* البروفيسور داني رابينوفيتش لـ"المشهد": التدهور الاجتماعي ناجم، أساسًا، عن وجود أزمة قيادة * السياسة الرسمية لإسرائيل تجاه العرب ما زالت قائمة على أساس تجاهلهم وإهمال معالجة قضاياهم أكثر من كونها ملاحقة سياسية أو ما شابه * مشروع "دولة اليهود" لا يمكن أن يستمر في العيش في أوضاع كهذه سنين طويلة *
تشهد إسرائيل في السنوات الأخيرة، بوتيرة متسارعة، تفجر قضايا اجتماعية وأخلاقية، تدل على تدهور اجتماعي غير مسبوق. ولعل أبرز هذه القضايا هي قضايا فساد تورطت فيها النخبة السياسية الإسرائيلية. إضافة إلى ذلك تواجه إسرائيل أزمات اجتماعية وعدم اندماج المهاجرين الروس في المجتمع المحلي وهجرة عشرات الآلاف، وربما أكثر، منهم إلى أميركا الشمالية. وأخذت دائرة الفقر في هذه الأثناء بالاتساع لتبرز مظاهر لم تكن موجودة من قبل، مثل ظاهرة الملياردير من أصل روسيّ أركادي غايداماك الذي يقوم بأعمال خيرية لعدم مطالبته بالكشف عن دخله الحقيقي أمام سلطات الضريبة. وفي ظلّ هذه الأوضاع تصاعد العداء للأقلية الفلسطينية في إسرائيل.
ورأى أستاذ العلوم الاجتماعية في جامعة تل أبيب وكليات أخرى، البروفيسور داني رابينوفيتش، في لقاء مطوّل مع "المشهد الإسرائيلي"، أن وضع الفساد السلطوي الذي يجتاح إسرائيل هو وضع "مخيب للآمال جدا ومثير للقلق جدا، لأنّ هناك مشاعر واسعة جدا لدى الجمهور بأن السياسيين يدخلون مجال الشؤون العامة بالأساس لأهداف شخصية وللاهتمام بأنفسهم. وأنا أقول عن قصد بأن ما يقلقني هو أن هناك مشاعر واسعة كهذه لدى الجمهور لأنه يتوجب تقسيم الوضع إلى قسمين. أولا، ما هو حجم الفساد، أي ما هو عدد السياسيين الذين يدخلون الحياة العامة فقط بهدف مساعدة أنفسهم للتقدم الشخصي وللمقربين منهم؟ والأمر الثاني هو كيف ينظر الجمهور إلى هذا الوضع؟. وحقيقة أن الجمهور ينظر إلى الأمور بهذا الشكل، أي أن السياسيين يدخلون الحياة العامة لأهداف شخصية فقط، هو أمر مقلق جدا. وهذا أمر يحدث في إسرائيل وفي أماكن أخرى كثيرة في العالم، وهو أن الجمهور يفقد الثقة بالجهاز السياسي وبالقيادة وهذا وضع سيء".
