمن أشياء أخرى، إلى ما أسماه المحاضر بـ"تعديل" العلاقة بين المعادلتين. وأشار بن تسفي إلى أن التعديل السالف يبدو كما لو أنه أتى نتيجة مباشرة للحرب، لكن قراءة متعمقة لجوهر العلاقات بين الدولتين توضّح أن النظرة التي اعتبرت إسرائيل عبئًا إستراتيجيًا بدأت بالتراجع في عقد الأعوام، الذي سبق تلك الحرب، وقد تمثل الأمر أساسًا في صفقات الأسلحة التي عقدتها إسرائيل مع الولايات المتحدة في ذلك العقد.

وتابع بن تسفي أن حرب حزيران 1967 أثبتت النجاعة الإستراتيجية لدولة إسرائيل في الشرق الأوسط، في مقابل العالم العربي وفي مقابل الاتحاد السوفييتي على حدّ سواء. وعلى المستوى السياسي بدأ الحديث الأميركي عن صيغة "الأرض مقابل السلام" بمفهوم تقديم تنازلات من طرف العالم العربي. إلا أنه، وبصورة متناقضة، زرعت حرب 1967 البذور الأولى لتآكل مكانة العلاقات الخاصة بين إسرائيل والولايات المتحدة. فقد أدّت هذه الحرب إلى تراجع بعض الأساطير التي كانت بمثابة دعائم لهذه العلاقات الخاصة، ومنها مثلاً أسطورة "الفئة القليلة في مقابل الفئة الكبيرة" التي كانت تلهب خيال العديد من أفراد الرأي العام الأميركي. كما أن التطورات السياسية التي أعقبت حرب 1967 وبلغت الذروة في زيارة الرئيس المصري أنور السادات إلى إسرائيل العام 1977 حطمت أسطورة "العالم العربي الواحد المتراصّ الذي ينوي تدمير دولة إسرائيل"، والتي على خلفيتها تمّ تجنيد الدعم غير المشروط لإسرائيل. وفي رأي بن تسفي فإن الخطر الأكبر الذي أفرزته الحرب على جوهر العلاقات الإسرائيلية- الأميركية يتمثل في المستوطنات الإسرائيلية في المناطق الفلسطينية المحتلة، هذه المستوطنات التي "أدت إلى حدوث انقسام حادّ في صفوف الشعب في إسرائيل وفي صفوف الجاليات اليهودية في الولايات المتحدة" كما نجمت عنها عدة أزمات في سياق العلاقة بين الطرفين "كانت أخطرها أزمة ضمانات القروض إبان إدارة الرئيس جورج بوش الأب خلال فترة حكومة إسحق شامير"، على حد تعبيره.

وخلص المحاضر إلى القول إنه منذ حرب حزيران 1967 خضعت مكانة إسرائيل الإستراتيجية إلى تطوير وتحديث دائمين في نظر الولايات المتحدة، مع ذلك برزت براعم تآكل في معادلة العلاقات الخاصة. وهذا الأمر الأخير لا يعني زوال هذه العلاقات الخاصة وأثرها على جوهر التحالف، إذ نشأت نخب أميركية جديدة في الولايات المتحدة تعتبر أكثر تأييدًا لهذه العلاقات الخاصة، منها المحافظون الجدد، كما أنّ كل ما تلا أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001 من تطورات يعتبر تدعيمًا لهذه العلاقات، لكن يمكن القول إن "معادلة العلاقات الخاصة" باتت ممأسسة وغير ناجمة عن سيادة مزاج شعبي عام.

 

ارتفاع أسهم إسرائيل لدى الشتات اليهودي

 

 

تمحورت مداخلة د. يهودا بن مئير، نائب وزير الخارجية وعضو الكنيست الأسبق عن حزب "المفدال" والباحث في "معهد دراسات الأمن القومي"، حول موضوع "التبدلات في المجتمع الإسرائيلي في أعقاب حرب حزيران 1967".