(*) "المشهد الإسرائيلي"- هل النخبة السياسية في إسرائيل فاسدة؟
- رابينوفيتش: "أعتقد أن هذه المقولة تنطوي على مبالغة، بل سأقول أكثر من ذلك. هناك من يقولون إن من يدخل المعترك السياسي إنما يفعل ذلك من أجل كسب المال وجني ربح شخصي قبل كل شيء. وأنا لا أعتقد أن هذا صحيح بالنسبة لمعظم السياسيين بل أعتقد أن غالبية السياسيين يدخلون المعترك السياسي من أجل التأثير ولأن لديهم ما يقدمونه للمجتمع وليس لأنهم يخططون أنه في نهاية الطريق سيغادرون الحلبة السياسية مع أموال، أو على الأقل ليس هذا هو هدفهم المركزي. والأمر الصحيح بالنسبة لإسرائيل، ولأماكن أخرى في العالم، هو أن قواعد الأداء في الحيّز العام والفرامل التي يفترض أن تكون متوفرة في تنظيمات مختلفة، مثل الأحزاب والوزارات وغيرها من التنظيمات العامة الأخرى، ليست متطورة بشكل كاف وهناك ثقافة سياسية في إسرائيل تتعلق بـ"اعتمد عليّ وكل شيء سيكون على ما يرام" وبسبب هذا الوضع فإن الكثير من الأشخاص، ولأنهم قدامى جدا في التنظيم وخصوصا إذا كانوا من بناة هذا التنظيم فإنهم يعتبرون أنهم يملكون حقوقا تاريخية ورويدا رويدا يبدؤون بتعريف مصالحهم الذاتية على أنها مطابقة لمصالح التنظيم. وبالمناسبة، هذا ينطبق على وزير المالية أبراهام هيرشزون الذي أقام جمعية "مسيرة الحياة" لإحياء ذكرى المحرقة وبالنسبة للكثير من الإسرائيليين الذين عانوا ويلات النازية فإن هذه الجمعية تعتبر مشروعا هاما للغاية، لكن لا يوجد في إسرائيل ثقافة تنظيمية بالقدر الكافي لتتم محاسبة رؤساء التنظيمات. وهذا الوضع موجود في كل مكان بما في ذلك الدول العربية وخصوصا في الأراضي الفلسطينية. وأعتقد أن هذا ما حدث لمعظم الفاسدين في السياسة الإسرائيلية. فهم لم يدخلوا للمعترك السياسي من أجل وضع أموال في جيوبهم لكنهم فجأة في جهاز يوجد فيه عدد كبير من الثغرات وكما نعرف فإن الثغرة تستدعي السارق. هناك من يصمدون أمام هذه الإغراءات وهناك من لا يصمدون. من جهة أخرى علينا الاعتراف بحقيقة أنه في الماضي وصل السياسيون إلى النشاط السياسي بعد أن نموا في حركات أيديولوجية، مثل حركة العمل وحركة حيروت وحركة الكيبوتسات والمفدال، وهذه حركات أيديولوجية مع عمق تاريخي معين يمتد على عشرات السنين. لكن اليوم عندما تنظر إلى السياسيين الإسرائيليين فإنك ترى أن هناك عددا قليلا جدا من الذين جاؤوا من بيت أيديولوجي صلب، بغض النظر عما إذا كنت أتفق معهم أم لا".
(*) هل جيل السياسيين الإسرائيليين الحاليين مفتقر إلى الأيديولوجيا؟
- رابينوفيتش: "نعم، هذا جيل يخوض الحياة السياسية بشكل أقل أيديولوجية وأكثر من أجل الذات والتقدم الذاتي، وفي هذه الحالة فإن مخاطر زيادة رصيد حساب البنك ترتفع. هذا أمر يحدث".
(*) هل وضع الفساد هذا يؤدي إلى عدم معالجة أزمات اجتماعية يعاني منها المجتمع في إسرائيل؟
- رابينوفيتش: "بالتأكيد. لأنه إذا كان السياسي منشغلا بنفسه وبتحقيق مكاسب شخصية فإنه من الضروري أن يكون هذا على حساب معالجة قضايا عامة. وطبعا هذا لا ينطبق على كل المجالات، فمثلا الأزمة في مجال التعليم لا تدخل ضمن تبعات الفساد إذ أن وزراء المعارف في إسرائيل كانوا دائما أشخاصا ذوي أجندة سياسية وأيديولوجية واضحة وعميقة وعرفوا بطهارة اليد. من جهة أخرى فإن الفساد في إسرائيل اليوم لا ينحصر بمستوى الوزراء أو أعضاء الكنيست فقط وإنما في المستوى الأدنى منهم مثل المديرين العامين ورؤساء الأقسام، بينهم مدير عام التأمين الوطني ومدير سلطة الضرائب وغيرهما".
(*) ربما الفساد الأخطر هو الفساد الذي كشفت عنه "لجنة زايلر" التي حققت في الفساد داخل سلك الشرطة وأدت إلى استقالة المفتش العام للشرطة؟
- رابينوفيتش: "الوضع في الشرطة مثير للقلق والخوف بأعلى درجة. وأنا خائب الأمل من قسم التحقيقات مع أفراد الشرطة، ورغم أن هذا القسم تابع لوزارة القضاء لكن التعاون بينه وبين الشرطة أكبر بكثير مما يتوجب. وقد توصلت لجنة زايلر إلى نتائج مرعبة وتبين أن الشرطة منشغلة أكثر بالدفاع عن نفسها والتغطية على مخالفات داخلها. وكان هناك حادث وقع مؤخرا في بلدة عراد يعكس جانبا خطيرا من عمل الشرطة. فقد وصلت حافلة بداخلها أفراد شرطة كانوا في رحلة إلى ساحة لغسل السيارات يملكها مواطنان عربيان بدويان من النقب. وتوقفت الحافلة في مكان يحول دون دخول وخروج السيارات إلى الساحة الأمر الذي يعرقل العمل فيها. وقد طلب صاحب المكان من ركاب الحافلة، الذين لم يرتدوا زي الشرطة طبعا، أن لا يغلقوا المدخل. لكن الشرطيين هاجموا صاحب المكان بقسوة كبيرة وشتموه وأهانوه بعبارات مثل "عرب مخربين". وعندها اتصل العربي بشرطة عراد وأبلغ عن الاعتداء عليه. لكن أفراد الشرطة المعتدين قالوا لدورية شرطة عراد التي وصلت المكان بأنهم سيعالجون الأمر وسيجبون الإفادات. وقد جبا أفراد الشرطة المعتدين الإفادات من بعضهم البعض فيما المعتدى عليهم يخضعون الآن لمحاكمة، لأن أفراد الشرطة المعتدين سجلوا مخالفات ضدهم. وأعتقد أن هذا هو مؤشر صارخ لما يحدث في شرطة إسرائيل".
الوضع الاجتماعي
(*) كيف تقيّم الوضع الاجتماعي في إسرائيل؟
- رابينوفيتش: "واضح أن هناك تدهورا راهنًا في إسرائيل على الصعيد الاجتماعي وبكل ما يتعلق بمشاعر التضامن الاجتماعي، أي أننا نعيش سوية وعلينا أن نساعد بعضنا لأننا جيران ونعيش في المكان ذاته ولدينا الاقتصاد ذاته والثقافة ذاتها. لكن يتوجب أن نذكر أن هذا التدهور هو تدهور من مكان مرتفع جدا، أي أن إسرائيل برزت كثيرا في العقود الأولى لقيامها بمشاعر تضامن اجتماعي عميقة جدا، وهذا ما يفسر لماذا بقيت جذابة لليهود ليهاجروا إليها، لأنه كان هنا مجتمع يلتفت إلى الضعفاء فيه ويلتزم تجاههم وهذا الوضع تغيّر الآن".
(*) في السنوات الأخيرة بدأت تطفو ظواهر لم تكن معروفة في إسرائيل من قبل، مثل تصاعد العنف داخل المجتمع وداخل العائلة، وشبيبة تتعاطى المخدرات والكحول بشكل كبير. ما سبب هذا التدهور؟
- رابينوفيتش: "هناك مجموعة أسباب لهذا التدهور. أعتقد أن هذا التدهور ناجم عن وجود أزمة قيادة وعن السؤال حول معنى الحياة في البلاد. ففي الفترة الأولى بعد قيام إسرائيل كان واضحا للجميع أنه كان لهم قسط في بناء المشروع الوطني بعد المحرقة وكل واحد كان يشعر بالانتماء لمجموعة موحدة ومتكتلة وفيها تضامن اجتماعي. لكن في الفترة القليلة الماضية، في العقد أو العقدين الأخيرين، فإن المشاعر أصبحت تجمح نحو الفردية وازداد الشعور القبلي، بمعنى أن كل مجموعة أصبحت منفصلة ومستقلة بحد ذاتها والتضامن الشامل أخذ يتآكل تدريجيا. وهذا الوضع يؤثر على الشبان بشكل أكبر ولذلك فإنهم يجنحون نحو العنف وتعاطي المخدرات والكحول والجريمة".
(*) هل هذا وضع يميّز مجتمعًا في داخله تناقضات كثيرة، ففي الوسط اليهودي ثمة مجتمع مهاجرين، هناك الإسرائيليون القدامى وهناك المهاجرون الجدد...