وفي رأي بن مئير فإن هناك تبدلين رئيسين:
•الأول- تأثير حرب حزيران 1967 الهائل على الشتات اليهودي، خصوصًا في الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. فقد ارتفعت أسهم إسرائيل كدولة للشعب اليهودي لدى الشتات وارتقى تماثل هذا الشتات مع إسرائيل عدة درجات، إذ قبل ذلك لم يكن هذا التماثل بدهيًا أو مفهومًا بصورة ضمنية حتى بين صفوف أبناء الجالية اليهودية في الولايات المتحدة. وإنما الذي كان هو تماثل محدود نجم أساسًا عن وجود مخاوف بشأن تدمير إسرائيل. وقد انعكس تعزّز هذا التماثل في حجم التبرعات والمساعدات وكذلك في تصاعد موجة الهجرة اليهودية إلى إسرائيل. وأشار المحاضر، أيضًا، إلى أن بذور الهجرة اليهودية الكبرى من دول الاتحاد السوفييتي السابق في مطلع التسعينيات تم زرعها في أعقاب حرب حزيران 1967. ولا شك أن هذا التغيّر الجوهري في تماثل الشتات اليهودي مع دولة إسرائيل خضع للمدّ والجزر بعد تلك الحرب وبتأثير أحداث كبيرة أخرى من قبيل الحرب على لبنان في 1982 والانتفاضة الفلسطينية الأولى في 1987 والانتفاضة الفلسطينية الثانية في 2000.
•الثاني- نشوء تقاطب عميق داخل المجتمع الإسرائيلي حيال موضوع "مستقبل المناطق" (المحتلة). وهو تقاطب آخذ في التعمق وأصبح يقسم بصورة عامودية بين جمهورين من السكان اليهود: الجمهور الحريدي- الوطني والجمهور العلماني. وإن ما يميز هذا الانقسام هو تطرّف الجمهور الحريدي- الوطني الذي يحمل في طياته الكثير من الأخطار على المجتمع الإسرائيلي رغم كون هذا الجمهور أقلية صاخبة، مثل كل أقلية.

 

وأضاف بن مئير أن هناك تبدلات أخرى طرأت على المجتمع الإسرائيلي في أعقاب حرب حزيران 1967، غير أنها يمكن أن لا تكون ناجمة عنها فقط. من ذلك مثلاً مسار تطوّر الاقتصاد الإسرائيلي، الذي انطلق بقوة نحو النموّ بتأثير الحرب. وأيضًا انتقال التشديد من الانتماء إلى الجماعة القومية، أي على الـ"نحن"، إلى التشديد على الانتماء الفردي، أي على الـ"أنا". غير أن مشاعر التماثل مع الجماعة القومية "لا تزال قوية كفايتها ولا تعتبر مدعاة لإثارة القلق"، على حدّ تعبيره.

 

ماذا تعلم العرب من الحرب؟

 

حملت مداخلة د. إفرايم كام، نائب رئيس "معهد دراسات الأمن القومي"، عنوان "ماذا تعلمت الأطراف العربية من حرب حزيران 1967؟".

 

وقد أشار المحاضر، على وجه الخصوص، إلى أن الأطراف العربية بقيت بعد عدة سنوات من حرب 1967 تبحث عن شتى السبل لتجاوز آثار الهزيمة. وبمقارنة ذلك مع الأوضاع الحالية التي تسود العالم العربي يمكن القول إن تغييرات هامة ودراماتيكية قد طرأت على مواقف هذه الأطراف "حيث من الصعب أن تجد زعيمًا عربيًا واحدًا الآن يتبنى موقفًا يقول بضرورة هزيمة إسرائيل"، على حدّ قوله. وفي هذا الشأن نوّه المحاضر بأن حرب أكتوبر 1973 أزالت وصمة الهزيمة في 1967 لكن في الوقت نفسه "أثبتت للأطراف العربية أنه يستحيل إلحاق الهزيمة بإسرائيل".