- رابينوفيتش: "لا أعتقد أن هذا الوضع يجب أن يميّز مجتمع مهاجرين. حتى في المجتمع الأميركي، وهو مجتمع مهاجرين، فإن العنف اليومي هناك ليس مرتبطا بالمهاجرين والعنف ليس بين مجموعات مهاجرين من دول مختلفة. أعتقد أن جزءا من المشكلة في إسرائيل، فيما يتعلق بمشكلة العنف ومشاكل أخرى، هو أن هذا مجتمع مهاجرين لكنه أيضا مجتمع احتلال. إذ لا يمكن التفكير أن الاحتلال يبدأ وينتهي عند الخط الأخضر. فعقلية فرض سيطرة قوتك على أشخاص آخرين تتغلغل داخل المجتمع الإسرائيلي، وفي كثير من الأحيان من دون وعي ومن دون الحديث عن ذلك، لكن في الواقع هذه هي الرسالة التي تقولها الدولة لمواطنيها. إذ يمكنك العيش على حدّ السيف والسيطرة على حياة الآخرين ومصيرهم... ما هو العنف؟ إنه محاولة للسيطرة على مصير الآخر. وأعتقد أن شيئا من هذا يتغلغل في عقلية الاحتلال. والمثير في الأمر هو أن احتلال 1967 يمكن إخفاؤه بقدر أقل مما حدث في العام 1948 والذي يعتبره الفلسطينيون احتلالا أيضا. والرسالة التي تمررها الدولة للإسرائيليين فيما يتعلق بما حدث في 1948 هي أنه يتضمن عنصر الاحتلال لكنه يتضمن بالأساس عنصر الإنقاذ، أي إنقاذ ناجين من المحرقة. ولذلك فإن الإسرائيليين لا يعتبرون ما جرى في العام 1948 بأنه سيطرة على شعب آخر. لكن في 1967 القصة مختلفة تماما. هنا فرضنا إرادتنا على الآخر بشكل علني ونحن نصرح بذلك ولا نخفيه. وهذا يتغلغل في المجتمع الإسرائيلي".
(*) هل يعني ما تقوله أيضا أن الجندي، الذي يخدم في الأراضي الفلسطينية المحتلة، يمارس العنف الذي مارسه ضد الفلسطينيين هناك في بيته، ضد أفراد عائلته وضد أفراد مجتمعه...
- رابينوفيتش: "لا أرى علاقة مباشرة بين عنف الجندي الإسرائيلي ضد الفلسطينيين وعنفه في بيته. لكني أرى في كثير من الأحيان أن الجندي في صفوف الاحتياط يعود إلى البيت وينتابه تأنيب ضمير وربما على أثر ذلك يصيبه ضرر نفسي أيضا. وهذا أمر رأيناه لدى جنود شبان، وهو أن ممارستهم ضمن جيش الاحتلال تؤثر على نفسيتهم حتى بعد سنوات عديدة. لا أعرف إحصائية ما تصادق على ما تقوله بأن من يقضي سنة أو سنتين في الأراضي الفلسطينية يصبح أكثر عنفا داخل عائلته أو مجتمعه. ربما هذا ينطبق على أفراد، لكني أتحدث عن الرسالة التي توجهها الدولة، من خلال سياسة الاحتلال، لمواطنيها ومفادها هو أنه لا ضير في استخدام القوة وبالإمكان تحقيق أمور بالقوة. وبنظري فإن هذه هي خلفية نمو العنف في المجتمع الإسرائيلي".
(*) هناك ظاهرة شبه عنصرية، من جانب السلطات الإسرائيلية ومن جانب المجتمع الإسرائيلي أيضا، تجاه المهاجرين اليهود من أثيوبيا. وتنشر وسائل الإعلام الإسرائيلية باستمرار عن هذه الظاهرة، مثل أن سائق حافلة يرفض صعود أثيوبي للحافلة لأنه أسود أو رفض أخذ وجبات دم منهم. كيف تفسر هذا الأمر؟
- رابينوفيتش: "نعم هذا صحيح. هناك نسبة معينة من المجتمع الإسرائيلي مستوى العنصرية لديها عميق جدا، ويمارسون عنصريتهم وفقا للون البشرة أو الأصل. لكن هذا موجود في كل مجتمع وليس في إسرائيل فقط. واضح أنه بالنسبة للأثيوبيين فإن العنصرية ضدهم هي بسبب لون بشرتهم. وبالنسبة لوجبات الدم فإن الحديث لم يكن على خلفية عنصرية بالقدر الذي كان فيه على خلفية وجود أمراض مثل الإيدز منتشرة في أفريقيا. بالمناسبة هناك أيضا العمال الأجانب الذين تمارس ضدهم عنصرية خطيرة للغاية".
(*) هناك أيضا ظاهرة غريبة جدا رغم أنها في هامش المجتمع الإسرائيلي، وهي وجود حركات نازية صغيرة في إسرائيل. أعضاء هذه الحركات هم يهود. كيف يمكن تفسير ذلك؟
- رابينوفيتش: "نعم هناك حركات نازية على هامش المجتمع اليهودي في إسرائيل. وهذا يثير استهجاننا. يجب أن نذكر أن ثلث المليون مهاجر الذين وصلوا من دول الاتحاد السوفييتي السابق ليسوا يهودا، وهناك آخرون هم نتيجة زواج مختلط. وفي كثير من الأحيان فإن هؤلاء كانوا في الدول التي قدموا منها يقومون بالتغطية على هويتهم غير الواضحة من خلال الانضمام للطرف الآخر ويحاولون تطهير أنفسهم مما يعتبرونه وصمة اليهودية من خلال الانضمام للطرف الآخر. وهذا يذكرني بأحد أبناء عائلة فلسطينية عريقة من الخليل تهود وانضم إلى مجموعة كهانا العنصرية المتطرفة وسكن في مستوطنة كريات أربع. هناك ظواهر كهذه وهي لا تظهر كثيرا لأنها غريبة ومستهجنة للغاية. وهذه الحركات النازية تستمد أفكارها من الحركات المعادية للسامية الموجودة في روسيا اليوم وفي أماكن أخرى في أوروبا الشرقية وتتميز بأفكار قومية متطرفة جدا".
المهاجرون الروس
(*) المهاجرون من دول الاتحاد السوفييتي السابق لم يندمجوا بشكل جيد في إسرائيل.
- رابينوفيتش: "هناك مجالات كان اندماجهم فيها جيدا وهناك مجالات لم يكن اندماجهم فيها جيدا. فقد اندمجوا جيدا في مجال العمل، لكن من الناحية الاجتماعية والثقافية لم يكن الاندماج جيدا. لكن يتوجب الانتباه إلى أن هذه أكبر موجة هجرة، وقد وصل المهاجرون لإسرائيل خلال فترة قصيرة. فنحن نتحدث هنا عن وصول مليون مهاجر خلال سنتين. وهذا أدى إلى تقوقع هؤلاء المهاجرين لأنهم يشكلون مجموعة كبيرة بشكل كاف لصدور حوالي 15 صحيفة باللغة الروسية وإنشاء منتديات أدبية وعمليا بناء مجتمع مستقل عن المجتمع الإسرائيلي العام. إضافة إلى ذلك فقد وصل هؤلاء المهاجرون إلى هنا مع شعور بالتفوّق الثقافي على الإسرائيليين وفق منظور استشراقي، أي أن الإسرائيليين هم شرق أوسطيون. لقد جاؤوا مع استعلاء على الشعوب الآسيوية والعالم العربي وعلى اليهود الشرقيين أيضا وكان التقوقع بالنسبة لهم حالة مريحة. هذا الوضع كان صحيحا بالنسبة للمهاجرين الكبار في السن لكن الوضع يختلف في بعض النواحي بالنسبة للشبان رغم أن الأخيرين حافظوا أيضا على هويتهم الروسية".