 

وقدم كام عرضًا لـ"تطوّر المواقف السياسية والعسكرية لدى كل من مصر وسورية والأردن، منذ حرب حزيران 1967". ومما أورده في هذا الشأن نتوقف عند ما يلي:


1.مصر: بعد حرب حزيران 1967 مثل أمام مصر خياران واقعيان: الأول- خوض حرب استنزاف ضد إسرائيل. والثاني- القيام بعملية عسكرية محدودة (شبيهة بتلك التي جرى القيام بها خلال حرب أكتوبر 1973). وقد اختار الرئيس جمال عبد الناصر الخيار الأول. أما خليفته، الرئيس أنور السادات، فقد استقّر قراره على إتباع الخيار الثاني وأضاف إليه عنصرين جديدين هما: 1- تطوير الخيار العسكري، 2- دمج الخيار العسكري ضمن عملية سياسية. وبناء على ذلك فإن النظر إلى حربي 1967 و1973 ينبغي أن يتم باعتبارهما وحدة واحدة من ناحية مصر.
2.سورية: أدت حرب حزيران 1967 إلى "اعتراف سوري برجحان توازن القوى بين إسرائيل وسورية لمصلحة الأولى، وإلى معرفة أن إسرائيل تهدّد دمشق انطلاقًا من هضبة الجولان المحتلة". لكن سورية ظلت متمسكة بـ"الخط المتشدّد" حيال إسرائيل لأسباب أيديولوجية ولـ"غياب إكراهات مماثلة لتلك التي اضطرت مصر إلى انتهاج طريق التسوية السياسية، ومنها الأوضاع الاقتصادية الداخلية".

وأرجع المحاضر أسباب موافقة سورية على "التحادث مع إسرائيل" في أوائل التسعينيات إلى ما أسماه "انهيار مفهوم الأمن السوريّ". كما أشار إلى أن سورية "لا تمتلك الآن إستراتيجية واضحة بشأن نزاعها مع إسرائيل".
3.الأردن: اعتبر المحاضر أن الأردن "خضع للتغيير الأكثر أهمية" الذي ترتب على حرب حزيران 1967. وأشار إلى أن أبرز الدروس التي استبطنها الأردن بعد تلك الحرب هي "التنازل عن خيار الحرب ضد إسرائيل والاتجاه نحو خيار التعايش السلمي معها" وأيضًا "التنازل عن الضفة الغربية، الذي تم الوصول إليه بصورة تدريجية إلى أن أعلن عنه رسميًا في العام 1988" (المقصود إعلان الملك حسين عن فك الارتباط مع الضفة الغربية).

وإجمالاً، قال كام، كان لحرب حزيران 1967 دور حاسم وباتّ في إقناع العرب باستحالة القضاء على إسرائيل "لأنها متفوقة من ناحية إستراتيجية ولأنها تعتمد على الولايات المتحدة". وبعد هذه الحرب "اختفى تعبير تصفية آثار حرب 1948 وحلّ محله تعبير تصفية آثار حرب 1967"، كما "انهار الائتلاف العربي".

 

كل حروب إسرائيل خلفت "إعاقات"

 

 

تركز البروفيسور زكي شالوم، المحاضر في جامعة بن غوريون في النقب والباحث في "معهد دراسات الأمن القومي"، خلال محاضرته بعنوان "إسقاطات حرب حزيران 1967"، على ما أسماه "الإعاقات" التي خلفتها وراءها كل حرب من "حروب إسرائيل" المختلفة.

 

وقال شالوم إن الانطباع الشعبي العام هو أن إسرائيل "انتصرت في كل الحروب التي خاضتها، سواء كانت حروبًا اختيارية أو اضطرارية"، لكن الحقيقة التي يجري التغاضي عنها على الدوام هي أن كل حرب تخلف وراءها "نسبة إعاقة معينة".

 

وقدّم أمثلة موجزة على ذلك كما يلي:


•حرب 1948 (أو المسماة "حرب الاستقلال" في القاموس الإسرائيلي الرسمي)- لم تشهد هذه الحرب تضامنًا على نطاق واسع لدى الييشوف (المجتمع اليهودي في فلسطين) كما هو موصوف في الروايات الإسرائيلية الرسمية. وكانت لدى عدد كبير من الساسة قناعة أكيدة بأن الصفة التي تم خلعها على هذه الحرب بأنها "حرب الفئة القليلة ضد الفئة الكبيرة" هي كذبة ممجوجة. كما روفقت الحرب بصراعات سياسية عنيفة. وخلقت هذه الحرب مشكلة اللاجئين الفلسطينيين التي لا تزال تلاحق إسرائيل حتى أيامنا الحالية. وقد انتهت حرب 1948 بشعور أنها "فوتّت فرصة ترجمة المنجزات العسكرية إلى اتفاقات سياسية لمصلحة إسرائيل". ورغم كل ذلك فقد اعتبرت هذه الحرب بمثابة انتصار باهر.
•"عملية قاديش" (أو حرب السويس) في العام 1956- في هذه الحرب تحالفت إسرائيل مع دولتين كولونياليتين (بريطانيا وفرنسا) خاضتا حربًا وحشية ضد دولة من العالم الثالث (مصر). وكانت حربًا اختيارية كلاسيكية هدف دافيد بن غوريون من ورائها إلى إسقاط نظام جمال عبد الناصر.
•حرب "يوم الغفران" أو حرب أكتوبر 1973- تمثلت الإعاقة التي خلقتها هذه الحرب في اندلاعها بصورة مفاجئة وفي حجم الخسائر البشرية والمادية التي تكبدتها إسرائيل، وكذلك في اتضاح حقيقة أن إسرائيل لم تكن جاهزة لحرب طويلة الأمد، وعلى خلفية ذلك تم تسيير قطار جوّي من الولايات المتحدة إلى إسرائيل.

 

وأسهب شالوم في الحديث عن حرب 1976، اعتمادًا على الاستنتاجات التي توصل إليها في كتابه والذي يعتبر أحدث مؤلف إسرائيلي حول هذه الحرب. وقال إنه رغم ارتسام الحرب باعتبارها انتصارًا ساحقًا في الذاكرة الشعبية الإسرائيلية فقد اشتملت على الكثير من الإخفاقات.

 

من هذه الإخفاقات ذكر شالوم ما يلي:
•أولاً- اشتملت الحرب على سلسلة من الإخفاقات الاستخبارية، ومعظمها يتحمل المسؤولية عنها وزير الدفاع آنذاك، موشيه ديان. مثلاً قدّر ديان أن مصر لن تهبّ لنجدة سورية وأن مصر لن تشارك في الحرب بسبب تبعات الحرب في اليمن، وقد تبين أن تقديراته خاطئة.
•ثانيًا- لم يخطط رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك، ليفي أشكول، ما عرف باسم "فترة الانتظار"، وإنما انجرّ إليها بسبب عدم قدرة القيادة السياسية على حسم أمرها.
•ثالثًا- قصة انهيار رئيس هيئة الأركان العامة للجيش، إسحق رابين. وعلاوة على هذا الانهيار الذي بات معروفًا، فإن رئيس هيئة الأركان العامة لم يبثّ ذرة واحدة من الإصرار أو التصميم على أن في وسع الجيش الإسرائيلي أن يشنّ الحرب.
•رابعًا- الثقافة السياسية التي سيطرت على المؤسسة السياسية الإسرائيلية كانت ثقافة فاسقة، ويمثل على ذلك أكثر من أي شيء آخر تغاضي وزير الخارجية في ذلك الوقت، أبا إيبان، عن التوجيهات التي تلقاها من المؤسسة السياسية عند خروجه إلى بعثة خارجية تمهيدًا للحرب.

 

وأكد شالوم إن الإخفاق الأكبر لحرب 1967 هو أنها لم "تخلق نطاقًا واسعًا من الردع في العالم العربي، الذي ظلّ يقاتل إسرائيل، بل وبدأ بذلك بعد أشهر معدودة من انتهاء الحرب، وذلك خلافًا لحرب 1948 التي أوجدت ردعًا إستراتيجيًا وحتى خلافًا لحربي 1956 و1973"، على حدّ اعتقاده.

 

عودة خطاب التقسيم بعد حرب 1967

 

المحاضرة الأخيرة في هذه الندوة قدمها البروفيسور شلومو أفينيري، وكانت بعنوان "تغيير الخطاب السياسي في إسرائيل بعد حرب حزيران 1967".

 

أشار أفينيري في البداية إلى أن الموضوع المركزي الذي هيمن على الخطاب السياسي في الييشوف خلال العقد الممتد بين الأعوام 1937-1947 تمثل في موضوع التقسيم (تقسيم فلسطين). ولم يكن التعاطي مع التقسيم بسيطًا من قبل مختلف القوى السياسية الصهيونية، حيث أنه ترافق أيضًا مع اندلاع الحرب العالمية الثانية وأحداث المحرقة (الهولوكوست). وقال إن "فرحتنا بصدور قرار التقسيم في 1947 كان عائدًا إلى صدور اعتراف دوليّ بسيادة يهودية على جزء من فلسطين، ولو أن العرب فرحوا كما فرحنا وتصرفوا مثلنا لقامت دولة فلسطينية مستقلة بجوار دولة إسرائيل منذ ذلك الوقت"، على حد تعبيره.

 

وأضاف: بين الأعوام 1949-1967 رأت الحركة الصهيونية في التقسيم، حسبما جرى تطبيقه ميدانيًا، لا بحسب قرار التقسيم الدوليّ من العام 1947، بمثابة تحقيق للأهداف الصهيونية القابلة للتحقيق. وكان الشيء الرئيس هو أنه تم إنجاز السيادة الإقليمية اليهودية وتمّ تلقين العرب درسًا عسكريًا بغضّ النظر عن أنهم لم يتعلموه جيدًا. وأعرب عن اعتقاده بأنه لو كان العرب، في فترة الأعوام المذكورة، قد عرضوا اتفاق سلام على إسرائيل يستند إلى حدود اتفاقيات الهدنة في العام 1949 لكانت غالبية القيادة السياسية الإسرائيلية تقبل هذا الاتفاق، مع إمكان تفجّر بعض الجدل في شأنه بطبيعة الحال. في تلك الفترة أيضًا لم يكن هناك زعيم إسرائيلي واحد عرض أن تشنّ إسرائيل حربًا مدبّرة من أجل "تحرير أجزاء من الوطن" لم تشملها حدود دولة إسرائيل (المقصود بعض مناطق الضفة الغربية). حتى حزب حيروت اليميني، بزعامة مناحيم بيغن، لم يطرح مثل هذا الأمر. وقد ركز هذا الحزب، باعتباره المعارضة الرئيسة لحزب مباي والتيار العمالي الصهيوني، حراكه السياسي لا في محاربة النظام الحاكم على خلفية إهماله لتحرير تلك الأجزاء من الوطن، إنما على خلفية مواضيع أخرى هي بالأساس مواضيع اجتماعية واقتصادية.

 

وتابع المحاضر: غير أن حرب حزيران 1967 خلطت جميع الأوراق وتغيّر الخطاب السياسي في إسرائيل وعاد خطاب التقسيم مرة أخرى إلى صدارة جدول الأعمال العام، مع ملاحظة أن هناك فارقًا كبيرًا بين الدعوة إلى خوض حرب من أجل "تحرير أجزاء من الوطن" وبين الإصرار على عدم إعادة هذه الأجزاء بعد أن أصبحت في حوزتنا عقب الحرب. أما استعمال مصطلح "أرض إسرائيل"، والذي كان يعني حتى 1967 دولة إسرائيل، فقد بات يظهر رويدًا رويدًا كما لو أنه يخصّ الجزء الشرقي من الخط الأخضر فقط، لا الجليل أو النقب. علاوة على ذلك فإن هذا المصطلح يعطي أفضلية لما يسمى بـ"المعسكر القومي" (الوطني) ويجعل معسكر اليسار الصهيوني في موقف الدفاع عن نفسه.

 

كما أشار أفينيري إلى التطورات السياسية التي طرأت على ما يسمى بتيار الصهيونية الدينية، الذي يمثل عليه حزب المفدال. ومما قاله في هذا الشأن إن حزب المفدال كان حتى العام 1967 حركة دينية معتدلة. لكن بعد 1967 تغيرت الصورة تمامًا، وشيئًا فشيئًا أصبح المفدال حزبًا يقود معسكرًا واحدًا هو المعسكر القومي (الوطني).

 

أخيرًا أشار أفينيري، كما سبق التنويه، إلى أن خطة الانفصال عن قطاع غزة مثلث بداية التغيير في هذا الخطاب السياسي والعقلي الذي ترسخ بعد حزيران 1967، لكنها لم تعمّر طويلاً وهي الآن في حكم المجمدة دون القدرة على معرفة ما إذا كانت ستعود إلى تصدّر الأجندة أم لا.

 

 

[إعداد: مركز مدار. يرجى الإشارة إلى المصدر عند الاقتباس]