(*) لكن استطلاعات رأي نشرت مؤخرا في إسرائيل أظهرت أن 80% من المهاجرين الروس لا يحتفلون بالأعياد الوطنية الإسرائيلية، مثل يوم الاستقلال، وإنما بالأعياد الدينية فقط، مثل الفصح اليهودي، كذلك أظهرت دراسة أعدتها وزارة استيعاب المهاجرين أن هناك عشرات الألوف من هؤلاء المهاجرين الذي غادروا إسرائيل خصوصا إلى الولايات المتحدة وكندا. ألا تدل هذه المعطيات على أنهم لم يندمجوا في إسرائيل؟
- رابينوفيتش: "أعتقد أن عدد الذين غادروا إسرائيل من المهاجرين الروس أكثر من عشرات الألوف. وبالمناسبة فإن هذا ينطبق على كل موجة هجرة وصلت إلى إسرائيل منذ بداية الصهيونية. وهذا يدل فعلا على أن الكثيرين من المهاجرين الروس لم يندمجوا في إسرائيل. من جهة ثانية، فإن نسبة كبيرة من المهاجرين من دول الاتحاد السوفييتي السابق لم تكن إسرائيل لهم المكان المفضل للعيش فيه. وقد كانت إسرائيل المكان الذي سمحوا لهم بالوصول إليه بسهولة، لكنه ليس بالضرورة نهاية الطريق بل كان مجرد محطة للتوجه لدول أخرى. والأمر الأبرز في موجة الهجرة هذه مقارنة بموجات الهجرة الأخرى لإسرائيل منذ قيامها هو أنه لم يكن هناك تفاعل ثقافي مع المكان الذي وصل إليه المهاجرون".
العرب في إسرائيل
(*) تميّز دولة إسرائيل ضد المواطنين العرب وحتى أنها تقمعهم، من الناحية السياسية على الأقل. والدليل الأبرز على ذلك مؤخرا هو تصريح رئيس الشاباك، يوفال ديسكين، بأن العرب في إسرائيل هم "الخطر الإستراتيجي الأكبر على إسرائيل في المدى البعيد". ما رأيك بهذا التصريح وإلى أين ستقود هذه السياسة؟
- رابينوفيتش: "هذه التصريحات ليست جديدة وقد قيلت في الماضي داخل الأطر الأمنية الإسرائيلية. ففي مؤتمر هرتسليا الذي يعنى بالمناعة السياسية والمدنية والقومية في إسرائيل تبرز مثل هذه المقولات. ولا أعتقد أنه يوجد تجديد خاص في تصريحات الشاباك. ولا تنسى أن مهمة الشاباك هو العمل في مجال المخابرات الداخلية، وقد تم توجيه الكثير من موارده إلى داخل الدولة منذ اتفاق أوسلو. كذلك فإن كل رئيس جهاز مثل الشاباك يحاول إثارة إعجاب رؤسائه بأن يقول إن مجال عمله هو الأهم، ولذلك فإن المطلوب رصد موارد أكثر لهذا التنظيم. لذلك فإن هذه الأقوال لم تثر انطباعا خاصا لدي. إضافة إلى ذلك فإنه منذ النشر عن الموضوع حاولوا نفي هذا التصريح والقول إن الاقتباس لم يكن دقيقا. لكن السياسة الرسمية لإسرائيل تجاه العرب ما زالت سياسة تجاهلهم وإهمال معالجة قضاياهم أكثر منها ملاحقة سياسية أو ما شابه. وما نراه في العقد الأخير هو أن هناك محاولة، تنطوي على إشكالية كبيرة، للتفريق بين الجمهور العربي وقيادته وإظهار القيادة، خصوصا أعضاء الكنيست العرب وليس هم وحدهم فقط، وكأنهم معزولون عن جمهورهم. هذه السياسة تذكر بسياسة إسرائيل تجاه الفلسطينيين وراء حدود الدولة، أي محاولة تحديد من يمثل الفلسطينيين أو التفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية أو لا، أو أن يكون هناك وفد فلسطيني مستقل أو وفد ضمن الوفد الأردني. ورغم أن كل هذا هو كلام فارغ إلا أنه ينطوي على أهمية سياسية عميقة لأنه يمكن السلطات الإسرائيلية من اتخاذ إجراءات شديدة ضد قياديين لا يعجبونها وهذا يزيد الوضع سوءا ويثير مشاعر لدى العرب بأن قيادتهم ملاحقة وبالتالي فإن كل الجمهور العربي ملاحق، وفي المقابل فإن هذه السياسة لا تحقق أي هدف حقيقي".
(*) ربما كان هناك جانب آخر وهو التخويف، لأنه إلى جانب تصريح رئيس الشاباك كان البحث لدى رئيس الحكومة ايهود أولمرت حول وثائق أصدرتها هيئات عربية داخل الخط الأخضر، مثل "التصور المستقبلي للجماهير الفلسطينية في إسرائيل" الذي أعدته لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في إسرائيل و"الدستور الديمقراطي" الذي أعده مركز عدالة القانوني وغير ذلك. والمشترك بين هذه الوثائق هو أنها تطالب بدولة المواطنين وباستقلالية ثقافية وتعرّف الأقلية العربية في إسرائيل بأنها فلسطينية. كمن بحث في قضايا العرب في إسرائيل، ما هو رأيك في هذه الوثائق وهل تضمنت رؤيا جديدة لوضع العرب في إسرائيل؟
- رابينوفيتش: "في العام 1993 نشرت بحثا حول مصطلح "عرب إسرائيل" ولماذا يتوجب عدم استخدام هذا المصطلح. والصيغة الأصح لتسمية هذه المجموعة السكانية هي: الفلسطينيون مواطنو إسرائيل، حتى لو كانوا هم أنفسهم يخشون هذا التعريف في تلك الفترة. لكني أعتقد أن غالبية العرب في إسرائيل يفضلون اليوم أن يتم وصفهم بالفلسطينيين مواطني إسرائيل وليس بوصف آخر. والفرق الحاصل منذ 1993 وحتى اليوم في هذا المجال هو جواب للسؤال الذي طرحته. لا أعتقد أن هناك تغيرا في مسألة الهوية، لكن ما حدث هو أنه أصبح لديهم استعداد أكبر للتصريح بذلك بوسائل ثقافية وللتعبير عن هذه الهوية بنصوص والتداول فيها وبثها للخارج. ولا شك في أن هذا التطور مرتبط بظهور أحزاب عربية جديدة. فحزب التجمع الوطني الديمقراطي وأحزاب أخرى تقول ذلك بصورة أوضح وأقل مراوغة. والسؤال هو كيف يتعامل اليهود مع ذلك، هل هناك تغير عميق لدى العرب أم كما أرى أنا ذلك وهو أن العرب قادرون على التحدث بشكل أوضح حول ما كانوا في الماضي يسكتون عليه؟. كانوا يسكتون على طرح قضايا عديدة في مقابل أن تقول لهم السلطات: أنتم عرب إسرائيل وأنتم مواطنون مخلصون للدولة وأنتم إخوتنا وحلفاؤنا. واليوم العرب لا يوافقون على ذلك بل هم اليوم جيل منتصب القامة وليسوا "عربا جيدين"، وهذا الوضع بحد ذاته لا يحولهم إلى مجموعة يتوجب أن تقلق أحدًا. إلا أن الجهات الأمنية ترى الأمور بشكل مختلف وتعتبر أن انتصاب قامتهم يشير إلى نشوء وضع جديد يتوجب أن يثير القلق. وأنا أعتقد أن هذا التوجه ليس مبررا".
(*) هل تتخوف الأجهزة الأمنية من اندلاع مواجهات مع العرب في إسرائيل على غرار أكتوبر 2000؟
- رابينوفيتش: "هذا التخوف موجود دائما، كنتيجة لأوضاع العرب في إسرائيل وخصوصا في النقب أو في حال وقوع أحداث في الأراضي الفلسطينية. الوضع ليس مستقرا ولا أحد يناقش في ذلك. كذلك فإن لدى السلطات الإسرائيلية قدرات كبيرة للقيام بأعمال استفزازية، ومن جهة أخرى هناك جهات بين الأقلية الفلسطينية تصر على مواقف تعتبرها السلطات متطرفة وقد تقود لاندلاع مواجهة".
الفجوات الاجتماعية
(*) دائرة الفقر في إسرائيل آخذة بالاتساع. لماذا؟
- رابينوفيتش: "السبب هو انتهاج سياسة اقتصادية أصولية وليبرالية جديدة وغير متوازنة بالمطلق. والمكان الوحيد الذي يتم انتهاج سياسة اقتصادية أكثر وحشية من إسرائيل هو الكتلة السوفييتية السابقة. وفي إسرائيل يجري انتقال سريع للغاية من اقتصاد مركّز في أيدي السلطة إلى أيد خاصة ومن اقتصاد منظم ومخطط له إلى اقتصاد السوق الحرة، رغم أنه بنظري هذا اقتصاد ليس حرا بتاتا. كما نشهد انسحاب الدولة من كل مجالات الرفاه الاجتماعي، دولة الرفاه آخذة بالاختفاء في إسرائيل".
(*) كيف ترى ظاهرة الملياردير أركادي غايداماك الذي نقل آلاف المواطنين من شمال إسرائيل إلى وسطها وجنوبها في حرب لبنان الثانية ونقل آلاف سكان سديروت للاستجمام في إيلات هربا من صواريخ القسام، ويموّل احتفال يوم الاستقلال في تل أبيب الذي شارك فيه 200 ألف شخص، وغير ذلك من النشاطات.
- رابينوفيتش: "غايداماك يجني أفضل أرباح من هذا النشاط. فهو يصرف، فرضا، 50 مليون شيكل أو 100 مليون شيكل في السنة على نشاطات خيرية براقة، لكنه يوفر مبالغ أكبر بخمسة أضعاف أو أكثر كان عليه دفعها لسلطات الضرائب لو تمت مطالبته بتبييض الأموال التي ربحها من تجارة المجوهرات وغيرها في أفريقيا. لقد وجد غايداماك حلا عبقريا بالنسبة له...".
(*) وهذا النشاط الخيري يجعل السلطات تسكت ولا تطالبه بالتصريح عن دخله؟
- رابينوفيتش: "نعم هذا النشاط يجعل السلطات تسكت عنه ولا شك لديّ بتاتا في ذلك. فالسلطات تحب الأعمال الخيرية وخصوصا أنها نشاطات لم تشهد إسرائيل مثيلا لها في الماضي. كذلك فإن هذا نشاط خيري تكمن فيه قدرة سياسية ولذلك فإن السياسيين يظهرون كمن يساعدونه في خطواته هذه. لقد وجد غايداماك في إسرائيل مسارا جديرا من الناحية المالية وفي الوقت ذاته يوفر له هذا المسار أسهم من الشعبية والأداء القانوني الذي لم يحلم به. وعلى هذا سيدفع المجتمع الإسرائيلي ثمنا باهظا. فهناك أشخاص في إسرائيل يعتقدون أنه بسبب هذا الوضع فإن غايداماك يستحق أن يكون رئيسا للحكومة. وهذا يعيدنا إلى بداية حديثنا وهو أنه إذا فقد الجمهور الثقة بالسياسيين فإنه لا يوجد أي سبب لكي يوافقوا على منح ثقتهم لشخص مثل غايداماك وخصوصا أن كل سياسي يصرح أنه سيحقق لجمهوره شيئا مشابها لما يفعله غايداماك".
(*) هل يمكن لمشروع "دولة اليهود" أن يستمر في العيش بوضع كهذا سنين طويلة؟
- رابينوفيتش: "الجواب هو لا. يجب أن يتغيّر شيء ما هنا. والسيناريو الذي أرغب بأن يتحقق هو أن تتوقف هذه الدولة عن العيش على حدّ السيف وأن تكتشف مجددا التضامن الاجتماعي داخل اليهود ليكون التضامن بين اليهود والعرب فيها ممكنا. وأن تجد هذه الدولة نفسها في الشرق الأوسط. وينتابني القلق إذا ما استمررنا على الحال الراهنة بضع عشرات من السنين. من جهة أخرى، فإننا نتجه بسرعة كبيرة، خلال العشر أو العشرين سنة المقبلة، نحو العيش داخل عالم تكون التهديدات الكبيرة عليه هي تهديدات بيئية. وأعتقد أن تزايد سخونة الكرة الأرضية سيغيّر بشكل كبير شكل تعاملنا السياسي والعلاقات داخل الدول وفيما بينها. لا أقول إن القضايا العرقية والصراعات بين الدول والمجموعات البشرية ستختفي، لكن إدارتها ستكون متأثرة من المخاطر البيئية الكونية بشكل يصعب توقعه الآن. وربما سيدفع هذا الوضع الإسرائيليين والفلسطينيين إلى التعاون أو تنشب في المنطقة حروب على المياه أو غير ذلك".